القبلية الحكومية في العراق
قاسم محمد داود
القبلية الحكومية في العراق
تعد الظاهرة العشائرية في العراق، مسألة من أخطر المسائل الاجتماعية التي لابد أن تقرأ بمعزل عن أية عاطفة أو أية انحياز.. وان تقرأ علمياً بلا أي مداخلات سياسية، أو أيديولوجية، أو سلطوية أي ان يتولى ذلك باحثين في مجال علم الاجتماع.. إنها ليست مسألة جديدة طفت على السطح حتى يندهش الغلاة ممن يناصرها ويعلي من شأنها..، ولكن لابد من دراسة "الظاهرة " ونقدها من الداخل.. كونها وإن حملت بعض الآثار الايجابية، كما يدعي أصحابها، فان آثارها السلبية كانت ولم تزل تهتك بنية مجتمعنا، وتؤثر سلبا على الأنساق الحضرية، بل وعلى مركزية السلطات الإدارية والسياسية في البلاد كلها، وهنا في العراق الذي تزدحم فيه تلك الآثار التي خذلت القيم الحضرية والمدينية، سواء المتوارثة أبا عن جد في مدننا وبلداتنا، أو المستحدثة التي تعب في إرسائها المحدثون من المستنيرين والمصلحين على امتداد قرن كامل..
في العراق الحديث، التقطت الحكومات أهمية الحضور القبلي في العراق، فحاولت التعامل معه وفق أكثر من سياسة. أولها سياسة الاحتواء والسيطرة وتقريب القبائل من السلطة بحيث تصبح أحد أركان النظام القائم، فكان أن نشأت "قبلية حكومية" هي المتحالفة والمستفيدة من النظام، والتي يستفيد النظام منها. مقابلها كانت هناك "قبلية اجتماعية" أو ثقافية ظلت بعيدة شيئا ما عن الحكم، لكنها ظلت تسيطر على فضاءات اجتماعية خاصة بها، ولها سيطرتها المميزة المختلطة بشرعيات دينية خاصة في جنوب البلاد.
كانت الحالة القبلية في العراق تسير في منحنى هابط بسبب ضغوطات التحديث والفقدان التدريجي لسلطتها. وفي لحظة الاقتراب من شبه الانقراض كان الاستعمار البريطاني يقدم لها طوق النجاة عن طريق تجديد شرعيتها ومنحها سلطة جديدة على أتباعها. تم ذلك بالدهاء البريطاني المعروف حيث تمثل هذا في التقرب من شيوخ القبائل واستخدامهم كوسطاء للحكم المحلي. فعوضا عن التورط في حكم الأقاليم والبوادي والأرياف، أضفى الحكم البريطاني شرعية سلطوية محلية على الوضع القبلي القائم. النتيجة المباشرة للاعتراف البريطاني بسلطة شيوخ العشائر وتوظيفها كانت مفاجئة، وينتقدها حنا بطاطو ويشير توبي دوج إلى هذا النقد. هذه النتيجة متمثلة في إنقاذ القبلية من اندثار محقق.
خلال حقبة حكم البعث تمت "قبلنة" الدولة، وفي سنوات ما بعد الحرب العراقية الإيرانية ثم بعد حرب الخليج الأولى، انتهى النظام عمليا إلى الاعتماد الكلي على عدد محدود من القبائل والعوائل. وأصبحت الدوائر الضيقة في الحكم بيد شبكات من الأقارب المخلصين للنظام. أما القبائل الأبعد والأقل استفادة من الوضع القائم فقد كانت هي الأخرى يعاد إنتاجها وتثار حميتها "للدفاع عن الوطن", إن ضد إيران أو ضد الولايات المتحدة. لكن في كل الأحوال، فإن التلاعب بالقبلية كان قد أدى إلى تعزيز نفوذها وإعادة كثير من المجد الضائع لها، على حساب أشكال تنظيمات الدولة المدنية نفسها. ولكي نناقش هذا الدور علينا أولاً أن نوضح معنى القبيلة والقبلية.
القبلية هي نظام اجتماعي يقوم على أساس رابطة الدم والجد المشترك، بمعنى مجموعة من الناس يرتبطون بروابط القرابة والنسب والعادات والتقاليد المشتركة. يتميز هذا النظام بالولاء الشديد للعائلة الممتدة والقبيلة، ويعتبر أفراد القبيلة أنفسهم جزءًا من وحدة اجتماعية كبيرة تتعاون وتتكافل فيما بينها. وللقبلية صفاتها الخاصة منها:
1. تعتمد القبلية بشكل كبير على الروابط العائلية والنسبية.
2. تتوارث القبائل عادات وتقاليد مشتركة تميزها عن المجموعات الأخرى. أي العرف العشائري (السنن العشائرية. (السناين) ومفردها سنينه)
3. يتمتع أفراد القبيلة بولاء قوي لبعضهم البعض ولزعيم أو شيخ القبيلة.
4. يوجد في النظام القبلي هرمية اجتماعية، حيث يتمتع زعماء القبائل وأفراد العائلات المتنفذة بمكانة خاصة. غالباً ما تكتسب بالوراثة أو المال أو كثرة أفراد هذه العائلات.
5. يتعاون أفراد القبيلة في مختلف جوانب الحياة مثل العمل، والزراعة، والدفاع عن القبيلة. (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)
في بعض المجتمعات الحديثة، لا تزال القبلية تلعب دورًا هامًا في الهيكل الاجتماعي والسياسي، بينما في مجتمعات أخرى وخصوصاً تلك خطت خطوات متقدمة في مجال التحضر والمدنية، قد تراجع تأثيرها مع تطور الدول الحديثة وتنامي الهياكل الاجتماعية المعقدة. وهذا ما سنبحثه.
ولتلخيص ما سبق يمكن القول إن القبيلة هي ظاهرة اجتماعية تكونت قبل نشوء الدولة المدنية الحديثة تقوم على أساس العصبية والانحياز ويرتبط أعضاءها بثقافة القوة وتقاليد البيئة الاجتماعية وعاداتها المتوارثة اجتماعيا وسيكولوجيا، باعتبارها إطاراً اجتماعياً لحماية الفرد وحل النزاعات والمشاكل في الخصومات وتحدد الصراع والقتال على أسس عصبية تخضع الى سلطة وقرارات القبيلة وزعيمها. ويتمدد نفوذها عكسيا مع سلطة الدولة وقوتها، فكلما ضعفت الدولة زاد نفوذها في المجتمع والعكس صحيح.
القبيلة يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في بعض المجتمعات، لكنها عادةً لا تستطيع أن تحل محل الدولة بشكل كامل. وهناك عدة أسباب لذلك:
الدولة تمتلك هيكلًا إداريًا وسياسيًا معقدًا يمكنه إدارة شؤون البلاد بكفاءة، بما في ذلك التعليم، الصحة، الأمن، الاقتصاد، والعلاقات الخارجية. القبيلة، رغم أن لديها تنظيمها الخاص، إلا أنها تفتقر إلى البنية التحتية والموارد اللازمة لإدارة دولة كاملة.
الدول الحديثة تضم مجموعات عرقية وثقافية ودينية متنوعة، بينما القبائل غالبًا ما تكون متجانسة نسبيًا. الدولة تعمل على توفير إطار قانوني وإداري يضمن التعايش السلمي والتعاون بين هذه المجموعات المتنوعة.
الدول تضع قوانين وتشريعات تحكم سلوك الأفراد وتنظم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. القبائل لها قوانينها العرفية الخاصة، لكنها غالبًا ما تكون محدودة في نطاقها وغير قادرة على التعامل مع التعقيدات الحديثة، مع تطور المجتمعات وتأثير العولمة، أصبحت القوانين أكثر تحديثًا مما يجعلها تتعارض مع الأعراف التقليدية أضافة إلى أن الأعراف غالبًا ما تكون متجذرة في التاريخ والثقافة المحلية، بينما قد تكون القوانين مستوردة أو متأثرة بثقافات أخرى. قد تستخدم بعض الجماعات الأعراف كوسيلة للسيطرة والهيمنة، مما يخلق تناقضًا مع القوانين التي تسعى إلى تعزيز المساواة والعدالة. ومن الأمثلة على التضاد ما بين القوانيين والأعراف الزواج والطلاق، هناك أعراف تتعلق بالزواج والطلاق تختلف عن القوانين الرسمية. قد تكون هناك مثلاً أعراف تتيح الزواج المبكر، بينما تفرض القوانين قيودًا عمرية. وتتعارض الأعراف المتعلقة بتوزيع الممتلكات والميراث مع القوانين الرسمية، مما يسبب نزاعات عائلية وقانونية. هناك عقوبات عرفية تُطبق في المجتمعات القبلية أو الريفية، تتعارض مع العقوبات القانونية المعتمدة من قبل الدولة وغالباً ما تحابي هذه العقوبات بعض الأفراد المتنفذين على حساب من هم أقل مكانة اجتماعية.
يمكن أن يؤدي التناقض بين العرف والقانون إلى عدم وضوح في تطبيق القوانين وزيادة النزاعات القانونية. وبذلك تتأثر العدالة الاجتماعية سلبًا عندما تُفضل الأعراف على القوانين، مما يؤدي إلى تمييز وظلم لبعض الفئات. ويمكن أن يعوق التناقض التنمية الاجتماعية ويؤدي إلى مقاومة التغيير والإصلاحات القانونية. العشائر والقبائل غالبًا ما تحتفظ بنفوذ قوي في المجتمعات المحلية، حيث يلجأ الأفراد إلى زعماء القبائل لحل النزاعات وتقديم الدعم الاجتماعي والاقتصادي. هذا يعزز من مكانة الزعماء القبليين كسلطة موازية للحكومة الرسمية، ويقوض سلطة ومؤسسات انفاذ القانون.
أن اللجوء إلى العدالة القبلية لحل النزاعات بدلاً من النظام القضائي الرسمي هذا يمكن أن يؤدي إلى تطبيق قوانين وأحكام تتعارض مع القوانين الوطنية وتؤثر على تحقيق العدالة.
الدول تتعامل مع بعضها البعض على الساحة الدولية من خلال الدبلوماسية والتجارة والاتفاقيات الدولية، القبائل ليس لديها القدرة على إقامة هذه العلاقات بشكل رسمي.
إدارة اقتصاد دولة حديثة يتطلب تخطيطًا وتنفيذًا على مستوى واسع، بما في ذلك البنية التحتية من طرق وجسور ومستشفيات ومدارس. القبيلة، بمواردها المحدودة، لا يمكنها تلبية هذه الاحتياجات.
في بعض الحالات، قد تكون القبيلة مؤثرة جدًا وتلعب دورًا رئيسيًا في السياسة المحلية، خاصة في المجتمعات التي لا تزال فيها القيم القبلية قوية. لكن في النهاية، الدولة تبقى الوحدة السياسية والإدارية الأساسية التي تتمتع بالقدرة على تلبية احتياجات مواطنيها المتنوعة والمعقدة.
أن المجتمعات التي تقوم على أساس القبلية تواجه العديد من التحديات والسلبيات، والتي تؤثر على تطورها واستقرارها. من بين هذه السلبيات:
يمكن أن تؤدي القبلية إلى نزاعات بين القبائل بسبب التنافس على الموارد أو السلطة. هذه النزاعات قد تكون عنيفة وتؤدي إلى فقدان الأرواح والممتلكات.
القبلية تؤدي إلى تشرذم المجتمع إلى مجموعات صغيرة غير متماسكة، مما يضعف الشعور بالوحدة الوطنية والانتماء للدولة.
تساهم القبلية في تعزيز التمييز والتحيز بين أفراد المجتمع بناءً على الانتماء القبلي، مما يؤدي إلى تهميش بعض الفئات وتقليل فرصهم في التعليم والعمل والخدمات الأساسية.
في المجتمعات القبلية، تكون الولاءات القبلية أقوى من الولاء للدولة، مما يؤدي إلى ضعف المؤسسات الحكومية وصعوبة تنفيذ القوانين والسياسات العامة.
القبائل غير مستعدة لتبني التغيير والتحديث، مما يعوق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. القبلية تفضل النظم التقليدية على الابتكارات الحديثة، مما يؤثر على تقدم المجتمع.
للزعماء القبليين تأثير كبير على أفراد القبيلة، مما قد يؤدي إلى احتكار السلطة والتأثير على القرارات العامة بما يخدم مصالحهم الخاصة وليس مصالح المجتمع ككل.
في بعض الأحيان، يتم تطبيق العدالة بشكل غير متساوٍ بناءً على الانتماء القبلي، مما يؤدي إلى ظلم بعض الأفراد وعدم تحقيق العدالة الاجتماعية.
المجتمعات القبلية تكون أقل اهتمامًا بالتعليم الرسمي والتقدم العلمي، مما يؤدي إلى تدني مستويات التعليم والمعرفة في المجتمع.
تفرض القبلية قيودًا على الحريات الفردية والتعبير عن الذات، حيث يتعين على الأفراد الامتثال لتقاليد وأعراف القبيلة التي قد تكون صارمة.
للتغلب على هذه السلبيات، من الضروري تعزيز الوحدة الوطنية، وتطوير المؤسسات الحكومية، وتعزيز التعليم والتوعية بحقوق الإنسان والمساواة.
وبشيءٍ واضح للعيان فقد لعبت البنية القبلية دوراً كبيراً في إلحاق الضرر بالهوية العراقية العربية، فهي تمثل النوع القديم للتشكل الأبوي، وهي مستمرة في أنواع المجتمع الأبوي كافة بما في ذلك الحديث منها، وهي خصوصية أساسية لا يمكن من دونها فهم طبيعة الأبوية العربية المستحدثة، وبات ذلك واضحاً بأن القبيلة والعشيرة قد لعبت دوراً لا يُستهان به في تقييد العقل العراقي من الانطلاق نحو العقلانية، من دون الاستفادة من التراث، مستمرةً في ضخ القيم البالية في بعضها نحوه.
أن النظام القبلي والعشائري الذي تكون من شروطٍ تأريخية وجغرافية وحضارية، تمتد جذوره إلى عهد ما قبل الإسلام حيث سيطر نظام المشيخة على المجتمع العربي آنذاك، وعلى الرغم من أن الإسلام حاول تغيير البنية القبلية وجاء بمفهوم الأمة بديلاً لمفهوم العصبية القبلية، إلا أن النظام القبلي ظل مهيمناً على المجتمع الإسلامي؛ الأمر الذي استمرت معه الكثير من القيم والتقاليد مؤثرة بقوةٍ على كيان وجسم المجتمع العربي.
ومما يؤسف له أن المجتمع العراقي والذي كان يعد من المجتمعات التي تسير نحو التطور والتمدن إلا أن العشائر والقبائل انتعشت من جديد وصارت تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الولاءات السياسية. فالأحزاب السياسية غالبًا ما تسعى للحصول على دعم القبائل لضمان تأييد شعبي واسع في الانتخابات. وهذا يعزز من دور القبائل في الساحة السياسية ويجعلها أداة بأيدي السياسيين يحركونها حسب الحاجة. أن تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية الدولة والقوانين الوطنية يمكن أن يقلل من الاعتماد على السلطات القبلية ويعزز من سيادة القانون.
النظام السياسي في العراق يعتمد بشكل كبير على المحاصصة الطائفية والعشائرية، مما يؤدي إلى تعيينات سياسية قائمة على الانتماءات القبلية بدلاً من الكفاءة. هذا النظام يضمن تمثيل مختلف الطوائف والقبائل لكنه قد يعوق العمل الحكومي الفعال. وأن تدخل القبائل والعشائر في السياسة يمكن أن يؤدي إلى نزاعات وصراعات على السلطة والنفوذ، مما يزيد من حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني وهذا ما نراه بين آونة وأخرى من تقاتل بين العشائر وخصوصاً في جنوب ووسط العراق.