حلف المصالح الثابتة بين الدول الكبرى وإيران
نزار السامرائي
حلف المصالح الثابتة بين الدول الكبرى وإيران
ما زال الملف النووي الإيراني من بين أكثر الملفات إشغالا للمجتمع الدولي، وللقلق في الوطن العربي، فالدول الكبرى القريبة مثل روسيا، والبعيدة مثل أوربا والولايات المتحدة، لا تشعر بالقلق من هذا المشروع، لأن إيران حتى في حال حصولها على هذا السلاح، لا تجرؤ على مجرد التلميح بتهديد تلك الدول، على الرغم من أن السلاح النووي للردع أكثر منه للاستعمال في الحروب الحديثة.
ثم إن السلاح النووي لا يكفي امتلاكه لإثارة الهلع لدى الدول الكبرى، ما لم يكن مقترنا بامتلاك منظومة صواريخ دقيقة وبعيدة المدى، تكون قادرة على إيصاله إلى الهدف المخطط لاستهدافه، وهذا ما تمتلكه الدول الكبرى حتى الآن، فهي تمتلك أكثر من جيل من الصواريخ القادرة على إيصال القنبلة النووية إلى أبعد نقطة في الكرة الأرضية، بل قادرة على الدوران حولها، لذلك تتعامل الدول الكبرى مع الملف النووي الإيراني بكثير من اللامبالاة، في حين تقتصر المخاوف لدى الدول العربية بالمرتبة الأولى من السلاح النووي الإيراني.
ولأن فلسطين المحتلة قريبة إلى حد ما من إيران، ولأن حلفاء إسرائيل لم يأخذوا بمخاوفها من احتمال امتلاك إيران للسلاح النووي والصواريخ القادرة على إيصاله إلى الداخل الإسرائيلي، فقد أخذت المخاوف الإسرائيلية بالتزايد كلما رأت أن حليفتها الأولى "الولايات المتحدة" هي التي خذلتها عام 2015، عندما وقعت إدارة الرئيس أوباما اتفاقا غير دقيق في رسم حدود الالتزامات الإيرانية تجاه شركائها في ذلك الاتفاق، رأينا أن إسرائيل وكأنها شعرت بأن عليها أن تخوض معركتها السياسية والدبلوماسية منفردة، فأصبحت تتجاهل الضغوط التي تمارسها إدارة الرئيس بايدن، بل بدا أنها وصلت في إحدى مراحل الحرب القائمة في الوقت الحاضر، وكأنها تتمرد على محاولات بايدن لتغيير خططها الحربية، وكانت إسرائيل تعتمد في هذه التوجهات على أدوات الضغط التي تمتلكها داخل الولايات المتحدة وأوربا، وتجاهلت في المواجهة الأخيرة في الدول الغربية على جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها في غزة بشكل خاص ونظرت إليها على أنها جزء من أشكال الغضب المؤقت القابل للامتصاص السريع من جانب ماكنة التأثير السياسي التي تمتلكه من صحافة منحازة إلى جانبها، ذات قدرة عالية على غسل دماغ الفرد الغربي وإعادة قطاره على سكته السابقة.
واقع المنطقة يقول إن إيران ليست بحاجة إلى السلاح النووي، لأنها ليست مهددة من أي طرف إقليمي، أما الدول الكبرى لا تفكر بتهديد إيران لأمنها لأنها دول قوية، فضلا عن أن معظم دول العالم محمية بتحالفات عسكرية لمواجهة أية أخطار خارجية، ولعل ما يحصل في أوربا بعد الحرب في أوكرانيا، ما يؤكد استحالة ترك حلف شمالي الأطلسي لأي من الدول الأعضاء فيه، في مواجهة الخطر الروسي المفترض، والذي يُعيد إلى الذاكرة الغربية الاجتياح السوفيتي لأراضي معظم القارة الأوربية أثناء الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد أن تصاعدت حدة التصريحات التي أطلقها بوتين بشأن العودة إلى أمجاد الإمبراطورية الروسية التي تخلت عن كثير من أقاليمها لصالح الخرائط السياسية التي أعقبت نهاية الحرب الثانية.
إيران بحاجة إلى امتلاك السلاح النووي، كأعلى درجات الضغط على الدول العربية الآسيوية وبخاصة دول الخليج العربي وجزيرة العرب، ليتضافر مع قنبلة نووية من طراز قديم، سلاح الفتنة الدينية والمذهبية وما يرافقها من انقسامات حادة في مواقف دول المنطقة، لأن هذه المنطقة كما تراها إيران هي الأكثر التصاقا بمشروعها الامبراطوري الفارسي، الذي نجحت في تمريره إلى أوساط كثيرة بتغليفه بأردية الإسلام، وذلك برفع شعارات هي الأكثر جذبا للعواطف العربية، كالقضية الفلسطينية وتحرير الأقصى، مما لم يكن في قناعاتها الدينية أصلا.
وفي معارك الفعل ورد الفعل والرد على الرد وهكذا دواليك، ردت إيران على سلسلة من الاغتيالات الإسرائيلية التي استهدفت عددا من قادة الحركات والمنظمات المحسوبة على المحور الإيراني، وطالت عددا من قادة الحرس الثوري العاملين في سوريا ولبنان، فرأت أن هذا رد لها الاعتبار وثقة وكلائها بقدرتها على مواجهة التهديدات الخارجية، فقد ذكرت تقارير صحفية أن إيران أطلقت 400 صاروخ بالستي على إسرائيل، وبصرف النظر عن تأثير هذا الرد، فقد أعلنت إسرائيل أنها تخطط لرد كبير يتناسب مع التأثير النفسي والإعلامي محليا ودوليا، لكن الرئيس بايدن فاجئ الرأي العام الأمريكي والدولي، بممارسة أعلى درجات الضغط على إسرائيل إما لعدم القيام بأي رد، أو لتغيير أهداف الرد، وخاصة تجنب المنشآت النووية وقطاع النفط والغاز، وقدمت إدارة بايدن عرضا مغريا لإسرائيل يتضمن حزمة من الدعم المالي وتقديم أحدث الأسلحة لها، من أجل مواصلة الحرب في غزة ولبنان، وبخاصة تطوير منظومة الدفاع الجوي لمواجهة الصواريخ المضادة، والقنابل القادرة على اختراق المواضع المحصنة والانفاق في تلكما الساحتين، وتأتي هذه الضغوط في الوقت الذي أعلن فيه مدير وكالة المخابرات المركزية أن أسبوعا واحدا يفصل إيران عن امتلاك السلاح النووي وأن مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسب عالية بات يكفي لإنتاج السلاح النووي، فكيف تتخلى الولايات المتحدة عن شعارها السابق، بأنها لن تسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي حتى لو اضطرت لاستخدام القوة، وهذه هي الفرصة المواتية لها تماما، فبدلا من اقتناصها، راحت تمارس أشد الضغوط على إسرائيل لمنعها من تحقيق هذا الهدف، وتتحاشى بذلك حصول رد فعل إيراني غاضب.
لا أحد يستطيع تقديم إجابة شافية عن السؤال التالي، هل تستطيع إسرائيل تدمير البرنامج النووي أو جزء منه بصورة منفردة، أم أنها بمسيس الحاجة إلى دور أمريكي محدد، لا سيما وأن الولايات المتحدة وإسرائيل تشتركان في نظرة معلنة واحدة إلى المشروع النووي الإيراني، ولعلهما أكثر الأطراف تصريحاً بأنهما لن يسمحا لإيران بامتلاك السلاح النووي حتى لو اضطرتا لاستخدام القوة.
وهل هناك فرصة لاستخدام القوة ضد إيران لتدمير برنامجها النووي، بعد أن وصلت أوضاع المنطقة إلى ما وصلت إليه من توترات ساخنة تتيح الفرصة لأي تصعيد آخر من كل الأطراف، واستغلال الظرف بما يخدم خططها القديمة أو المستحدثة؟ هذه الأسئلة تعيد إلى الأذهان تدمير إسرائيل للبرنامج النووي العراقي عام 1981، هنا لا بد من سؤال، هل أخذت إسرائيل حينذاك موافقة الولايات المتحدة على هجومها على مفاعل تموز؟ أم أن الولايات المتحدة ومعها التحالف الغربي بمن فيهم فرنسا التي جهزت العراق بالمفاعل المذكور، كانت على علم بنية إسرائيل بتوجه الضربة له، وعندما وقعت الضربة لم تكلف نفسها مشقة الإعراب عن القلق لحصول تسرب إشعاعي على الأقل؟
العراق لم يكشف في أي وقت من الأوقات أهداف برنامجه النووي ولا المراحل التي قطعها، وإن كانت المعلومات تسربت بتفاصيل شبه كاملة إلى إسرائيل والدول العربية، عن طريق الخبراء الفرنسيين الذين أشرفوا على بناء المفاعل، فهل كان العراق يومذاك أكثر اقترابا من امتلاك السلاح النووي فعلا عما وصلت إليه إيران في الوقت الحاضر؟ أم أن الخطط السياسية هي التي تتغير، وتبقى البرامج والأهداف كما هي؟ أم أن الغرب لا يرى في البرنامج النووي الإيراني أي تهديد حالي أو مستقبلي له ولإسرائيل، على الرغم من التبجحات الإيرانية عن التطور الحاصل في برنامجها، وكذلك تهريب إسرائيل لعدة أطنان من وثائق ذلك البرنامج، بعد عملية مفاجئة وناجحة داخل إيران.
اللافت أن الولايات المتحدة كانت تتقلب بين مواقف إداراتها، ويبدو أن زاوية نظر كل رئيس أمريكي تفرض هامشا من التغيير السلوكي، لكن إدارة الرئيس باراك حسين أوباما وهو ثاني رئيس ضعيف في تاريخ الولايات المتحدة بعد جيمي كارتر، وهي الأكثر قربا من إيران وتفهماً لسياساتها وبرامجها الإقليمية، واعتقدت إدارة أوباما أنها يمكن أن توكل لإيران بعض الملفات السياسية والأمنية الإقليمية، لإشغال المنطقة بحزمة من الفتن الدينية والمذهبية، لكي تلجم توجهات التحرر السياسي والاقتصادي والتطور، في منطقة هي الأكثر جلبا لعوامل عدم الاستقرار وجذبا لاهتمام الدول الكبرى في العالم، إضافة إلى أن قدرة إيران العسكرية المدججة بمخالب نووية ستؤدي إلى سباق تسلح لا يعطي لدولها الفرصة بالتفكير بخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
إن العرض الأمريكي بتقديم الدعم العسكري لإسرائيل، بمقابل تغيير خططها في الرد على الضربة الصاروخية الإيرانية، يمكن إعطاؤه تفسيراً واحداً، وهو أن الولايات المتحدة تسعى لحماية إيران وإبقائها قوية تحت السيطرة، لإثارة الفتن المذهبية والسياسية في المنطقة ومقترباتها، بما يخفف الضغط على الوجود الأجنبي وعلى إسرائيل، وهنا يمكن رصد مقصد أمريكي واحد وهو أن أمريكا على استعداد لحصر ضحايا المعركة في الوطن العربي فقط حتى لو أدت الأسلحة التي تمنحها لإسرائيل إلى قتل المزيد من العرب في لبنان وغزة والضفة الغربية، ليضافوا إلى عشرات الآلاف من الضحايا من القتلى والمشردين والدمار الشامل الذي أصاب غزة وجعلها منطقة غير صالحة للسكن، وكذلك جنوبي لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت وعدة مناطق في البقاع، فما هو غاطس الاتفاقات الحاصلة بين إيران والولايات المتحدة؟
أرى أن إيران هي الدولة الوحيدة التي تلتقي عندها كل خطوط التصادم السياسي والعسكري في العالم وجلبا لمختلف أنواع التوافق بينها، ولنأخذ النموذج الروسي الذي يتزعم المحور المضاد للتحالف الغربي في العالم، إذ يتطابق الموقف الروسي مع الموقف الأمريكي في توفير الحماية لإيران من أية ضربة عسكرية إسرائيلية، فقد أشارت تقارير صحفية إلى أن روسيا طلبت من إسرائيل عدم استهداف مواقع الصواريخ الروسية من طراز S300 وs400، وهذا الموقف ليس جديدا على روسيا حاليا أو أيام الاتحاد السوفيتي السابق، فروسيا هي التي أقامت القاعدة الأساسية للمشروع النووي الإيراني وواصلت تطويره بحلقات أبعد، وحافظت على موقفها الثابت لحمايته، سواء في الأمم المتحدة أو في اجتماعات الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو في اجتماعات مجموعة (1+5)، ويبدو أن سداد الديون القديمة بين الطرفين قد حان وقتها.
وكما تخلت الولايات المتحدة عن شعارها السابق في اقتناص الفرصة لوقف البرنامج النووي الإيراني ولو بالقوة المسلحة، فإن إيران تخلت عن فرصتها في تدمير إسرائيل وهو الشعار الذي استخدمته جسرا للعبور إلى كثير من مجتمعات الوطن العربي وأفريقيا وآسيا، ولكنها لم تكن تريد أن تجازف بنفسها لتحقيق هذا الهدف، بل أرادت أن يتحقق هذا الهدف بتضحيات عرب صدّقوا في لحظة غياب الوعي، بشعارات إيران عن التحرير، ثم لتنقض عليه فتخطفه كما خطفت من العرب كل شعاراتهم وأعادت تصديرها إليهم.
إيران باختصار شديد على استعداد للتضحية بآخر فلسطيني وآخر عربي من أجل الوصول إلى هدفها الامبراطوري، وركوب موجة التباهي بأنها هي التي حققت الهدف، من دون أن تنزف قطرة دم واحدة، ومن دون أن تنفق سنتا واحدا، فالمال العراقي يتدفق عليها بلا حساب، بل إنها تحجز كثيرا مما يصلها من العراق تحت لافتة دعم المذهب لبناء اقتصادها.
وكمحصلة نهائية لما ينتظر المنطقة في ضوء نتائج عملية طوفان الأقصى، فإن الصراع الدائر فيها وإن اشتدت سخونته وبدا وكأنه يفلت من السيطرة، فإنه لن يخرج عن حدود ما هو مخطط له، وبعد أن تبرد المدافع ويخفت أزيز الطائرات والصواريخ، سترجع الشعارات الثورية لتفرض نفسها على الساحة، وبالمقابل سيحافظ سقف التهديد بالقوة الذي وضعته الولايات المتحدة على وتيرته ومستواه، وقد تذهب الدماء التي سُفكت بنيران أعداء الأمة من الشرق والغرب هدراً، وسيبقى الدمار الهائل الذي تعرضت له غزة بانتظار سخاء بعض الجهات المانحة، عسى أن تعيد بناء مستشفى أو مدرسة أو جامعة أو تعيد نازحاً الى بيته المهدّم، أما جنوبي لبنان وضاحية بيروت الجنوبية، فغالب الظن أن قَطَر ليست على استعداد لتحمل كُلَفهِ منفردة كما تطوعت عام 2006 لتفعل ذلك، فهي ليست جمعية خيرية أو منظمة إنسانية، وإنما هي دولة لها خططها وبرامجها التي لا يفهما كثير من العرب وأنا منهم، لأنها تسعى للإمساك بكل الخيوط، وقد تنجح حيناً، ولكنها لن تجد كل الطرق ممهدة أمامها.