القصورالرئاسيةثغرات)أم(ثغور)..(١-٢)؟
أحمد العبدالله
القصورالرئاسيةثغرات)أم(ثغور)..(١-٢)؟ قبل عام 1980, لم تكن هناك قصور للضيافة في بغداد؛ عدا القصر الجمهوري والمجلس الوطني في كرادة مريم, وقصر السلام في الحارثية. فقد كان الزهد والبساطة هو الصفة الغالبة لمن تعاقب على حكم العراق من فيصل الأول إلى أحمد حسن البكر. لدرجة إن الحكومة العراقية اضطرت لاستئجار عدد من بيوت المواطنين في حي المنصور لإسكان الوفود العربية, عندما ضيّفت قمة بغداد في أواخر عام 1978, لعدم توفر أماكن مناسبة لهذا الغرض.
أما بعد ذلك التاريخ فقد شهدت البلاد حملة إعمار واسعة لبناء القصور الفخمة, والفنادق الراقية, والمطارات الدولية, والمجمعات السكنية الحديثة, وخطوط المواصلات السريعة, وصروح حضارية كثيرة أخرى. ورغم إن الحرب العدوانية التي شنّها الفرس المجوس على بلادنا الناهضة, قد أضعفت من وتيرة تلك الحملة العمرانية, والتي لولاها لكان مقدّرا للعراق أن يغادر(خانة)دول العالم الثالث في منتصف الثمانينات, ولكن مع ذلك, بقيت خطة التنمية تخطو بخطوات جيدة إلى الأمام.
في مطلع الثمانينات ابتدأ العمل بإنشاء وتوسيع موقع الرضوانية الرئاسي المحاذي لمطار صدام الدولي من جهته الجنوبية. وفي منتصف الثمانينات في موقع الفارس العربي والذي يقع في الجهة الشرقية للمطار, وفي أواخرها, ازدادت الوتيرة فقد شرع ببناء مواقع أخرى ضخمة على بحيرة الثرثار, وجبل مكحول, وفي(أنشكي)قرب سرسنك, وفي البصرة, وعند آثار بابل. وفي العدوان الثلاثيني سنة 1991, تم استهداف جميع تلك المواقع وتدميرها كليا أو جزئيا, فتم إعادة إعمارها وتوسيع بعضها. وكأن القديمة لا تكفي, فقد ابتدأ العمل بثلاثة أخرى أضخم من سابقاتها؛ في تكريت والموصل وشاطئ الأعظمية!!.
ففي صيف عام 1992, وحينما دخل الحصار الاقتصادي سنته الثالثة, وبدأت آثاره السلبية تظهر بوضوح على الناس؛ تضخم متسارع تسبب بغلاء فاحش وشحة كبيرة في السلع, وتدهور في الخدمات, وخصوصا قطاعات الصحة والتعليم والإسكان, وتفشّي ظواهر اجتماعية سلبية خطيرة؛كالسرقة والرشوة والاختلاس والغش. في أجواء وظروف كهذه؛ أُعطيت إشارة البدء لواحد من أكبر المجمعات الرئاسية في تكريت على امتداد الجهة المطلة على نهر دجلة, فتم استملاك المئات من البيوت القديمة في محلتي؛(الحارة)و(القلعة), وكان التعويض مجزيا, ولكن لمن استثمره على الفور واشترى به عقارا أو بضاعة, المهم أن لا يحتفظ بالعملة الورقية, لأن قيمتها الفعلية بدأت تنحدر سريعا.
وعلى امتداد خمسة كيلو مترات أو أزيد, تم تسييجها بجدار من الاسمنت المسلح بارتفاع أربعة أمتار, فاندثر كل ما يمتّ بصلة لمدينة تكريت التاريخية, وهي واحدة من أعرق المدن وأقدمها في العراق والعالم, وأزيلت بيوتها القديمة, وأزقتها الضيقة, التي تذكّر أهلها بملاعب الطفولة ومراتع الصبا, والتي لم يعد لها وجود إلاّ في ثنايا ذاكرة أرهقتها السنون, ثم ما تلبث أن تغادرها إلى غير رجعة. وتم حجب المدينة, أو بالأحرى؛ ما تبقى منها, عن نهر دجلة الخالد, لأن الموقع الرئاسي احتل شريط الأرض المحاذية له, هذا النهر الذي ارتبط وجوده بوجود أهلها, فهو كالرئة التي يُتنفّس عن طريقها, وفي مياهه يسبحون, ومنه يستقون, وعلى ساحله يزرعون(الشطيّات)الشهيرة, التي صارت جزءاً من تراث المدينة. كما شكّل حماية لها من عاديات الزمن, فهو كالحاجب الذي يحمي العين من الأذى.
وهذه القصور يلزمها كادر خدمي كبير توفره دائرة القصور والضيافة في ديوان الرئاسة, وتتطلب تخصيصات مالية ضخمة لتجهيزها بأفخم الأثاث الذي يتم تصنيعه في معمل النجارة الخاص, أو شراؤه من الأسواق المحلية, وهذه الدائرة ومعها دائرتي؛ الشؤون الهندسية, والزراعية, التي تتولى بناء المواقع الرئاسية وملحقاتها الأخرى كالحدائق الخاصة بها وإدامتها, قد ترهلت كثيرا, واستقطبت عشرات الآلاف من المهندسين والموظفين والفنيين والعمال, مع تزايد تلك المواقع وتوسعها المستمر وكأنها عملية لا نهاية لها. كما تسلل الفساد المالي والإداري لتلك الدوائر, رغم العقوبات الصارمة.
لقد تحوّل موضوع تشييد القصور الرئاسية في عقد التسعينات خاصة, إلى حالة من الهوس وخرج عن حدود المعقول, وأصاب الاقتصاد العراقي المتهالك أساسا بفعل الحروب والحصار, بمقتل. وكان حريّاً توجيه الجهد والمال الذي تم إنفاقه على تلك القصور, للمشاريع ذات النفع العام؛ كالمشافي والمدارس والإسكان الشعبي. وكان يمكن بناء عشرات الآلاف من المساكن الواطئة الكلفة لو إن الأموال تم توجيهها بالاتجاه الصحيح, في وقت كانت آلاف العوائل تفترش الأرض وتلتحف السماء لأنها لا تملك سقفا يأويها, مع عدم بناء أي وحدات سكنية جديدة من قبل الدولة في عقد التسعينات, والارتفاع الخرافي للإيجارات.
ثم ما فائدة تلك المواقع والبلاد محاصرة اقتصاديا وسياسيا, ولا يزورها أي مسؤول عربي أو أجنبي, وإن(تجرّأ)أحدهم وزارها, فيكون في الغالب من المستوى الثالث أو الرابع, أو خارج الخدمة. ولم تستنزف تلك المواقع الجهد والمال فقط, بل استنزفت القوة القتالية للحرس الجمهوري الخاص, وهي قوة لا يستهان بها؛ كمًّا ونوعًا, فقد تم تفريغها تقريبا لحراسة تلك المواقع بعد توسعها, بدلا من تفرّغها لواجب الدفاع عن الوطن في الأوقات الصعبة والمصيرية, والتي تقتضي حشد كل الجهود والإمكانيات والموارد.