رسائل من كاروم كانيش بين التجار الاشوريين وزوجاتهم (١٨٧٠-١٨٦٠) ق.م
بقلم
الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2023
رسائل من كاروم كانيش
بين التجار الاشوريين وزوجاتهم
(١٨٧٠-١٨٦٠) ق.م
خريطة توضح موقع مدينة آشور (حاليا قلعة الشرقاط)على نهر دجلة وموقع كاروم كانيش في تركيا حاليا
ساهمت المرأة الآشورية في شبكة التجارية المزدحمة والضخمة من خلال إنتاج المنسوجات الصوفية لغرض التصدير، وتقديم القروض للتجار، وشراء وبيع المنازل، والاستثمار في مشاريع التجارة الخارجية ، وسمحت لهم مهاراتهم كنساجين بكسب الفضة الخاصة بهم، لقد راقبوا عن كثب الموضات الأجنبية والبضاعة المطلوبة واتجاهات السوق لتأمين أفضل الأسعار، فضلاً عن الضرائب والتكاليف الأخرى التي أثرت على أرباحهم، يقول الباحث (Jan Gerrit Dercksen) عالم آشوريات في جامعة ليدن(Leiden) في هولندا (Netherlands) والذي عمل أيضا على ألواح كانيش: (لقد كانت التجارة الاشورية ضمن شبكة دولية ضخمة، وفي اماكن متفرقة، فقد استورد من أفغانستان (Afghanistan) حجر اللازورد، والعقيق من باكستان (Pakistan)، وربما جاء القصدير من إيران (Iran) أو حتى من اقصى الشرق، وكان التجار الأجانب يجلبون هذه البضائع إلى مدينة آشور، كما يتم جلب المنسوجات الصوفية من بلاد بابل في جنوب العراق، ويتم بيعها إلى الآشوريين الذين بدورهم يرسلونها في قوافل متجهة إلى كاروم كانيش ومدن أخرى في منطقة الأناضول في تركيا، حيث يتم بيعها مقابل الذهب والفضة.
وقد سهلت هذه التجارة التبادل المالي وبشكل معقد، مثل النارقوم (naruqqum) الذي تعني حرفياً (كيس النقود) (bag)، وهي اشارة إلى شركة مساهمة قام فيها المستثمرون الآشوريون بتجميع فضتهم لتمويل القوافل التي يقودها التجار على مدى سنوات عديدة، كما طور التجار أيضا لغة تجارية مفعمة بالحيوية، فمثلا (مات اللوح) (The tablet is dead) ويعني تم سداد الدين وبالتالي تم إلغاء العقد المكتوب على اللوح الطيني، كما تشير عبارة (الفضة الجائعة) (Hungry silver) إلى الفضة التي لم يتم استثمارها ومن ثم لا تحقيق الربح.
على اية حال عثر على رقيم طيني كتب عليه رسالة غضب من والدي امرأة آشورية تدعى زيزي (Zizizi)، وهذه الفتاة مثل العديد من الفتيات في مدينة آشور، تزوجت في سن مبكر وبإخلاص من تاجر آشوري في وقت ما من عام (1860) ق.م تقريبا، وسافرت معه إلى كاروم كانيش (Kanesh) (موقع كول تبه Kültepe في تركيا) (ومعنى كاروم Kárum باللغة الأكدية ميناء تجاري وليس بالضرورة ان يكون ميناءا بحريا، فمطار القاهرة الدولي يطلق عليه ميناء القاهرة الدولي)، وكان زوجها يتاجر بالمنسوجات الصوفية، ولكن بعد عدة سنوات توفي زوجها في كاروم كانيش، وبدلا من العودة إلى عائلتها ومدينتها آشور، اختارت زيزي الزواج من أحد السكان المحليين الانضوليين هناك، فقد كان سكنى الكاروم ليس حصريا على التجار الآشوريين لكن أيضاً ضم العديد من الأناضوليين.
تضمنت رسالة والد زيزي غضب وعتاب لابنته فكتب لها: (أمام الإله آشور، أنت لا تعاملني باحترام، أنا والدك، وانا رجل مهذب! لقد تركتِ العائلة!) كاتب الرسالة والدها ويدعى إمدي- إيلوم (Imdi-ilum)، مستخداما قلم من القصب لضغط العلامات المسمارية على لوح صغير من الطين، كما ختمت والدة زيزي وهي عشتار-بشتي (Ishtar-bashti) بختمها الخاص على الرسالة، ولا يذكر الوالدين صراحة عن عدم موافقتهما على اختيار زيزي للزوج الانضولي، بل في الواقع كما ذكرا انهما دعما زواجها الثاني ماليا، لكنهم استاءوا من حقيقة أنها لم تفعل الكثير بعد زواجها في مساعدة شركة المنسوجات التي تعود للعائلة وعدم بيع المنسوجات الصوفية في الأناضول، وقالوا لها بغضب في نهاية الرسالة : (هل نحن لسنا مهمين في نظرك؟).
كان من المفترض أن يجفف اللوح الغضب تحت اشعة الشمس بالقرب من منزل الوالدين في مدينة آشور (موقع تل الشرقاط) التي تقع على ضفاف نهر دجلة في العراق قبل لفه بقطعة قماش رقيقة ووضعه في مظروف من الطين، كما يحدث مع الكثير من المراسلات الآشورية، وكان أحد والدا زيزي أو كليهما قد أخذا أسطوانة حجرية تتدلى من حبل حول أعناقهم وتدحرجها على سطح الظرف، مما أوجد طبعة تشبه الختم وكأنها شريط، أما شكل ختم والدتها فقد نقش بأشكال كبيرة تشبه الغزلان لها قرون طويلة تقف منتصبة وكل واحد منها متكئ على عصا، كان هذا الختم فريدا لعشتار-بشتي وكان بمثابة بطاقة هوية، والختم بحد ذاته يثبت لزيزي أن الرسالة كانت بالفعل من والدتها فلا وجود لختم ابيها على الرسالة، بعد ذلك تم ارسال اللوح مع قافلة الحمير(لم تكن الجمال معروفة كحيوان نقل في بلاد اشور انذاك)، وكان يطلق على الحمار اسم الأسود (صللاموم Sallamum) ومن المحتمل أن هذه الحيوانات ولدت ودربت على حمل الأثقال في آشور، وعدد الحمير في كل قافلة يصل إلى (300) حمار، وكانت حمولة كل حمار حوالي (130) منه ما يعادل (65) كيلو غرام من القصدير أو (60) منه من المنسوجات الصوفية وعلى شكل قطع ما بين (25-26) قطعة، والمعروف أن عملية بيع القصدير أسهل من بيع المنسوجات الصوفية التي تتطلب جهداً أكبر، ربما بعد تفريغ حمولة المنسوجات كان التاجر ينادي في السوق في عملية إشهار للبضاعة والسعر، ومع هذا فإن الأرباح من بيع المنسوجات تعادل ضعفي أرباح القصدير، وعلى العموم تقطع الحمير معدل(15) ميلاً يومياً لذا تستغرق الرحلة من آشور إلى كاروم كانيش مدة ستة أسابيع عبر مسافة (750) ميلا عبر أراضي السهوب السورية، وجبال طوروس في جنوب شرق تركيا، وأخيراً سهول الأناضول حيث كاروم كانيش، وكان مالك القافلة في بلاد آشور يشتري الحمير لكل رحلة تخرج إلى بلاد الأناضول، وعند وصولها إلى آسيا الصغرى يتم بيعها هناك، وهذا يدل على غلاء أسعارها واقتصاد التاجر في النفقات أذا ما تم إرجاعها فارغة إلى بلاد آشور.
عاشت زيزي في كانيش (Kanesh)، وتم العثور على اللوح الطيني الذي يحمل رسالة غضب من والدها التاجر الآشوري إمدي- إيلوم وامها عشتار- بشتي اللذان يملكان شركة لصناعة المنسوجات الصوفية، وكانت الرسالة مخزونة في أرشيف ابنتهم زيزي، التي بدأت حياتها المهنية كمقرض أموال ناجح هناك، واستقرت حياة زيزي الجديدة مع زوجها الانضولي في بيت مستقل داخل كاروم كانيش، ولكن ربما لا تزال تفتقد والديها ومدينتها آشورلذلك فهي تحتفظ باللوح في أرشيف خاص في منزلها.
صورة توضيحية لمستوطنة آشورية (كاروم كانيش) الطبقة الثانية يلاحظ فيها طرق عريضة تكفي لمرور عربات النقل وتظهر آثار العجلات على الطريق الرئيسي، وهناك شوارع ضيقة ترتبط بهذا الطريق، يبدو أن الكاروم كان مزدحماً بالسكان، فقد احتوت المنازل على غرفتين وإلى ست غرف، والبناء مستطيل الشكل والفناء ليس في وسط الدار مثلما هو في عمارة بلاد الرافدين، لكنه أقيم على أحد جوانب المنزل، واستعمل الخشب بكثرة في بناء الأسوار، حيث يظهر على شكل قوالب تحصر الآجر الطيني، وفي أعلى الأسوار أقيمت ممرات رصفت بالحجر لغرض الحراسة والمراقبة، أما الطابق الأعلى في المنازل فقد شيد بالأخشاب، ويلاحظ عدم وجود سلالم، لذا يعتقد أنها كانت مصنوعة من الخشب كما هو شائع، واحتوت المنازل الرئيسة في الكاروم على أرشيفاتها الخاصة، فقد خزنت الألواح في جرار كبيرة أو في داخل ظروف مفخورة تأخذ شكل الألواح نفسها، وغالبيتها غير مفتوحة. هناك مراسلات اخرى تعود إلى عام (1870) ق.م في مدينة آشور (تل الشرقاط)، فقد كشفت امرأة آشورية تدعى أحاحا (Ahaha) بانها وقعت في قضية احتيال مالي، فقد استثمرت أحاحا أموالها في تجارة خارجية عبر مسافات طويلة بين آشور ومدينة كانيش (Kanesh) (موقع كاروم كانيش مستقل وخارج مدينة كانيش)، فقامت هي ومستثمرون آخرون بجمع الفضة لتمويل قافلة تجارية تجرها الحمير لغرض توصيل معدن القصدير والمنسوجات الصوفية إلى مدينة كانيش وهناك يتم بيع البضائع المصدرة مقابل معدن الفضة، ومن الطبيعي هذا سيحقق ربحا جيدا، ولكن يبدو أن حصة أحاحا (Ahaha) من الأرباح قد اختفت، ومن المحتمل اختلسها أحد أشقائها ويدعى بوزازو (Buzazu)، لذلك مسكت قلم من القصب ولوحا من الطين وكتبت رسالة إلى شقيق آخر لها يدعى آشور-موتابيل (Aššur-mutappil)، تطلب منه المساعدة فكتبت بالخط المسماري: (ليس لدي أي شيء آخر غير هذه الأموال، احرص على العمل حتى لا أهلك!) ، وطلبت من أخيها آشور-موتابيل أن يعيد لها الفضة ويخبرها بسرعة، وكتبت في لوح آخر: (أرسل لي رسالة مفصلة وابعثها مع القافلة التالية، واخبرهم أن يعيدوا لي الفضة)، وتستمر: (الآن هذا هو الوقت المناسب لتقدم لي المساعدة وتنقذني من الضغوط المالية!). لقد سمح التعامل التجاري لبعض النساء الاشوريات بالحصول على مناصب لم تكن تحتلها النساء سابقا ، وذلك من خلال العمل كشركاء تجاريين موثوقين لأزواجهن، وقد استفاد التجار بدورهم من وجود زوجات متعلمات ولديهن معرفة بالحساب ويمكنهن المساعدة في الأعمال اليومية، وكذلك في حالات الطوارئ، فقد كتب أحد التجار الآشوريين المقيمين في كانيش إلى زوجته عشتار-باشتي (Ishtar-bashti) المقيمة في مدينة آشور: (بسرعة! نظفي البضائع التي لم تحسم بعد والخاصة بك، ثم اجمعي ذهب ابن لمشار (Limishar) وأرسليه إلي… من فضلك، احتفظي بجميع ألواحي في الخزانة)، ويطلب تجار آخرون من زوجاتهم الاشوريات اختيار الواح معينة من أرشيفات الأسرة الخاصة المخزونة في منازلهم بمدينة اشور من اجل الحصول على معلومات مالية أو تسوية مسألة تجارية. تقول الباحثة (Michel) عن النساء: (بما أنهن كن باقيات في المنزل، فقد كن حراس الأرشيف): (عليك أن تتذكر أن هذه العقود تمثل الكثير من المال، فعلى سبيل المثال عقود القروض وما إلى ذلك). والنساء بدورهن لا يخجلن من إرسال التعليمات والتحذيرات لأزواجهن أو إخوتهن ومثال على ذلك: (ما هذا حتى أنك لا ترسل لي لوحا بعرض إصبعين فيه بشرى منك؟)، وامرأة آشورية تدعى نارامتوم (Naramtum) تكتب لرجلين، تشتكي من نزاع يتعلق بالديون والبضائع الضائعة، وتحث الرجلين على حله، وتختتم الرسالة بخفة: (أرسل لي ثمن المنسوجات، وشجعني!) ووبخت أخرى شقيقها بسبب عدم دفع المبلغ: (لا تكن جشعا سوف تدمرني!). كان استقلال هؤلاء النساء يتناقض بشكل كبير مع بعض المجتمعات الأخرى في الشرق الأدنى القديم، فعلى سبيل المثال بابل القريبة في جنوب العراق، تذكر الباحثة (Michel) بانه في آشور كما هو الحال في كاروم كانيش(Kanesh)، يمكن لكل من الزوجة والزوج أن يطلبا الطلاق ويتم معاملتهما بنفس الطريقة في الإجراءات، وفي نفس الوقت في بابل في جنوب بابل لم يكن بإمكان الزوجة أن تطلب الطلاق، وفي شمال بابل إذا تجرأت الزوجة على طلب الطلاق فسيتم إعدامها. هذا الجانب الاقتصادي اوجد ظروف أفضل في الحياة الشخصية للنساء الاشوريات اللواتي يمارسن صناعة المنسوجات الصوفية أو يشاركن باموالهن في التجارة الخارجية، فعندما يكسبن المال من بيع المنسوجات، فإنهم يدفعون ثمن الطعام ومتطلبات المنزل والحياة اليومية، ولكنهم يستثمرن أيضا خلال فترة غياب ازواجهن في كانيش، فقد أضاف عدد منهن بنوداً إلى عقود الزواج تمنع الرجال من اتخاذ زوجة ثانية أو السفر لوحدهم، كما جاء في عقد الزواج التالي: (تزوج آشور-ملك (Aššur-malik) من سوكانا (Suhkana) ابنة إيرام-آشور(Iram-Aššur)، أينما ذهب آشور-مالك (Aššur-malik)، فإنه يأخذها معه، ولا يتزوج بامرأة أخرى في كانيش). وهكذا بعد ما يقرب من (4000)عام، اكتشف علماء الآثار الرسائل المتبادلة بين التجار الاشوريين في كانيش وزوجاتهم وذلك أثناء عمليات التنقيب في موقع مدينة كانيش القديمة في وسط تركيا، والمعروفة الآن باسم كول تبة (Kültepe)، وهي سهل عشبي منخفض يعلوه تل طويل حيث تبلغ مساحة كاروم كانيش حوالي (30) هكتار، وتم اكتشاف أكثر من (23000) لوح مسماري في الموقع، ومن بين تلك الرقم الطينية، قامت الباحثة (Cécile Michel) عالمة الآشوريات في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي بترجمة أكثر من (300) رسالة كتبتها نساء ينتمين إلى طبقة التجار الآشوريين المتعلمين على مستوى عالٍ، تقول الباحثة (Michel): (من خلال المراسلات الخاصة، نتعمق أكثر ونقترب من افكار الناس)، (إنه تناقض مع اللغة الرسمية للمراسلات، حيث توجد مسافة كبيرة بين ما يكتبه الناس وما يفكر فيه الناس)