نزاهة انتخابات إقليم كردستان العراق محل تشكيك
انتخابات لا تحمل الكثير
يتجه إقليم كردستان العراق إلى الانتخابات في وقت صعب وحاسم بالنسبة إليه؛ إذ يواجه عددا كبيرا من التحديات التي ستؤثر بلا شك في الانتخابات وفي سلوك الناخبين التصويتي.
العرب/أربيل (العراق) - بعد مرور أكثر من ست سنوات منذ آخر مرة توجه فيها الناخبون إلى صناديق الاقتراع، يستعد إقليم كردستان العراق لإجراء انتخابات تشريعية طال انتظارها في 20 أكتوبر. ويرى وينثروب رودجرز، الصحافي المقيم في السليمانية بإقليم كردستان العراق، في تقرير نشره معهد واشنطن أن هذه الانتخابات تأتي في ظل تحديات سياسية واقتصادية وجيوسياسية خطيرة، ما يجعل مسار الإقليم ووحدته ومؤسساته على المحك.
وعقب بدء الحملة الانتخابية في منتصف سبتمبر الجاري، ستكون للانتخابات وسياقها أهمية كبيرة في تقييم مدى تحقيقها للمعايير الديمقراطية الأساسية، بما في ذلك نزاهتها وشفافيتها.
ورغم أن المسؤولين الأكراد والدبلوماسيين يعبرون عن أملهم في تجاوز إقليم كردستان هذا التحدي، إلا أن وجود نظام انتخابي فعال لا يعني بالضرورة نتائج ديمقراطية، إذ يمكن للعوامل الداخلية والخارجية أن تعرقل تحقيق هذه النتائج. ولذلك من المهم الإقرار بأوجه القصور قبل الانتخابات وأثناءها وبعدها. وإلا سيكون هناك خطر من إضفاء الشرعية على نتيجة “مقبولة بما يكفي” لا تؤدي إلا إلى تعزيز أوجه الخلل المناهضة للديمقراطية القائمة بالفعل.
وعلاوة على ذلك هناك بعض العوامل الداخلية التي تثير القلق بشأن العملية الانتخابية: أولاً، يمارس الحزبان الحاكمان -الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني- نفوذاً كبيراً على وسائل الإعلام وقوات الأمن والخدمة المدنية.
ثانياً، يتعرض الموظفون العموميون والمواطنون العاديون لضغوط وتحفيزات من أجل التصويت لصالح الحزبين الحاكمين، فيما يتكبد المعارضون تكاليف باهظة. ثالثاً، تراجعت مشاركة الجمهور في العملية الانتخابية نتيجة الاعتقاد السائد بأن التغيير عبر صناديق الاقتراع أمر مستحيل تحقيقه. وتخلق هذه العوامل مجتمعة ساحة غير متكافئة، وتحد من إمكانية تحقيق أي تغيير حقيقي، وهي أمور يمكن التنبؤ بها بدرجة كبيرة، وقد تم رصدها خلال الدورات الانتخابية السابقة.
أما بالنسبة إلى العوامل الخارجية المؤثرة على العملية الانتخابية فهي أكثر تنوعاً، حيث يُسهم الدور الجديد الذي تلعبه الحكومة الاتحادية العراقية في الإجراءات الانتخابية، بالإضافة إلى تغيرات المشهد الجيوسياسي، في خلق حالة من عدم اليقين. ولأول مرة منذ حصول إقليم كردستان العراق على الحكم الذاتي في أوائل التسعينات، ستتولى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات إدارة العملية الانتخابية. وعلى النقيض، لم تكن مشاركة الأمم المتحدة والجهات الدولية الأخرى بالقوة نفسها التي كانت عليها في الدورات السابقة.
وتثير هذه العوامل الداخلية والخارجية مخاوف بشأن مدى حرية ونزاهة انتخابات 20 أكتوبر. وعلى الرغم من أن شركاء إقليم كردستان قد بذلوا جهودًا سياسية كبيرة للضغط على الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني من أجل إجراء الانتخابات في الأساس، إلا أن الوقت لا يكفي لمعالجة المشكلات المذكورة قبل توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع. وبالتالي قد يبدو إجراء الانتخابات، بغض النظر عن جودتها، إنجازًا للمحاورين الدوليين المحبطين، لكن ببساطة هذا ليس كافيًا.
وكان من المفترض أن تُجرى انتخابات برلمان كردستان قبل عامين، وأن يكون 20 أكتوبر هو التاريخ الخامس المعلن للانتخابات. وجاءت التأخيرات بسبب الخلافات المستمرة بين الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني، حيث اعتقد كلا الحزبين في عدة مناسبات أن مصالحهما لن تتحقق من خلال الاحتكام إلى الشعب، ما دفعهما إلى تعطيل العملية الانتخابية متذرعين بأعذار وتبريرات مختلفة.
وقد زاد توتر العلاقات بينهما إلى درجة أن الخلافات الإجرائية تصاعدت بينهما إلى حد العنف داخل برلمان كردستان. وفي نهاية المطاف انتزعت المحكمة الاتحادية العليا العراقية مسؤولية إدارة العملية من أيدي الحزبين، وأسندتها إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات. وفي يونيو قام رئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني بتحديد الموعد الحالي للانتخابات، وتنفس شركاء إقليم كردستان العراق الصعداء نتيجة لذلك.
وقد صرحت السفيرة الكندية لدى العراق كاثي بونكا لوسيلة إعلامية تابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني في 27 يونيو بأن حكومتها “مسرورة”، مضيفة “لدينا ثقة كاملة في أن السلطات تتمتع بالروح الديمقراطية وكل الخبرة اللازمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة”. ونظرًا للمغامرات السيئة التي أوصلت إقليم كردستان العراق إلى هذه المرحلة قد يبدو تصريح بونكا متفائلاً وساذجًا بالنسبة إلى المراقبين المحليين.
ومع ذلك تظل حرية الانتخابات ونزاهتها المعيار الذي تتوقعه الكثير من الدول من انتخابات 20 أكتوبر، وهو ما يظهر من خلال الاجتماعات المتكررة بين المسؤولين الأكراد والدبلوماسيين الأجانب. وعلى الورق يمتلك إقليم كردستان العراق (أو يكاد يمتلك) هذا النوع من الإطار القانوني، لكن على أرض الواقع يتأثر هذا الإطار بعوامل غير رسمية وتقاليد وسياقات تُحدث اختلالات في ميزان القوى بين الأحزاب وتؤثر على سلوك الناخبين.
وغالبًا ما تأتي أوجه القصور الديمقراطية في الإقليم من مصادر خارج نطاق القانون، ولا ينبغي أن يكون هذا الأمر صادمًا؛ فهي ديناميكية مألوفة وشائعة على مستوى العالم، فأي شخص ملمّ بالتاريخ السياسي لإقليم كردستان العراق أو سياسته سيتفهم ذلك بسهولة. وعندما تسعى السلطات الكردية والحكومات الأجنبية إلى إرضاء أطراف محددة على حساب أخرى، قد يشكل ذلك سياسة واقعية مبررة، لكنه في الواقع يأتي على حساب بناء معايير وممارسات ديمقراطية سليمة.
العوامل الداخلية
يشكل النفوذ الكبير الذي يمارسه الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني على المؤسسات الحكومية وقوات الأمن ووسائل الإعلام أحد العوامل الأساسية التي تسهم في خلق استحقاق انتخابي غير متكافئ وغير عادل في إقليم كردستان العراق. فمنذ عام 1991، وربما قبل ذلك، يهيمن الحزبان الحاكمان على المشهد السياسي في الإقليم، ولديهما دوافع قوية للحفاظ على هذا الوضع، إضافة إلى العديد من الوسائل التي تمكنهما من تحقيق ذلك.
وعلى الرغم من أن الحزبين يتقاسمان النفوذ على منطقتين جغرافيتين حصريتين، إلا أنهما يتشاركان في شغل المناصب العليا في مجلس وزراء حكومة إقليم كردستان وبرلمان الإقليم. كما يقومان بتوزيع الوظائف والمحسوبية داخل الوزارات والإدارات الحكومية المحلية، بالإضافة إلى التأثير على عملية تعيين القضاة.
ويخدم نحو ثلثي جنود البيشمركة في وحدات تمولها الأحزاب ويقودها ضباط محسوبون على هذه الأحزاب. كما تدين قوات الأمن الداخلي بالولاء الكامل للحزبين. وعلاوة على ذلك يسيطر الحزبان على موارد الدولة وصناعة النفط والغاز، ولهما علاقات وثيقة مع قطاع الأعمال. وفي المجمل توفر هذه السيطرة لكلا الحزبين قوة وموارد هائلة أكسبتهما ميزة مؤسسية كبيرة مقارنة بأحزاب المعارضة الضعيفة والمتشرذمة.
وينفق الحزبان موارد طائلة لضمان إقبال قواعدهما على التصويت ودعمهما يوم الاقتراع. وبالرغم من أن هذا قد يبدو أمرًا طبيعيًا، إلا أن الأمر في إقليم كردستان العراق يتجاوز ذلك ليشمل شبكات محسوبية واسعة يديرها الحزبان. وتمتد تلك الشبكات عبر مؤسسات حكومة إقليم كردستان، وقوات البيشمركة، وقوى الأمن الداخلي، والشركات الخاصة. ويدرك الموظفون العموميون وغيرهم أنهم مدينون بوظائفهم للأحزاب ويتوقع منهم التصويت بناءً على ذلك.
وغالبًا ما تأتي الضغوط للالتزام بهذا الإطار بطرق غير علنية وغير مرئية، ما يجعل من الصعب مواجهتها. والواقع أن الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني ينكران بشدة هذا الأمر. وغالبا ما تخصص الجهات الحاكمة، أو التي تطمح إلى الحكم، موارد كبيرة لتقويض الانتخابات الديمقراطية عوضاً عن تعزيزها. وينطبق هذا بوضوح على إقليم كردستان العراق في ما يتعلق بالثنائية الحاكمة.
ويتسم المشهد الإعلامي الذي يواجهه الناخبون في إقليم كردستان العراق بالانحياز الشديد، حيث ترتبط معظم وسائل الإعلام في الإقليم بأحزاب سياسية، ويدير كلا الحزبين منافذ إعلامية كبيرة؛ فعلى سبيل المثال يسيطر الحزب الديمقراطي على منصات إعلامية مثل روداو وكردستان 24 ووقائع كردستان، في حين يدير الاتحاد الوطني قنوات مثل كردسات والقناة الثامنة.
وتستغل هذه الأحزاب وسائل الإعلام التابعة لها لتأطير الأحداث بما يخدم أجنداتها السياسية، وهو أمر قد يتزايد خلال الحملة الانتخابية. بالإضافة إلى ذلك تقوم الأحزاب بتمويل ما يُعرف بـ”إعلام الظل” الذي يختص في نشر التضليل الإعلامي ومهاجمة الخصوم السياسيين بشكل منظم.
ويشعر الكثير من الناخبين بالإحباط الشديد إزاء هذه الديناميكيات، ويتساءلون بشكل مفهوم عما إذا كان التغيير ممكنًا عبر السياسة الانتخابية في ظل هذه الظروف غير المتكافئة. فقد شهدت نسبة المشاركة في انتخابات إقليم كردستان العراق تراجعًا مستمرًا، حيث انخفضت من 87 في المئة في عام 1992 إلى 60 في المئة في عام 2018.
وفي انتخابات البرلمان العراقي في بغداد كانت نسبة المشاركة في إقليم كردستان 36 في المئة. وبدلاً من التصويت لأي من الحزبين الحاكمين أو للمعارضة التي لم تلب التوقعات، يفضل أولئك الذين يشعرون بأنهم يستطيعون القيام بذلك البقاء في منازلهم بأمان. هؤلاء الناخبون ليسوا غير مبالين بالسياسة بحد ذاتها، بل يشعرون بعدم التفاعل مع نظام يقدم حوكمة سيئة، ويقيد حرية التعبير والتجمع، ويوفر فرصًا محدودة للإصلاحات الشعبية.
العوامل الخارجية
كانت المفوضية الإقليمية للانتخابات نفسها مثارًا للجدل، فأغلب أعضائها كانوا معينين من قبل الحزب الديمقراطي الكردستاني أو الاتحاد الوطني الكردستاني. وقد اتهمتها أحزاب المعارضة بغض الطرف عن الحزبين الحاكمين. ومع ذلك انتهى تفويض هذه اللجنة خلال الدورة الأخيرة لبرلمان كردستان ولم يتمكن الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني من الاتفاق على شروط بشأن تجديد سلطتها.
ونتيجة لذلك اضطرت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات إلى التدخل لإدارة العملية الانتخابية. ومن الناحية النظرية يُفترض أن يوفر ذلك قدرًا من الاستقلال عن نفوذ الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني، وهو ما يجعل المفوضية حَكَما محايدا نسبيا، على الأقل مقارنة بالمفوضية الإقليمية. وبالإضافة إلى ذلك عملت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بشكل واسع مع المجتمع الدولي لوضع إجراءات وتقنيات مكافحة التزوير.
وعلى عكس انتخابات عام 2021، لن تكون هناك بعثة مراقبة انتخابية خارجية لمراقبة انتخابات 20 أكتوبر، بل ستقتصر المراقبة على بعض الجهود المحدودة من قبل الدبلوماسيين والصحافيين وغيرهم، ما يعني أن قدرتهم على كشف مخالفات ستكون محدودة للغاية. كما يُعد طلب بغداد من بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) وقف عملها في العام المقبل إشارة واضحة إلى أن المجتمع الدولي سيقلل من تدخله في الانتخابات العراقية والكردية في المستقبل. وفي الواقع قد يكون هذا التوجه بدأ بالفعل، حيث ستكون انتخابات 20 أكتوبر أول اختبار لهذه الديناميكية الجديدة.
وفي السياق نفسه توحي التصريحات التي أدلت بها السفيرة بونكا بأن بعض الأطراف مستعدة لإضفاء الشرعية على العملية الانتخابية في 20 أكتوبر والسياق المحيط بها ووصفها بأنها “حرة ونزيهة” حتى قبل معرفة الحقائق الكاملة. وهذا موقف يثير القلق لكنه ليس جديدًا، إذ إن التضحية بالديمقراطية المحلية من أجل الواقعية السياسية ليست أمرًا جديدًا في إقليم كردستان العراق، ويُعد ذلك قصر نظر.
وليست الانتخابات التي تتيح للناخبين الأكراد اختيار قادتهم بشكل حقيقي مجرد حق مكتسب لهم ؛ بل إنها تزيد من احتمالات قيام حكومة إقليم كردستان بمعالجة العديد من القضايا المتعلقة بالحكم. ومع ذلك، يبدو أن هذا الهدف بعيد المنال؛ إذ تمكنت الأحزاب الحاكمة من فرض قيود على حرية الاختيار وإضعاف المنافسة العادلة بغية تعزيز مصالحها الخاصة على حساب العملية الديمقراطية الفعلية.