قراءة في نصوص الشاعرة غربة قنبر - ثنائية الوطن والحب والفرح المؤجل
محمد حسين الداغستاني
قراءة في نصوص الشاعرة غربة قنبر- ثنائية الوطن والحب والفرح المؤجل
بفيض من التلقائية ، وببساطة متناهية وانسيابية وئيدة ، تلج بنا الشاعرة غربة قنبر الى عوالم سخية بالمشاعر الحية والمعاناة المفعمة بتجليات الوطن الموجوع والحب الآفل، وتداعيات الغربة عبر نصوصها الشعرية المبثوثة بين دفتي مجموعتيها الصادرتين في القاهرة (رهن التحقيق الاول - ٢٠٢٠) و(لست إمرأة عابرة - ٢٠٢٢ ). في مسعى تعكس خلالها فاعلية نفسية مرهفة تستمد من الواقع رؤاها ، ومن تجربتها الحياتية الغنية وسيلة للافصاح عن خلجات تؤرقها وتجسدها حروفاَ تقطر لوعة بأسلوب يتسم بالمباشرة والحزن في مسار لا يختلف كثيرا عن السمة الشائعة في أغلب النصوص الشعرية النسوية الحديثة في كركوك .
ورغم اللغة الواضحة والتناول الشفيف للمسائل المثارة في النصوص، فشاعرتنا تبسط مساحة واسعة من شعرها لثنائية الوطن والحب دون أن يفقد المحتوى نبضه الرومانسي المفعم بالخيال والعنفوان، والمقرون بلقاء مستحيل وفرح ضائع :
كلما فاح عطر ذكراك
أود أن أضيفك يوما
الى اليوم الثامن من الأسبوع
وفرحتك المؤجلة كمواسم الفرح في وطني
متى يعلن قدومها ؟
متى تكسر قضبان سجني..
وأنعم كالعصافير بجناحين..
وريش مخضب بدم ساخن؟
فرحي أنت أحد أسبابه
تعطر ناصية أيامي .
وعتبة قلبي وشرفات عيني مزهوة بك
وحزنك في أعماقي كامن
فمتى ياترى أحظى بوصلك. أغداََ ؟
ومن منا للغد ضامن ؟
فتمر عجالة في دروب أمنياتي
وإناء صبري مكسور يبحث في ليل صدك
عن حجر آمن !
وليت الأمر يقتصر على الأمنيات ، فالدروب مقفرة ، وانفاس المارة ترصدها أعين الرقباء والعسس الذين يكمنون في الزوايا الخالية ويغتنمون الفرص لكبت الفرح المحال والذي لن يتبرعم على الشفاه الا بتغيير الأحوال :
أعيد ترتيب قدح الشاي
ومع أول قطعة جبن بنكهة ضحكتك
رأيت إعلان حظر التجوال
للقبض على كل من يتناول جبنا
أو حلوى بنكهة الضحك
أو يفرح في وطني دون تغيير الأحوال.
وتمضي غربة في مزج مدهش بين تطلعات القلب الملهوف لنبضة ودٍ من الحبيب وبين تطلعات الفقراء والمهمومين من أبناء الوطن بكلمات بسيطة في الظاهر ، لكنها معبرة ونافذة ترقي بقدرتها على توظيف الصورة الشعرية للنص لكي يفيض بأحزان الناس اليومية ومظاهر١2 معاناتهم للظلم والتعسف :
خذ بقايا قلبي
ووزع القطع الاخيرة منه…
كي تكون حروفي في متناول الفقراء
على الواقفين في طوابير الخبز
والمتلهفين على الأحر من الجمر
لنبأ عودة أبنائهم من المنفى
على العشاق الحالمين بعش تجمعهم
خذ الجزء المعافى منه لأيتام بلادي
وامنحني النبضة الأولى …
حينما رأيتك !
ورغم قتامة السماء ، فالشاعرة في لحظة آسرة تتخطى تداعيات حزن المواسم المرّة وتستعين بدفقها العاطفي فتلون بارقة الحب في حضرة العراق وتتحدث إليه بعذوبة العاشق موحية بأن الأمل المعطل سينحسر لتروي عطشها المقدس ببزوغ فجر الفرح من جديد :
تراب العراق في عطش
كي تلثم بحروفكَ جسده الطاهر
يحمل عبق أنفاسكِ المسجاة بالورد والرياحين
مطرزا بكلماتكِ الني أقترن بها إسمك.
وقصيدتك التي لم تكتمل
عن حبك الأبدي للعراق
تنتظر بزوغ شمس حرفك
قبل المآق .
رموز التأريخ الملهمة
وفي مسعىً لتعزيز بنية النص التجأت ض الى استدعاء الشخصيات التأريخية والتراثية كالنبي أيوب والحلاج وأبن المقفع باعتبارها وسيلة تعبيرية مهمة قاصدة بذلك تشكيل رؤيتها الشعرية وإثراء المضمون في محاولة لإضفاء سمات تقنية الاستدعاء لتحقيق بؤرة جذب للمتلقي وتكوين الصورة الشعرية التي تجسد مدلولات الصبر والاحتمال والألم المضني المتمثل بسير الشخصيات الثلاث التي تمثل أقسى درجات المكابدة وبالاخص انتقائها للفيلسوف عبدالله ابن المقفع الذي عذب بطريقة بشعة حيث ربطوه وبدأوا بتقطيع أجزاء من جسمه ، ثم أرغموه على أكل لحمه ثم قطع أطرافه وصلبه وتركه الى صباح اليوم التالي وهو يبدي جلدا و صلابة واحتمالا يتجاوز قدرة الانسان وبهذا الإستذكار الرهيب تحقق الشاعرة الدفقة الشعرية ذات الطابع الدرامي الذي لون حركة النص ومثيراته الدلالية :
أدمنُ ليل الغربة بقنطار صبر
اغدو كأيوب النبي
ينزف جرحي الندي
اصرخ اين الحق
كالحلاج وابن المقفع ؟
فبقطع أوصالي أزداد صبرا
ولن اجزع !!
من هذه السوداوية التي تؤطرالواقع المبهم والحالك تستعين غربة بالحلم للتهرب منها وتستلهم حركة يد الحبيب على الكتف في دالة مفعمة بالحنان وهي ذات يد الوالد التي ترمز للأمان ، ولا شك أن هذا التناص بين اليدين تشكل طاقة فريدة في لغتها الشعرية والتي تضفي على النص ألقاً وجمالاً سلساً يشعر المتلقي بقرب كبير من النص و يضعه في دائرة المشاركة الوجدانية :
ويدك الرابضة على كتفي
جيش قادم من عهد ولى
يسترجع ايام مجده
حينما كان صبيا
ولم استفق من الحلم
الا حينما لمست يدك
وكانت حنونة مثل يد ابي !!
الا أن الحبيب يخيب ظن الحلم الغريد ، ولا يقل قسوة عن الظروف الجاثمة على حبيبته ، بل أنه يمضي في صده الى نحو غير متوقع رغم أرق الكلام وأجمل البوح :
كلما أضع رأسي على الوسادة
أثور على كل مؤامرات الاحلام
التي تحاول إقناعي
منذ الولادة
إن رؤيتك في الاحلام
طقس من طقوس العبادة.
و ...
أبعثر تويج الازهار
على دربك كي تعثر بها
ويمتلئ المكان بعطرك.
ولكن… .
كنت دوما أتوقع أن ينصفني حكمك
إلى أن أحيلت أوراقي
إلى دار إفتاء قلبك
فكان الحكم علي شنقا.
وفي خضم هذا البوح الصادم أحيانا والعذب أحيانا أخرى تجمع غربة نصوصها بين السلاسة وبين الوضوح القريب من السرد وبين الخيال الجامح الذي يكد لادراك عالم سحري مطلق لكن المحصلة في النهاية وطن موجوع وحبيبٌ غائب وأمانٌ مفقود !