قصة - فتاة المقهى
عادل شهاب الاسدي
قصة- فتاة المقهى
يُحدِثُ حذاؤها إيقاعا متناغما مع حركة أردافها المتناسقة وهي تمشي بتؤدة باتجاه السلم المؤدي إلى الطابق الثاني للمقهى ، فيما راحت يداها تدفعان بثوبها الشفيف الملتصق بين فخذيها المكتنزين ، وقد تركت شعرها النحاسي منفلتا على كتفيها مع خصلات شاردة تتدلى على جبينها ، يكاد الناظر يحسبها قد تخطت العشرين بخمسة أعوام أو حتى أقل.
وجه طفولي مستدير كأنه قرص من خبز محمص على جسد ملفوف ، يثير غنجها حفيظة زبائن المقهى فتزيغ نظراتهم الباردة وهي تجتاز الرواق المؤدي الى السلم أو عند هبوطها وهي تهم بالخروج . كانت تواضب على المجيء بمفردها يوميا وأحيانا بين يوم وآخر.
يجيء رجل ناهز الخمسين عاما ، يبدو انها تنتظر مجيئه ، يمكثان ساعة عند طاولة في ركنٍ ألفا الجلوس اليهِ. يخرج احيانا من غرفة الـ VIP المعلقة مثل قفص طيور في الطابق العلوي وهو يلملم اوراقا داسا إياها في حقيبة سوداء خفيفة . ما أن يلمحها حتى تفتر عن ثغره ابتسامة ماكرة مغموسة بمشاعر الافتتان . لكثرة ترددهما فقد خبر نادل المقهى نوع القهوة التي يفضلان احتساءها حتى بات يقدمها من تلقاء نفسه .يجلسان متقابلين أو متجاورين في كثير من الأحيان منهمكين بأحاديث خفيضة الصوت هي أقرب للهمس مشفوعة بحركات وايماءات مبهمة ، تحت مصابيح الجدران المزدحمة بملصقات دعائية تتوسطها لوحة تراثية كبيرة ، فيما تتسرب انغام لسيمفونية ذات لحن هادئ مترقرق. تتضح ملامح وجهه الحليق وتزاد عيناه التماعا . كان معتدل القامة وسيما حنطي البشرة يفرق شعره الكث من الوسط ويتركه ينسرح قليلا تتخلله خصلات بيض تضفي عليه المزيد من الوسامة . وحين تهم الفتاة بالخروج تومئ برأسها تعبيرا عن شكرها مع ابتسامة رقيقة آسرة تمنحها لرجل المقهى الوقور الذي يبادر بدوره بفتح طلاقة الباب الخارجي للمقهى كلما خرج الاثنان معا .
ذات ضحى قدمت الفتاة وهي تحمل باقة ورد ميممة صوب مكانها المعتاد ليسرع النادل بتلبية طلبها : قدح من القهوة وقطعة من الكيك مع زجاجة ماء .يحتشد ممر المقهى بخطى زبائن متوزعين حيث طاولات الطابق الأول ، بينما تتجه العائلات الى الطابق العلوي . مكثت تلك الفتاة ساعات تتفرس في مرايا نقالها مداعبة بأنامل متراعشة أوراق ورد الباقة التي غمرها النادل بمزهرية شفافة بالماء .مرّت ساعات وهي ترنو بلا انقطاع لمدخل المقهى الزجاجي بعينين منهكتين . لابد انها كانت تنتظر مقدم ذلك الرجل الأنيق دونما جدوى . تسلل اليأس إلى قلبها وشعرت بالجوع فهي لم تتناول سوى قطعة من الكعك وكأسا من عصير البرتقال طيلة مكوثها. عامت في بحر من الهواجس والظنون وهي تمعن النظر بباقة الورد .. ترى هل سيأتي ؟ لا.. لا اعتقد .. نعم .. أنا واثقة من مجيئه وسنذهب معا الى مطعم فاخر .. أه .. إنني جائعة حقا !
فجأة تدخل ضالتها : الرجل الأنيق .. هو! . نعم أنه هو ..! صار قلبها يرفرف كعصفورٍ صغيرٍ ينتظر من يطعمه . نهضت بشوق من أجل استقباله وهي تومئ له ، إلاّ انه بدا غير مكترث لها . كان بصحبة رجُلين و امرأة طويلة القامة جميلة الملامح ترتدي ثوبا فاتنا وقد لفت عُنقها بشال وردي تتدلى من معصمها حقيبة ذات لون بني . انهمك الخمسيني في التحدث إلى رفقائه ليتجه الأربعة إلى غرفة الـ (VIP ) موصدين دونهم بابها الصقيل والسميك .
تخرّ الفتاة عائدة إلى مقعدها دافنة رأسها في الوسادة المتشكلة من ذراعها ، تمكث في تلك الهيئة دقائق . وبغتةً ، تنهض وقد طفحت عيناها بقطرات من الدموع لم تستطع التحكم بها لتنزلق منسابة على خديها الملتهبين . راح الرجل الوقور يرمقها بعينين ذابلتين مشفقتين .تلتقط باقة الورد التي عراها الذبول ؛ وبأقدامٍ متعثرةٍ تهبط السلم ، وما أن تجد نفسها خارج المقهى ، حتى تلقي بها إلى أقرب سلة مهملات لتأخذها الخطى بعيدا!
---------------------------------------
(*) Room VIP غرفة كبار الشخصيات