لماذا يجب ان ندعم خطوات المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية رغم كل ملاحظاتنا عليها؟ ولماذا ارتعب قادة الاحتلال مسبقا من نتائجها؟
د. سعد ناجي جواد*
لماذا يجب ان ندعم خطوات المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية رغم كل ملاحظاتنا عليها؟ ولماذا ارتعب قادة الاحتلال مسبقا من نتائجها؟
رغم شعورنا كعرب، والذي يشاركنا فيه عدد غير قليل من احرار العالم، ان بيان توجية الاتهام الذي القاه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية قد ساوى بين الجلاد والضحية، وبين المجرم الذي يتعمد وباصرار على ذبح الاطفال والابرياء وتشريدهم وتهديم مساكنهم ومستشفياتهم ومدارسهم ومناطق ايوائهم ويمنع عنهم الماء والغذاء والدواء والكهرباء والمساعدات الانسانية والطبية، وبين من يحاول ان يدافع عن ارضه وينهي الاحتلال المفروض عليه منذ اكثر من 75 عاما، الا ان هذا الامر يحتوي على ميزات كثيرة يجب ان تدفعنا الى تأييده والعمل بكل نشاط على دعم إقراره واصدار قرارات الملاحقة والتوقيف والمحاكمة، خاصة وان التهم الموجهة الى نتنياهو وغالانت تهما ثابتة وجدية وحقيقية، ومهما حاولت اسرائيل بكل تشعباتها الدولية ونفوذها في اطراف العالم والمدعوم من منظمات صهيونية كثيرة وقوية ماديا وسياسيا واجتماعيا، فانها لن تستطيع ان تنفي عن حكامها التهم التي اوردها المدعي العام، هذا اولا، وثانيا ان الادلة اصبحت من الوفرة والكثرة بحيث ان اية محكمة رصينة لا يمكن ان تفندها او تسقطها. وثالثا ان اية محكمة تتجرأ على اسقاط هذه التهم او بعضها، سيسقطها في اعين الملايين من طلاب الجامعات والدول والمجتمعات التي تعتصم في كافة انحاء العالم، قبل ان تسقط اخلاقيا وتفقد مصداقيتها كجهة قانونية.
من ناحية اخرى فان من يقرأ التهم الموجهة الى قادة حماس سيجد انها في مجملها مبنية على اكاذيب روجت لها اسرائيل بعد طوفان الاقصى وجلها، باستثناء الاحتفاظ باسرى وقتل عدد من المدنيين، لا يوجد سند يدعمها، بدليل ان صحفا امريكية كبرى ومحطات فضائية عالمية تراجعت عنها واعتذرت لانها ثبتتها خطاءا او اعتمادا على تقارير اسرائيلية كاذبة، بل وحتى الرئيس الامريكي بايدن اعترف بانه تسرع في سردها وهي غير دقيقة. ولهذا فان اية محكمة منصفة تستطيع ان تسقط هذه التهم وبسهولة. ولهذا نجد ان حماس، التي تدرك جيدا اهمية هكذا خطوة، رحبت بما جاء على لسان المدعي العام مع تثبيت اعتراضاتها عليه.
هناك ملاحظات عديدة يمكن ان تثأر على المدعي العام للجنائية الدولية، اولها انه، في مرحلة جمع الحقائق، ذهب الى الارض المحتله حيث نقلته الاجهزة الاسرائيلية الى مناطق غلاف غزة التي طالتها هجمة طوفان الاقصى، ولم يكلف نفسه الدخول الى غزة ليشاهد بام عينية عملية الابادة الحقيقية والقتل والتدمير المتعمدين. ثاني الملاحظات انه تعمد ان يقدم اسماء قادة حماس في اقتراح الاتهام على قادة الاحتلال، وهذا الامر مفهوم ايضا وله علاقة بحقيقة ان العالم الغربي غير معتاد، ولا يرضى بان تُتهم اسرائيل وقادتها (لذلك يتم كل يوم توسيع دائرة تهمة معاداة السامية) ولهذا فهو اراد ان يقول بانه غير منحاز ويساوي بين كل من هو مسؤول عن ما يجري في غزة. وحتى في عملية سرد التهم نجده قد اورد تهما اكثر على قادة حماس من تلك التي ثبتها على نتنياهو وغالانت، ولكن كل من يقرا التهم بصورة متمعنة يستطيع ان يكتشف الفرق الكبير بين طبيعة الاثنين. ثالث الملاحظات ان المدعي العام تغافل عن قرار محكمة العدل الدولية الذي يقول بانه لا يحق للمحتل ان يتعكز على مبدا الدفا عن النفس في الاراضي التي يحتلها، وانه (المحتل) اذا اصر على ذلك فانه يدخل في خانة ارتكاب جرائم ابادة وضد الانسانية.
ومع ذلك يمكن القول ان ظهور المدعي العام الاخير يمكن ان يوصف بانه (شجاع) وجريء وغير مسبوق، وأنه أشر لمرحلة جديدة نجحت اسرائيل في تلافيها منذ احتلال فلسطين ولحد الآن، وهي مرحلة تلقي الاتهامات بدلا من توجيهها لكل من يحاول ان يُظهر حقيقتها. ولا ادل على ذلك من حديث المدعي العام عن محاولات ترهيب وتهديد المحكمة وحكامها في حال اصرت على اتخاذ مثل هكذا قرار، وبالتاكيد ان من يهدد ويتوعد هي اسرائيل وحلفائها، وليس حماس.
الامر المثير للسخرية هو ما صدر عن نتنياهو والكثير من تابعيه ومؤيديه والذي تميز بالغضب الشديد من مساواته مع قادة حماس (المجرمين وقتلة المدنيين وخاصة الاطفال وحارقيهم ومرتكبي عمليات الاغتصاب على حد قوله)، وكل من سمع ذلك قال انه كان وبدون ان يشعر يصف نفسه والجرائم التي ارتكبها وما يزال. الاكثر سخرية ان بعض مؤيديه قال (كيف يمكن مساواة نتنياهو الشريف وصاحب الاخلاق العالية [كذا] مع مجرمي حماس؟). ونسي اصحاب هذا الكلام ان هذا (الشريف) تنتظره اربع قضايا فساد مسجلة عليه في القضاء الاسرائيلي، ولولا فوزه بالانتخابات بالاغلبيات الضئيلة لكان مكانه السجن الان، والان يضاف إلى أعماله (الشريفة) قتل خمسين الف بريء جلهم من الاطفال والنساء، ناهيك ما صاحب هذه الجرائم من دفن للأحياء والقتل بالتعذيب وغيرها.
هناك من يقول، وهو محق، ان ما صدر عن المدعي العام لم يكن ليصدر لولا حصوله على ضوء امريكي اخضر، وهذا القول يجب ان لا يثير تعجب احد، لان بايدن وادارته مقبلين على انتخابات صعبة تحتم عليهم اتخاذ بعض القرارات، حتى وان كانت غير مباشرة، او الاكتفاء بالاستنكار، من اجل امتصاص نقمة الشارع الامريكي ورفع نسبة التاييد المتدنية، وقرار السكوت هذا هو احدهم.
ختاما فان اكثر ما يجب ان يدفعنا لدعم هذه القرارات هو رد الفعل الاسرائيلي الغاصب سواء على لسان نتنياهو او وزراءه المتعطشين لدماء الفلسطينين، والاهم اعلان الخارجية الاسرائيلية عن (فتح غرفة حرب خاصة) لمواجهة تحركات المحكمة الجنائية الدولية. وهذا القرار ان دل على شيء فانه يدل على حالة الرعب الرسمي الاسرائيلي من الخطوة، واذا ما تذكرنا ان اسرائيل لجات الى الولايات المتحدة لكي تتدخل لمنع اصدار هكذا قرارات، ولوح الطرفان بان العقوبات ستطال قضاة المحكمة، ناهيك عن التهمة الجاهزة لهم بمعاداة السامية، فان هذه كلها امور تؤكد الضربة القاصمة التي وجهت للكيان المحتل من قبل المحكمة. وهذا ما كتبه كبير محرري جريدة الفايننشال تايمز اللندنية (اليهودي) Gideon Rahman في مقالته الافتتاحية يوم امس، ولو انه اضاف ان المحكمة تدخل في مقامرة كبيرة نتيجة لنهجها هذا). واذا ما اضفنا ذلك الى القضية المثارة من قبل دولة جنوب افريقيا الشقيقة امام محكمة العدل الدولية في القضية، والتي يزداد كل يوم عدد الدول التي تبدي رغبتها في دعم القضية، يمكن ان ندرك المازق الكبير الذي تمر به دولة الاحتلال.
اخيرا لابد من التذكير والتأكيد والتفاخر بان كل هذه التحولات الكبيرة لم تكن لتحدث لولا الصمود الاسطوري لغزة والمقاومة الباسلة التي اجبرت العالم على ان يعيد حساباته، ولو، لا سامح الله، ان المقاومة كانت قد انهارت بعد شهر او شهرين لطويت الصفحة واستمر الاحتلال بدون اي رادع.
لكل هذه الاسباب يجب علينا ان ندعم كل ما تقوم به المحكمة الجنائية ونحثها على اصدار اوامر الاعتقال. نعم من يقول ان هذا الاوامر لن تنفذ فهو محق، ولكن كلما استمرت المقاومة كلما كان الامل في تنفيذها اكبر، والامر الاخر الذي يجب التذكير به هو ان نية المحكمة الحالية هي ليست وليدة احداث السابع من اكتوبر، وانما بدات منذ العدوان الذي قامت به اسرائيل على غزة عام 2014، وان نجاح الجنائية الدولية وكذلك محكمة العدل الدولية في ادانة الاحتلال سيفتح الباب لاقامة دعاوى ابادة اخرى ارتكبت منذ عام 1947 و 1948 في المدن والقرى الفلسطينية من اجل محو سمتها العربية وارعاب الباقين من سكانها لكي يهربوا ويتركوا ارضهم للمهاجرين من اوربا. وان غدا لناظره لقريب.
الرحمة والنور لشهداء غزة وشهداء المقاومة العربية في كل مكان، والنصر ات باذن الله تعالى.
*اكاديمي وكاتب عراقي