سقوط الصرح الخالد - البداية والنهاية لمسيرة الفكر القومي
بقلم :جابر رسول الجابري
سقوط الصرح الخالد -البداية والنهاية لمسيرة الفكر القومي
المقدمة :
لكل عصر من عصور حياة الشعوب تنشأ أمة تقود أتباعها بعقيدة أو فكرة سواء كانت تلك العقيدة أو الفكرة دينية ، طائفية ، قومية أم ثقافية ، تشد وتسحب تلك العقيدة أتباعها من ناصيتهم بإتجاه قِبلة الأمة فينساق لها الأتباع طوعاً ،
ظهرت الدعوة للقومية العربية اول مرة على الساحة السياسية في عهد محمد علي باشا (العهد العثماني١٨٤٧-١٨٦٧م) في مصر و الشام من خلال توافد البعثات و الإرساليات التبشير للكنيسة البروتستانتية من بريطانيا و أمريكا تحت ذريعة التبشير للديانة المسيحية إلا أنها كانت تشكل جمعيات ومجالس ثقافية تدعو فيها إلى إيقاظ فكرة القومية العربية والدعوة لاستقلال الشعب العربي عن سلطة الدولة العثمانية ،
ومن خلال تسليط الضوء على الأسباب والأهداف التي دعت الحكومتين البريطانية والأمريكية إلى تمويل ونشر فكرة إيقاظ القومية العربية أنذاك نجد أن الدافع الرئيسي لها هو دافع سياسي مخابراتي الهدف منه إحداث ثورات في الدول العربية ضد سلطة الوالي العثماني الذي كان يحكمها تمهيداً لتفكيك وإضعاف سلطة ونفوذ الدولة العثمانية و إسقاطها لاحقاً ليتسنى إبتلاع تلك الدول وضمها تحت سلطة التحالف الأوربي ،
كل دعاة القومية العربية انذاك هم من رواد الكنيسة البروتستانتية وكان جل إهتمامهم وجهودهم تنصب في إيقاظ المشاعر القومية عند الشعب العربي وحث تلك الشعوب لترك الإنتماء للأمة الدينية واستبدالها بالإنتماء للقومية العربية ،
ويُعتبر الكاتب جورج حبيب أنطونيوس أول مؤرخ للقومية العربية الذي ولد في لبنان و درس في بريطانيا وعاش في فلسطين ما بين القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث أرّخ أول ظهور لفكرة القومية العربية في كتاب إسماه ( يقظة العرب ) صدر في عام ١٩٣٨ م .
————————-
الموضوع :
في نهاية القرن التاسع عشر لمعت اسماء الدعاة إلأوائل لفكرة القومية العربية مثل ساطع الحُصْري وهو أحدمؤسسي الفكر القومي أنذاك ، وكذلك عبد الرحمن الكواكبيو شكيب أرسلان ،
ثم في أوائل القرن العشرين ظهرت شخصيات تدعو للقومية العربية مثل زكي الأرسوزي ومحمد عزة دروزة ،
إلا أن فكرة القومية العربية أصبحت القوة السياسية الأولى المحركة لمشاعر الجماهير الشعبية في مصر و بلاد الشام و العراق في ثلاثينيات القرن الماضي ، بعدها تسارعت وتيرة الدعوات لتشكيل حركات وأحزاب قومية عربية ،
في بلاد الشام ، وراحت الجماهير تُعبر عن رغبة عارمة بالإنتماء للقومية العربية حتى باتت مهووسة بالفكرة ،
بادرت الجامعة الامريكية (البروتستانت) في لبنان بعمل مجالس وتجمعات ثقافية تدعو فيها لإنشاء الحركات القومية سراً لأن لبنان كان انذاك تحت سلطة الإحتلال الفرنسي (الكاثوليك) ، أخذت الجامعة على عهدتها الإشراف وتمويل إنعقاد تلك المجالس و التجمعات الثقافية ،كما قامت برعاية المناظرات الفكرية التي تهدف الى إيقاظ مشروع القومية العربية وذلك باستقطاب طلبتها أولاً ثم دفعت بأولئك الطلاب للتوجه إلى المقاهي والمجالس الخاصة لنشر فكرة نهوض القومية العربية ،
عقب نكبة فلسطين عام 1948 م خرجت الجماهير العربية إلى الشوارع احتجاجاً على صمت حكوماتهم ازاء أزمة الشعب العربي الفلسطيني وراحت تدعو وتهتف للفكرة القومية بشكل علني ،
على أثر ذلك تم تأسيس حركة القوميين العرب في لبنان بين أوساط طلبة الجامعة
الأمريكية في بيروت ثم انتقلت إلى الشام حيث ضمّت في صفوفها عدد من الأردنيين والفلسطينيين والكويتيين والعراقيين ،
ومن أبرز الشخصيات التي شاركت في تأسيس هذه الحركةأحمد الخطيب و جورج حبش و حامد الجبوري و هانيالهندي و وديع حداد و صلاح الدين صلاح ،
وبنفس الزمن أيضاً تأسست واحدة من أقوى الحركات القومية العربية والتي فرضت وجودها السياسي في الوطن العربي ألا و هي حركة البعث العربي التي تبنت الفكر القومي الاشتراكي وكتابات المفكر اللبناني الأصل والسوري المولد الكاثوليكي الدين والشيوعي الإشتراكي المُعتنق ميشيل عفلق الذي سافر لإكمال دراسته الجامعية في فرنسا اثناء فترة الاحتلال الفرنسي للبنان لكن رجع بعدها لسوريا وهو يعتنق ويتبنى فكرة القومية العربية لذلك بدأ يكتب ويُنظّر للفكر القومي العربي بدلا من الفكر الشيوعي الإشتراكي،
مسيرة الحزب للفترة من عام ١٩٥٠ إلى ١٩٧٠ م
تم تغيير واستبدال اسم حركة البعث العربي باسم حزب البعث العربي الاشتراكي،وتم تشكيل قيادة قطرية سورية لحزب البعث بقيادة ميشيل عفلق وصلاح البيطار واتباع الأرسوزي (منهم حافظ الاسد) ،
وقد قام الحزب بتاريخ ٨ آذار عام ١٩٦٣ م بانقلاب على الحكومة السورية ليبدأ عهد حكم جديد في سوريا ،
لكن حافظ الأسد قام بالإنقلاب على رفاقه البعثيين لينصب نفسه أميناً عاماً للقيادتين القومية و القطرية لحزب البعث العربي السوري وكذلك هو القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الدولة ثم ورّث المناصب والحكم لإبنه بشار الأسد فجعل الحزب والدولة ملك عضوض لآل الأسد بدل الحزب الجماهيري ،
أما في العراق فقد تم تشكيل أول قيادة قطرية لحزب البعث العربي الإشتراكي ضمت كل من
فؤاد الركابي و فخري ياسين قدوري وجعفر قاسم حمودي وشمس الدين كاظم ومحمد سعيد الأسود بعد نجاح ثورة ضباط الجيش العراقي عام ١٩٥٨ وإسقاط نظام الحكم الملكي واستبداله بالنظام الجمهوري ،
إلا أن صراع قيادة حزب البعث (ميشيل عفلق) مع الحزب الشيوعي العراقي ادى لابعاد حزب البعث عن المشاركة في السلطة ،
فقام الحزب بالتخطيط لانقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ م مع شركاءه مجموعة من ضباط الجيش العراقي ،
أول قرار اتخذه الحزب هو تشكيل ميليشيا مسلحة سميت بإسم الحرس القومي ، قامت هذه الميليشيا بمجزرة دموية ضد أنصار وأعضاء الحزب الشيوعي العراقي كرد انتقامي منهم على المجزرة التي قام بها الحزب الشيوعي بالموصل في آذار عام ١٩٥٩ م ،
سرعان ما انقلب ضباط المؤسسة العسكرية على حزب البعث ليتم استبعاده مجدداً من السلطة في تشرين الثاني عام ١٩٦٣ م ،
أما فيما يخص الصراع داخل قيادة حزب البعث فقد ظهر للعيان صراع داخلي حاد بين حافظ الاسد وميشيل عفلق أدى إلى طرد الأخير من القيادة القومية واستبعاده من سوريا ،
فانعكس ذلك الصراع على حزب البعث قيادة العراق مما ادى لحدوث انشقاق عام ١٩٦٦ بين القيادتين العراقية والسورية واستحداث قيادة قومية جديدة في العراق فأصبح الحزب حزبين والقيادة القومية قيادتين قوميتين متخاصمتين يحملان نفس صفة واسم الحزب لكن كان كل واحدة منهما كانت تُقلد الآخرى في قراراتها وسلوكها ونهجها ،
في ١٧ تموز عام ١٩٦٨ م قام حزب البعث العربي الإشتراكي في العراق الكَرّة مجددا بقيادة إنقلاب بمساعدة بعض من ضباط الجيش المتعاطفين مع الفكر القومي أفضى هذا الإنقلاب إلى تسلم حزب البعث لسدة الحكم في العراق بعد تصفية شركائه من الضباط في ٣٠ تموز ١٩٦٨ م وتم تنصيب احمد حسن البكر رئيسا للجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة وقيادة قطر العراق ،
لكن ما لبث وان عاد للعيان مجددا الخلاف السياسي القديم مع الحزب الشيوعي العراقي وبعض الأحزاب الإسلامية ،
مسيرة الحزب للفترة من ١٩٧٠ إلى ١٩٩٠ م شكل حزب البعث مع الحزب الشيوعي الجبهة الوطنية التقدمية هدفها الشراكة في قيادة العراق ثم تم ضم الحزب الديمقراطي الكوردستاني معهما ومنح الأكراد حكم ذاتي عام ١٩٧٣ -١٩٧٤ م لكن استحواذ حزب البعث على المؤسسة العسكرية والأمنية دون الباقين ثم ممارسة حزب البعث بمراقبة ومطاردة واعتقال واغتيال بعض من قادة وأعضاء الحزب الشيوعي وكذلك الحزب الكوردي دفع بالحزبين إلى التخلي عن هذه الشراكة وخاصة بعد إقصاء وتنحية رئيس الجمهورية والقائد العام احمد حسن البكر وتنصيب صدام حسين بديلا عنه ، ليبدأ العراق في عهد جديد ، إستحوذ الرئيس صدام حسين على كل المناصب العليا سواء في الحزب او الدولة حيث تم حل الجبهة الوطنية فاستبد حزب البعث بالسلطة وحيدا وأطلق صفة نظام الحزب الواحد على حكمه ، وعاد من جديد الصراع السياسي بين الأحزاب ،
دخل العراق الحرب مع ايران عام ١٩٨٠ م حتى ١٩٨٨ م مُعلناً نظام الطواريء تم فيه دمج الحزب مع المؤسسة العسكرية والأمنية وتم تشكيل ميليشيا الجيش الشعبي دعماً من الحزب للمجهود الحربي متخليا عن دوره في التخطيط الفكري والثقافي والثورية و القيادة تخلى عن كل ذلك وجعلها مركزية بقيادة صدام حسين الذي دفع هو شخصياً بمسيرة الحزب لتنحى هذا الإتجاه إستناداً لتوجيهات قائده بالإضافة إلى تحجيم نفوذ الحزب ودوره في ادارة السلطة ، فأصبح حزب البعث العربي الإشتراكي مجرد مرآة تعكس صورة وفكر القائد فقط ولا تملك اي قرار ،
مسيرة الحزب للفترة من ١٩٩٠ لغاية ٢٠٠٣ م
حاول حزب البعث العربي الأشتراكي من جديد بعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية عام ١٩٨٨ م أن يؤسس له قاعدة جماهيرية ضخمة لأنه فقد الكثير من ميزاته الجماهيرية والثورية التي كان يملكها ويتباهى بها في السبعينات وراح يحاول أن يُصدّر نموذج حكمه لبعض الدول العربية وخاصة عندما خرج العراق منتصراً من حربٍ طال أمدها ٨ سنوات عجاف فحاول ان يبني الحزب له صرحاً خالداً يُخلد ذكراه على مر التاريخ لكنه وقع في مستنقع عميق من المشاكل المعقدة بينه وبين الدول العربية وبالأخص دول الخليج ،
سرعان ما حسم الحزب قراره بإسناد قائده الذي قرر أن يَنقُض معاهدة ميثاق الدفاع العربي المشترك للجامعة العربية عندما قام بغزو دولة الكويت يوم ٢ آب ١٩٩٠ بعد خلافات سياسية حادة بينهما أدى ذلك الهجوم إلى تحطيم صورة فكرة القومية العربية عند الشعب العربي وتفككت روابط الدول العربية وألقى ذلك القرار بثقل سلبي على كاهل المواطن العربي ،
دفع العراق والأمة العربية الكثير الكثير من التبعات السلبية وفاتورة ضخمة بسبب تلك المغامرة والقرار الذي اتخذه صدام حسين شخصياً بدون علم قيادات الحزب أو الموسسة العسكري عدا قيادات الحرس الجمهوري و أقرباء وعائلة صدام حسين ،
أُعتبرت المرحلة الزمنية بعد عام ١٩٩١ م هي بداية النهاية لمسيرة حزب البعث العربي الإشتراكي فقد بان على قاعدته الضعف والإرباك وبدت قياداته بالضمور والشعور بالتململ وعجز الحزب عن الاستمرار كونه حزباً وتنظيماً شعبياً و عروبياً فأصبح مجرد مؤسسة أمنية تابعة للدولة بدلاً من أن يكون الحزب هو القائد للدولة ،
أدت ظروف الحصار واضمحلال وضع العراق دوليا وسياسيا إلى تحول الجماهير العروبية عن قبلتها القومية وإنحسر وجود الفكرة القومية بعد أن تحطمت تجربة نموذج الحكم الجماهيري الثوري في العراق ،
دفع الهاجس الأمني والخوف من الخيانة في صفوف القيادة واكتشاف مؤامرات ومخططات انقلابية ضد صدام حسين إلى إستئثار صدام بمنصب القيادتين القومية والقطرية وقيادة الجيش والأمن بل لم يكتفي بذلك فراح إلى تصفية بعض من رفاق الدرب خوفاً من الإطاحة به وقام بتنصيب أقاربه وعائلته في المناصب الحساسة ،بل عيّن اولاده وصهره وإخوته وأبناء عمه لادارة المؤسسة العسكرية والأمنية كمساعدين له لتنفيذ توجيهاته شخصياً تشبهاً بالحكم الملكي الديكتاتوري ،
كل ذلك ولم تفلح القيادة السياسية في إيقاف التدهور في ادارة الحكم بل تم إكتشاف خيانة من داخل عائلته له (صهريه) فقام بتصفيتهم فحدث شرخ وصراع داخل العائلة وعشيرة صدام حسين أدت إلى زرع الكراهية بينهم ،
استمرّت مسيرة حزب البعث على هذا الحال بالترنح وقد تخلى عن التنظيم الشعبي والمنهج الثوري وأصبح مجرد اسم لتنظيم مُجمد حتى سقوط بغداد عام ٢٠٠٣ على يد الجيوش الامريكية وحلفائها من دول الجوار (٣٧ دولة ) وثلة من احزاب المعارضة لنظام حكم الحزب الواحد مثل الحزب الشيوعي وبعض الأحزاب الاسلامية واحزاب المخابرات الايرانية ،
على نفس النهج القديم الذي استخدمته الكنيسة البروتستانتية في بريطانيا وأمريكا ألا وهو إنشاء فكرة الإنتماء للقومية العربية بدلاً من الانتماء للعقيدة الدينية (الخلافة الإسلامية) طرحت امريكا وحلفائها فكرة الإنتماء الطائفي الديني المتشدد كبديل لوجود الأنتماء للفكر القومي العربي في سوريا حيث أججت وأيقظت أفكار التطرف الديني في تلك الدول مع دعم أفكار الإنتماء للأقليات القومية كخط موازي لمحاربة وجود عقيدة القومية العربية عند الشعب السوري ،
بالتالي فإن الخطة تهدف لتفكيك البنية التركيبية الإجتماعية في سوريا ،
ولم يقتصر الأمر على سوريا فقط بل سبق وإن إستخدمت امريكا نفس هذا الإسلوب في العراق وذلك بإيقاظ الإنتماء الديني الطائفي المتشدد ( الشيعي ماعش والسلفي داعش ) وفرضت المحاصصة على العملية السياسية وقيادة الحكم من اجل تفكيك التركيبة السكانية في العراق وبالفعل نجحت في تحقيق خططها حيث تم اسقاط فكرة القومية العربية ونجحت أيضا بتشتيت الروابط السكانية في العراق وتفتيت لُحمة الشعب ، وضماناً لعدم عودة الفكر القومي العربي مجددا أصدرت قانون اجتثاثه وتحريم الإنتماء له ثم فرضت كتابة دستور محاصصة ودست فيه قانون المادة ٤ ارهاب لمن يقاوم وجود العملية السياسية كل ذلك خوفا من نشوء مقاومة شعبية ضد المُحتل ،
لم تكتفي أمريكا وحلفائها بذلك بل شكلوا بمساعدة احزاب شيعة ولاية الفقيه ميليشيات ولائية ( الحشد الشعبي) لمساعدة امريكا في محاربة وإجتثاث الفكر القومي الذي هو الآخر إتجه إلى الإنكماش والإختفاء من الساحة السياسية ورجع إلى حقبة النضال السلبي نتيجة التهجير والاغتيالات التي طالت قادته والمنتمين له بل حتى من يذكر اسمه ،
تُعتبر هذه الحقبة الزمنية هي نهاية وجود الفكرة القومية حيث تم وأدها في العراق (حتى لو تواجدت في بعض الدول العربية فهي ضعيفة وتحت سيطرة نظام الحكم ) وبداية نشوء عصر جديد وأمة جديدة ألا وهو عصر امة الطائفية و الفتن .
—————————
تنويه
تمت كتابة البحث بحيادية لرسم صورة حقيقية عن مسيرة القومية والأحداث التي حدثت في العراق والوطن العربي
—————-
المملكة المتحدة - الثاني عشر من أيلول عام ٢٠٢٤
*المصادر :
يقظة العرب // جورج حبيب إنطونيوس
كتاب حقيقة القومية العربية // محمد الغزالي
الحركة القومية العربية في القرن العشرين // هاني الهندي
المعايشة الشخصية للكاتب لفترة حكم حزب البعث العربي الاشتراكي