الدكتور عبد الجبار الجومرد وفلسطين
الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
الدكتور عبد الجبار الجومرد وفلسطين الدكتور عبد الجبار محمد شيت عبد الله الجومرد (1909-1971 م) سياسي وشاعر ومؤرخ عراقي، حاصل على شهادتي دكتوراه من فرنسا: واحدة في القانون والأخرى في الآداب.
اشتغل بالمحاماة بعد عودته للعراق، وكتب مقالات سياسية في الصحف كان لها تأثيراً كبيراً في مختلف شرائح المجتمع، وله قصائد وطنية اشتهرت في العالم العربي.
نشر الدكتور الجومرد كتابه الموسوم " مأساة فلسطين العربية" في باريس سنة 1945، وهو كتاب باللغة الفرنسية، وكان ذلك الكتاب هو أول عمل عربي عن فلسطين باللغة الفرنسية.
طُلب الدكتور الجومرد استاذاً في كلية الحقوق، إلا انه فضّل العمل في الجامعة العربية، فسافر إلى القاهرة لاستلام عمله عام 1946، وعُين سكرتيراً للجنة السياسية فيها، ثم استقال منها عام 1948.
اُنتخب الجومرد نائبًا في مجلس النواب ثلاث مرات (في انتخابات 1948، 1952، 1954)، وكان نائبا وطنيًا نزيهًا وشجاعًا في معارضته للانحراف السياسي والإداري، وقد لعب دوراً مهماً في الجبهة الشعبية التي ضمت الأحزاب القومية والتقدمية بين عامي 1951 و 1953.
لقد كان الجومرد خَطِيبا مُفَوَّهٌا وشاعرا مشهودا له، وبعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، اُختير الجومرد كأول وزير خارجية للعراق في العهد الجمهوري. وقد القى كلمة الجمهورية العراقية في الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 1958/8/18، وكانت الكلمة باللغة الفرنسية وذلك لكون اللغة العربية لم تكن من اللغات المعتمدة آنذاك في الأمم المتحدة. وقد استقال الجومرد من الوزارة في 1959/2/7 وعاد الى مدينة الموصل وانشغل بالتأليف حتى وافاه الاجل عن عمر يناهز 62 سنة.
https://www.youtube.com/watch?v=njO1MLm7a1U
ولد عبد الجبار الجومرد في محلة (حوش الخان) بالموصل من عائلة كريمة، والده الأديب والشاعر محمد شيت الجومرد (1850-1925م) وشقيقاه: المُربي والكاتب المعروف الأستاذ محمود الجومرد (1911-1995)، ومقرئ القرآن عبد الفتاح الجومرد ( 1920-1984) والمُلقب ( بدر القُراء).
النبوغ الوطني المبكر:
بعد خروج العراق من تحت السيطرة العثمانية برزت ظاهرة إلقاء القصائد الوطنية في المدارس في بداية الدوام وفي الاحتفالات الرسمية. ومن القصص الشهيرة بهذا الخصوص ما رواه الدكتور عبد الجبار الجومرد وهو في السادسة والأربعين في مذكراته.
ففي سنة 1921 طلب منه مدير مدرسته القحطانية الابتدائية الأستاذ (عبد العزيز أفندي النوري) إلقاء قصيدة في حفل خطابي يحضره وجهاء المدينة والحاكم العسكري البريطاني في الموصل.
لم يقتنع الطالب الصغير عبد الجبار الجومرد بقصيدة المدير، بل وجد قصيدة أخرى ترثي شهداء العرب الذين شنقهم جمال باشا السفاح سنة 1916، فأعجبته القصيدة وراقت له. فاستشار مُعلمه الوطني المعروف الأستاذ (يحيى بن عبد الواحد)، والمعروف باسم (يحيى قاف) والمشهور في عامية الموصل بصراحته وشجاعته، وكانوا يقولون عنه: (يحيى قاف.. يحكي وما يخاف)، فشجعه مُعلمه على أن يقرأ القصيدة المُختارة بدل قصيدة المدير.
وفي يوم الحفل فوجئ المدير والجمهور الكبير من وجهاءه المدينة ورجالها وبحضور عدد من الإنكليز بالطفل عبد الجبار الجومرد ابن الاثني عشر سنة وهو يقرأ القصيدة بعاطفة مفتعلة، سرعان ما تحولت حقيقية، وأخذ ينتحب وهو يقول على لسان فتاة عربية فَقَدتْ شهداء من أسرتها:
فقالتْ واذرتْ لؤلؤ الدمع عسجدا... ببحةِ صــــــــــــوتٍ للقلوبِ تُمـــزقُ
لقد لعبتْ أيدي الزمان بجمــــعهم... فلم يَحوهم غربٌ هناكَ ومشرقُ
فعم البكاء وسط الجمهور، وَتَمَلك الانكليز القلق من تطورات الأمر، ومضى ما تبقى من الاحتفال في جو كئيب.
وفي اليوم التالي نُفِيَ الأستاذ يحيى عبد الواحد إلى النجف الأشرف بعد فصله، واُبعد أستاذ وطني آخر من معلمي المدرسة وهو الأستاذ عبدالرحمن صالح إلى الكوت… وكاد الطفل عبد الجبار الجومرد أن يُفصل من المدرسة، واقتنع والده أن يُبعده عن المدرسة التي نُفِيَ معلموها بسببه.
وبعد تركه المدرسة عاد الجومرد بتأثير مديرها السيد النوري، الذي اقنع والد عبد الجبار، بعد فترة من الزمن أن العاصفة قد هدأت ويمكن للطفل إن يعود؛ ولكن عليه الحذر.
وبعد خمسة عشر سنة من الحادثة، كان الجومرد قد طور امكاناته الشعرية وعاش مشاركا في أحداث العراق السياسية بعواطفه وشعره وقلمه، وقد تخرج من كلية القانون في دمشق محاميا، بعد أن فُصِلَ لأسباب سياسية من كلية القانون في بغداد مع نخبة من زملائه بعد غلق الكلية.
وفي احدى المناسبات الخاصة بالقضية الفلسطينية سنة ١٩٣٣، ألقى الجومرد (الطالب بمعهد الحقوق وقتئذ) إحدى قصائده على مدرج الجامعة السورية، وصوّر فيها حال فلسطين وهي تواجه المطامع الصهيونية وما يقاسيه الشعب الفلسطيني من أحزان وآلام :
تبيت تسامر أحزانهــــا وقد قرح الدمع أحزانها
لها في سكون الدجى أنة يعيد صدى الكون ألحانها
ومن المواقف الشعرية المشهودة لعبد الجبار الجومرد أنه ألقى قصيدة في ٢٨ تموز ١٩٣٣، أمام تجمع حاشد من أبناء الموصل في الجامع النوري الكبير، تضامنا مع عرب (وادي الحوارث) في فلسطين، حيث أخرج الصهاينة أهل القرية من قريتهم، وكان للقصيدة صداها الكبير في العالم العربي، إذ يقول فيها:
مَنْ سامعٌ فأبثُّ شكوى لم تزلْ... بين الضلوعِ دفينةً آلامُها؟
لم أخشَ إذ قلتُ الحقيقة ناقدًا... أو لام فيما قلتُه لُوَّامــــها
إنا تعوَّدنا الكلام فألـــــــــسنٌ... ثرثارةٌ في الكِذْب بات غرامها
فِرَقٌ وأحزابٌ يُحطّم بعضــها... وجرائدٌ مأجورةٌ أقلامُـــــها
يتطاحنون لمقصدٍ أو مأربٍ... ولـــكلّ نفسٍ غايةٌ ومَرامـــها
علماؤها غضُّوا الجفونَ على القذى... وسعى لكل بليَّةٍ حُكــــامها
ولرُبَّ مَن زعمَ البناءَ لأمةٍ... نسِيَ الحقيقةَ أنه هـَــــــدّامها
لا تفخروا كانتْ وكان لواؤها... طُوِيَ الزمانُ، ومُزِّقت أعلامها
أمّا البيوتُ فقُطعِّت أطنابها... وتقوّضت يومَ الرحيل خيــــــــامها
هذي فلسطينٌ تسيل جروحها... وكذا يئنّ عراقها وشـــــــــــــــآمها
في كل يومٍ نكبةٌ وكأنما... خُلقت موارد حـــــــــــــسرةٍ أيامها
وبعد عشر سنوات كان الجومرد قد نضج فكريا وسياسيا وشعريا، وخلال السنوات العشر كان قد سافر إلى فرنسا. وعندما وصل الجومرد باريس ليتم دراسته القانونية للدكتوراه في جامعة السوربون، أسهم هناك مع طلبة عرب جلهم من المغاربة في تكوين جمعية نصرة فلسطين.
وهناك في باريس أنجز الجومرد عمليه الأوليين في القانون والأدب: فبعد أن نال الدكتوراه من جامعة السوربون (Sorbonne) الباريسية رفيعة المستوى، وبإشراف كبير أساتذة القانون الدولي في جامعة باريس حينها سنة 1941 عن أطروحته عن الدستور العراقي، باشر العمل على دكتوراه أخرى، حيث أنجز أطروحته في تاريخ الأدب العربي الإسلامي، وكان عنوانها (الأصمعي: حياته وآثاره).
علما أن الجومرد كان قد بدأ عمله عن الأصمعي بإشراف المستشرق الفرنسي (ريجيس بلاشير) الذي كان موظفا في الإدارة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر المستعمرة المناضلة، وقد ذكر الجومرد في مذكراته إنهما لم يتوافقان؛ فطالب إبدال المُشرف وباشر عمله مع المستشرق (شيفالية) الذي عاش في الشام وأحبها.
وفي فرنسا أيضا كان الجومرد زميلا وصديقا لملك المغرب الحسن الثاني (1929-1999) والذي بقي وفياً للجومرد، وقد أوفد السفير المغربي في بغداد لحضور مجلس عزاء الجومرد عند فاته.
وبعد أن أنهى إقامته في باريس، قام الجومرد بتأليف كتاب (مأساة فلسطين العربية) باللغة الفرنسية ونشره أثناء الحرب العالمية الثانية في باريس عام 1945، وهو أول عمل عربي عن فلسطين بالفرنسية. عاد الجومرد بعدها إلى الوطن بعد أن شهد وقائع الحرب العالمية الثانية في فرنسا، وانهزام فرنسا على يد النازية، واحتلال باريس، ثم تحريرها سنة 1944.
بعد عودة الجومرد إلى العراق بقي يكافح في سبيل القضية الفلسطينية في جامعة الدول العربية، حيث تم تعينه ممثلا للعراق لعدة سنوات، كان خلالها صاحب فكرة إنقاذ أسد المقاومة المغربية الجزائري الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي من السفينة الفرنسية والتي كانت تنقله إلى منفاه.
كما مثّل الجومرد العراق في الأمم المتحدة سنة 1948، عند إعلان الكيان الصهيوني في فلسطين، وله في مذكراته حديث مطول عن ذلك. وظل الجومرد إلى آخر لحظة في حياته يكتب ويتابع وينظم الشعر من أجل القضية الفلسطينية.
رحم الله الدكتور عبد الجبار الجومرد أبا وافر وأثيل وجزيل، والذي كان من أعز أصدقاء المرحوم والدي يونس ذنون الخياط.. فقد كان شخصية نادرة قلَّ أن يجود الزمن بمثلها، وقد ظلمته حالة عدم الاستقرار في بلده، ولم يأخذ الموقع الذي كان يستحقه.
(مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (الأحزاب: 23).