بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ضربة موجعة توجهها محكمة العدل الدولية لإسرائيل. من هم القضاة الذين خالفوا مواقف دولهم؟ وكيف فشلت كل محاولات ثني المحكمة عن إصدار هذا القرار الإيجابي؟
شبكة البصرة
د. سعد ناجي جواد
شأني شأن الكثيرين كنت أترقب بقلق قرار محكمة العدل الدولية بخصوص الدعوى التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل متهمة إياها بارتكاب جريمة إبادة بشرية بحق الفلسطينيين. تصورت للحظات، ونتيجة للضغوط الأمريكية والصهيونية وتجارب سابقة، ان المحكمة ستصدر قرارا باهتا لرفع العتب عن نفسها، تتحدث فيه عن ضرورة وقف لإطلاق النار غير ملزم، يصحبه إعطاء الحق لإسرائيل في الدفاع عن نفسها، ومن ثم تقوم المحكمة برد الدعوى المتعلقة بالإبادة الجماعية، خاصة بعد ان كررت واشنطن اكثر من مرة، ان هذه التهمة لا اساس لها من الصحة. وتساءلت مع نفسي هل يمكن ان يصل الانحدار الأخلاقي والقيمي بأكبر قضاة العالم مكانة إلى الحد الذي يمكن ان يتجاهلوا فيه كل الحقائق الدامغة التي عرضت أمامهم؟ ثم اكتشفت خطأ تصوراتي وشكوكي بعد ان صدر قرار المحكمة الإيجابي يوم امس.
ابتداءا اثبت القرار انه لا توجد دولة فوق القانون وان كل الدعم الدولي الذي حصل عليه الكيان قد عجز عن افشال إصدار قرار منصف بحق الفلسطينيين وحقوق الانسان من اهم محكمة دولية تابعة للأمم المتحدة. الاهم هو حقيقة ان القرارات التي صدرت حصل عليها شبه اجماع قضاة المحكمة (نسبة التصويت على بنود القرار كانت ما بين 15-2 او 16-1)، القاضية الوحيدة التي صوتت ضد كل القرارات هي القاضية الاوغندية، (اليوم تبرأت حكومة أوغندا من القاضية التي تحمل جنسيتها)، وأكثر من ذلك ان القضاة الإسرائيلي والأمريكي والألماني والفرنسي كلهم صوتوا إلى جانب القرارات التي تلزم إسرائيل بمراعاة الشؤون الإنسانية وعدم تعريض ارواح الناس للخطر. وبذلك فإنهم عارضوا موقف دولهم المساند لإسرائيل. وهذا امر يعني ان موقف إسرائيل الدولي قد اهتزّ بصورة غير مسبوقة.
نعم لم يصل القرار إلى حد دعوة إسرائيل الى وقف فوري لإطلاق النار، كما طالبت جنوب أفريقيا، او كما كان يأمل فريقها القانوني، إلا ان من يتمعن في تسلسل القرار يجده قد اكد على هذا المبدأ (وقف اطلاق النار) بصورة غير مباشرة، وذلك من خلال تأكيده على جملة أمور مثل: التأكيد على إسرائيل بوجوب اتخاذ كافة الإجراءات القانونية والإنسانية لمنع الابادة الجماعية ولمنع قواتها من القيام بعمليات ينتج عنها ابادة ضد الفلسطينيين. وهذا النص يعني ضمنا قناعة المحكمة بان إسرائيل ترتكب جرائم إبادة جماعية، ولو كان الأمر عكس ذلك لقالت المحكمة انها لم تصل إلى قناعة بان ما يجري في فلسطين يمكن ان يرقى إلى إبادة جماعية ولرفضت هذا الادعاء وردت الدعوة. ولكن المحكمة كانت واضحة جدا عندما قالت بصراحة (لا يمكننا قبول طلب إسرائيل رد الدعوى في القضية المرفوعة من جنوب افريقيا). وهكذا فهي رفضت رد دعوة جنوب أفريقيا وردت الطعن الاسرائيلي، وهذه كانت اللطمة الاولى. ثم زادت على ذلك بانها وضعت شروطا ومتطلبات يجب ان تلتزم بها إسرائيل إذا ما ارادت ان تنفي عن نفسها ارتكاب جريمة ابادة بشرية. وهذا دليل آخر على ان المحكمة اصبحت على قناعة بان الأسس التي قامت عليها الدعوة المقامة من قبل جنوب أفريقيا صحيحة ومقنعة وفيها سند قانوني، وكما يقول التعبير القضائي (ان هناك قضية قابلة للترافع والمحاكمة). وذلك ما يبقي الباب مفتوحا لمرافعات ومجادلات قانونية قد تستمر لسنين، تلك كانت اللطمة الثانية. وهذا الاستمرار يعني فضائح جديدة لإسرائيل، لان الفريق الذي قدم الدعوى وترافع عنها بالصورة التي أبهرت العالم سوف لن يُبقي وثيقة واحدة تدين إسرائيل إلا وقدمها للمحكمة وللرأي العام العالمي. وهذا ما سبب رد الفعل الغاضب لنتنياهو ووزراه المتطرفين الذين اتهموا المحكمة بمعاداة السامية ومحاولة اضطهاد إسرائيل وغيرها من التهم الجاهزة.
اما الرد على مقولة ان المحكمة لم تقل صراحة ان إسرائيل ترتكب جريمة ابادة جماعية، فهو وبكل بساطة غير صحيح ايضا، لان المحكمة قالت ان إسرائيل يجب ان تتوقف عن اي أعمال تفضي إلى ابادة جماعية، وهذا يعني ان المحكمة مقتنعة ان ما تقوم به إسرائيل هي افعال ترقى او تفضي إلى ذلك. أضف إلى ذلك، (وهذا بتقديري اهم ما احتواه القرار) ان المحكمة طالبت إسرائيل بتقديم تقرير بعد شهر واحد يوضح الإجراءات التي اتخذتها لنفي تهمة الابادة الجماعية عن نفسها، واكثر من ذلك انها حذرت إسرائيل من القيام باي اعمال او اجراءات تفضي إلى طمس الأدلة التي تشير إلى وجود عمليات ابادة، وكل هذا القرارات لا يمكن ان تُفسر سوى بوجود قناعة كاملة لدى المحكمة بوجود اسس لجريمة ابادة جماعية وحسب مواد القانون الذي شكلت بموجبه المحكمة. واخيراً ذَكّر القرار إسرائيل بان المحكمة لديها صلاحيات لاتخاذ قرارات طارئة في قضية الابادة الجماعية ضدها. وهذه كانت اللطمة الثالثة.
اما بالنسبة لعدم مطالبة المحكمة بوقف فوري وصريح لاطلاق النار، وهذا ربما جاء نتيجة للضغوطات التي مورست على المحكمة من قبل الولايات المتحدة بالذات، لان هكذا قرار وعدم الالتزام به كان سيعني اللجوء إلى مجلس الامن، وبالتالي فان واشنطن ستضطر لاستخدام الفيتو مرة اخرى مما سيضعها في موقف محرج آخر. إلا ان المحكمة استطاعت وبذكاء ان تصل الى هذه النتيجة بصورة غير مباشرة. فمن يقرأ الشروط الكثيرة والصارمة التي وضعتها على إسرائيل يستطيع ان يستنتج انها (اي الشروط) لا يمكن ان تُنجز إلا إذا توقفت العمليات العسكرية. والا كيف ستستطيع إسرائيل مثلا حماية ارواح المدنيين، او ايصال المساعدات الانسانية او تأهيل المستشفيات او جعل قطاع غزة منطقة قابلة للعيش (بعد ان وصفتها المحكمة بانها، اي غزة، غير صالحة للعيش)، أضف إلى ذلك الفقرات التي قالت (يساورنا [هيئة المحكمة] قلق بالغ ازاء الخسائر البشرية الكبيرة في غزة، ويجب توقف القتل الجماعي، وضرورة عدم الاستمرار في ارتكاب جرائم القتل للسكان ووجوب احترام القرارات الدولية بشان تحسين الأوضاع في غزة). كما اكد القرار على ان المحكمة (يساورها قلق بالغ ازاء الخسائر البشرية الكبيرة في غزة ويجب توقف القتل)، وانها (اخذت بنظر الاعتبار تصريحات مسؤولين إسرائيليين بشان رفع صفة الانسانية عن الفلسطينيين) وان القضاة (على علم بقلق حقوقيين مستقلين من خطاب الكراهية الاسرائيلي)، وهي اشارات لتشبيه بعض وزراء إسرائيل للفلسطينيين بالوحوش البشرية والدعوات إلى الإمعان في قتلهم. واكدت المحكمة (ان الشعب الفلسطيني هو مجموعة محمية بموجب اتفاقية منع الابادة الجماعية).
هناك من يسأل محقا، من الذي سيجبر إسرائيل على الالتزام بهذه القرارات. وهذا سؤال وجيه جدا. هناك اجوبة وأساليب عديدة، اولا بعد ان صدرت هذه القرارات الواضحة فمن الصعب على إسرائيل ان تتجاهلها، وكذلك بالنسبة لحلفائها، بدليل ان اول رد جاء في بيان من الاتحاد الأوربي، الذي يضم اكثر الدول دعما لإسرائيل، اكد فيه (ان قرارات المحكمة ملزمة وتتطلب تطبيق كامل وسريع لها من قبل إسرائيل). ثانيا ان المحكمة قررت ان تنتظر شهرا لاستلام التقرير الذي ستعده الحكومة الاسرائيلية، وفي حال فشلت الاخيرة في تقديم هكذا تقرير، او ان التقرير لم يثبت ان إسرائيل قد التزمت بالقرارات، فان المحكمة قد تلجأ إلى إصدار قرارات ملزمة اكثر او ادانة واضحة، وستكون مضطرة إلى احالة الأمر إلى مجلس الامن. وسيتم وضع اي دولة تستخدم حق النقض ضد تلك القرارات في نفس خانة إسرائيل المتحدية او التي تخرق القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ومواثيق حقوق الانسان. واخيراً فان قرارات هذه المحكمة في هذه القضيةً هي ليست كمقررات سابقة تصدر ثم يتم تناسيها، وانما ألزمت المحكمة نفسها بمتابعة ذلك وخلال شهر، مما يعني ان امكانية إصدار المحكمة قرارا يدين إسرائيل بارتكاب جريمة ابادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني ستظل قائمة.
احد النتائج غير المباشرة المتوقعة هو ان إسرائيل اصبحت الان مجبرة على التفكير بجدية بضرورة القبول بشروط حماس في مسالة وقف اطلاق النار وعملية تبادل الاسرى (الكل أمام الكل)، وفتح المعابر لإيصال كل المساعدات لشعب غزة، والتخفيف من ارتكاب المجازر وعمليات تدمير المناطق السكنية. وحتى ان فعلت كل ذلك فهل سيكون بإمكانها محو ما ارتكبته من جرائم؟ لقد كان نتنياهو محقا ولأول مرة عندما اعتبر القرارات وصمة عار في جبين إسرائيل ستظل تلاحق الاجيال الصهيونية لعقود قادمة.
بالإمكان القول الان وبكل ثقة بانه مثلما شكلت عملية طوفان الأقصى بداية النهاية للغطرسة الاسرائيلية العسكرية والسياسية، فان قرار محكمة العدل الدولية يمكن، بل ويجب ان ينظر اليه على انه بداية تصدع جدار الحصانة الدولية الذي احتمى به الكيان منذ الاعلان عن قيامه في عام 1948 ولحد الان. ان كل ما تحقق وسيتحقق، ورغم هول المآسي التي مر بها ابناء غزة الابطال والعدد الهائل من الشهداء، وخاصة الأبرياء منهم من الأطفال والنساء، وكذلك في الضفة الغربية، هو نتيجة للنصر الذي حققته المقاومة، عسكريا وسياسيا واعلاميا ودوليا، وان كل من لا يزال يتصور ان الحق الفلسطيني قد ضاع وان إسرائيل اصبحت أمرا واقعا، وكذلك كل من يحاول ان يرمي لها طوق نجاة سواء باعتراف دبلوماسي او باتفاقيات اقتصادية لتخليصها من المأزق الذي وضعت فيه نفسها بسبب نكرانها للحقوق الفلسطينية، عليه ان يراجع نفسه قبل فوات الأوان.
وصدق الشاعر العربي ابو القاسم الشابي حين قال:
إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ *** فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ
ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي *** ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ
*كاتب واكاديمي عراقي
الكاردينيا
شبكة البصرة
الثلاثاء 18 رجب 1445 / 30 كانون الثاني 2024
يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس