بقلم: د. حسن محمد موسى
غــزة ".. ثبات فوق أمواج التهويل
تهويل كبير بالحرب والدمار تتعرض له المنطقة ,وخصوصاً قطاع غزة باعتباره الحلقة الأضعف في المنطقة أو في محور الممانعة (كما يحلو للبعض أن يصف), سهل الانكسار إذا اشتد الضغط عليه.
لكن هل حقيقة الأمر هي كذلك؟ من الواضح أن إسحاق رابين لم يكن وحده من تمنى زوال غزة عن الوجود وابتلاع البحر لها , فحقيقة الأمر أن الكثيرين تمنوا ويتمنون ذلك , فغزة ذات المنعة والكبرياء ضد كل الدخلاء لم تحن رأسها أو تستكن يوماً لمعتد أو مفرط كائناً من كان, فهي ناقوس الكرامة الذي صم آذان النائمين عن النصرة, فقض مضاجعهم وقطع سباتهم وأرق مآقيهم.
حملت هم النكبة بعد التهجير القصري الذي أعقبها والتجاء مئات الآلاف من المهجرين إليها, حيث أصبحت تحتوي على أكبر كثافة سكانية في العالم , لتشكل العائق الأساسي الأول ضد المشروع الصهيوني -المخطط له بعناية أن يمتد وتتسع رقعته معتمداً على عملية اكتساح ممنهجة للأرض الفلسطينية أولاً , ثم العربية فيما بعد- . لقد حصل ما لم يكن في حسبانهم, واصطدموا بالمعامل الأصعب الذي لن يكون أبداً لين العريكة في دفاعه عن عزته .
إن التخبط الذي أصاب العقلية الصهيونية أثناء تعاملها مع معضلة غزة كان واضح المعالم منذ البداية, مع أن البعض حاول عدم رؤيته فالمجازر التي نفذت عام 1956 بعد احتلاله خلال العدوان الثلاثي على مصر ,كذلك بعد النكسة سنة1967 وما تلاها من عمليات ترحيل جماعي لعدد كبير من شباب القطاع إلى مصر في مسعى لإفراغ القطاع من كثافته السكانية, لم يكن إلا من إرهاصات ذلك التخبط .
لقد اضطرت العقلية الصهيونية -من خلال الأمر الواقع الذي فرضته غزة - إلى اللجوء لاستراتيجية جديدة مبنية على الاحتواء والتطويع لأبناء الشعب الفلسطيني عامة, والقطاع بشكل خاص, معتمدة على أحدث أساليب الحرب النفسية، حيث الإغراء والخديعة والتلفيق والإرهاب, واعتمدت العامل المادي لجذب الشباب وخلق جيل غير مرتبط بالقيم وبعيد عن الانتماء ,يكون فارغ المضمون, يرتضي الذل والاستكانة , غير مؤهل لا وطنياً ولا عقائدياً, ولا يمتلك القدرات العلمية أو الثقافية التي تعينه على الثبات والتشبث بقيمه وأرضه , حاولوا معها تمرير مشاريع كثيرة للهجرة الطوعية إلى العديد من البلاد الغربية كأستراليا وكندا والدول الاسكندنافية .
ما أفلح ذلك كله , بل ثار الجيل الذي حاولوا ترويضه لتنطلق الانتفاضة تلو الانتفاضة, مما أصابهم بالهذيان والتشنج, فقتلوا واعتقلوا وقاموا بتكسير العظام على مشهد ومسمع من العالم في خطوة ذكرته بهمجية التتار وسادية أباطرة الروم. ولم يكتفوا بذلك بل سخروا كل آلاتهم وقدراتهم الشيطانية لقلب الحقائق وتشويهها, ثم خلط الحابل بالنابل لتتلاشى إبداعات الصمود, وتهتز المعنويات فتعتقد أن تضحياتها ضاعت هباء.
بعد أن فشلت كل محاولات إخضاع غزة, رغم أن المؤسسة الصهيونية عملت على إشراك العديد من القوى القريبة والبعيدة والصديقة والغريبة!! من أجل تطويعها, اضطرت تلك المؤسسة صاغرة وتحت وطأة ضربات المقاومة المسلحة إلى الانسحاب من القطاع, لتبدأ مرحلة جديدة من الحروب القذرة التي تهدف لإخضاعه بقوة الحصار والنار .
من الجلي أنهم لم يعلموا أو تناسوا أن الله عز وجل قد تكفل بالشام وأهله ، وأن أهل غزة هم جزء من هذه الكفالة, لن تصيبهم مجاعة ولا حتى وباء , فمثلما أن أنفلونزا الطيور والخنازير تلاشت بعد أن وصلت غزة كذلك تلاشى وباء حمى( الشرق الأوسط الجديد أو الكبير) ، والذي كان أحدث ما توصلت إليه أدمغة الشر, وسَوََقته كونداليزا رايس فأصاب الرؤوس الكبيرة في الشرق الأوسط بالوهن والخنوع, وبقيت غزة الحصن الحصين, صاحبة المناعة الصلبة شامخة في وجهه, لم يستطع أن يتخطى أسوارها رغم كل محاولات كسر المناعة بمنع الغذاء وقطع الكهرباء , وإغلاق المداخل والمخارج وكل المنافذ.
ولقد كانت المفاجأة المحيرة , والتي لم يتوقعوها أبداً أن تقوم أرض غزة بفتح معابرها على مصاريعها بعدما أغلقوا معابر البر والبحر، عادوا فدرسوا التاريخ من جديد ,علهم يدركون سر تلك المناعة والصلابة فوجدوها دائماً معبر حرية تزهو بأن يخطو فوقها المحررون أمثال صلاح الدين وقطز وبيبرس قي طريقهم لاجتثاث كل معتد أثيم على بلادنا الطاهرة, وليذوق التتار أول هزيمة في تاريخهم على أرض غزة, فتباد حاميتهم ومقدمة جيشهم هنالك على يد قطز وهو في طريقه لعين جالوت . ثم قرؤوا التلمود ليجدوا أن غزة شوكة سامة في خاصرة كل دويلة مارقة أقامها يهود أو غير يهود على ترابنا الطاهر, فهم لم يستطيعوا أبدا قهر غزة .
تيقنوا أنها لن تفتح أبوابها وقلبها بصدق إلا لكل شريف مؤتمن على دفء بحرها, وعذب نسيمها, وسحر قمرها, فحاولوا كسرها من داخلها بتدمير نسيج ترابطها , وضعوا فيها حصان طروادة , لم يفلحوا, وبقيت نسبة الخطيئة والإجرام كأدنى ما يكون, ونسبة الأمن والأمان كأعلى ما تشهده بقعة على البسيطة .
جن جنونهم فقرروا القتل باللهب ,صبوا عليها أعتى أنواع الحمم والفسفور وما أنتجت مصانعهم من وسائل الموت . لم يدر في خلدهم برهة أن غزة لن تتزحزح عن عزتها مهما كانت المرارة والألم .
بقيت غزة شامخة صلبة , هكذا أرادها الله عز وجل فأمدها برجال يفدونها ويحفظون كرامتها, عالية هممهم, لفظوا مغريات الحياة وراء ظهورهم, وتجلت في مزاياهم صفة الإيمان والانتماء, تركوا خبث الدنيا, وامتشقوا سيف الإباء والكرامة, لا يهينون, ولا يخضعون إلا لله عز وجل , لتكون غزة هي المنبع العذب الذي سيفيض بمائه الطهور ليغسل ما حوله من دنس الغاصبين .
لقد آن الأوان أن يتيقن كل من يتمنى زوال غزة بأن ألف حصان كحصان طروادة لن يسقطها ... وألف حرب كحرب الفرقان لن تخضعها ... وأن بحرها المخضب بعبق دماء شهداء الحرية لن يؤذيها أبداً.
وستبقى ثابتة رغم أمواج التهويل العاتية.
...