حن كعرب في زمن العجائب
الأعجوبة الكبرى أننا أحياء، وأننا رغم كل شيء نواصل الحياة ولا ننقرض تماما.
لو شرعت في تعداد عجائب حياتنا لما فرغت لأيّام، ولما كفت صفحات 'القدس العربي' لمجرّد سرد عناوين هذه الأعاجيب، لأنها لا تحصى، وهي تتضاعف، ولا تكّف عن إغراق أيامنا.
أتظنون أن آخر الأعاجيب السعوديّة ستنتهي بالمصافحة المدبّرة بين رئيس الاستخبارات السعودي السابق تركي الفيصل، وداني أيالون نائب ليبرمان؟!
لعلنا لتزاحم هذه الأعاجيب لم نعد نندهش، ونستثار...
بعض الأعاجيب بدأت تبشّر بخير، فمن غير المعقول أن لا تحدث معجزات في حياتنا تبرهن على أننا أحياء.
قرأت منذ أيّام قليلة خبرا في زحمة أخبار الأعاجيب، يقول بأن طفلاً عربيّا، في بلد عربي (ما) ـ والتعميم هنا كما لا يخفى بقصد تضليل الأعداء المتربصين ـ خرج من رحم أمه بأسنان!
تلك الأسنان ليست أسنانا لبنيّة، أو نتوءات صلبة في اللثة تشبه أن تكون أسنانا، كالتي تظهر في أفواه بعض العجائز الذين يطعنون في العمر.
الأسنان التي ولد بها ذلك الطفل أسنان حقيقيّة، يتمناها كثيرون منّا، نحن الذين اهترأت أسناننا ونحن نكّز عليها، ونصكها، بحيث نوشك من غيظنا أن نطحنها في أفواهنا.
طفل يخرج من رحم أمه المتلهفة على رؤيته بعد أن سكن في البيت اللحمي ـ بطن الأم ـ آكلاً شاربا نائما لاعبا وحده وعلى كيفه، متنقلاً بمواصلات مريحة دون زحام، ولا خلع بالكوع في الخاصرة، ولا انحناء في (الميكرو) المكتظ بمخلوقات عربيّة تختنق بأنفاس بعضها، تنفخ غلاً وحنقاً طيلة سفرة ذلك الميكرو ـ الصندوق، والذي لضيقه وعتمته وبؤسه يشبه قبور الفقراء في بلاد العرب.
هذا الطفل أثار ذهول أمّه، رغم أنها فرحت لأن أسنان وليدها لن تسقط، وهذه هدية من الله، فهو ولد بأسنان قويّة وإن كانت صفراء داكنة كأسنان المدخنين المدمنين.
هل كان يدخن وهو في رحم أمّه، مصغيا لتنهدات وتحسرات وتفجعات والده وهو يشفط أنفاس شيشة دخانها يملأ فضاء غرفة الأسرة..وهل تملك الأسرة أكثر من غرفة، وممّر يشبه ممرات الدوائر ( إيّاها) في بلاد العرب؟!
الخبر في الصحيفة يتوقف عند ولادة الطفل بأسنان، ولا يُطمئن إلى الإجراءات التي اتخذتها السلطات (المعنية)، التي بالتأكيد ستدرس الظاهرة، وتحتاط لتفشيها، وتتحسّب من عواقبها وانعكاساتها على الأمن (القومي).
لم يعقد كونسلتو أطباء لدراسة الحالة، ليس أطباء الأسنان وحدهم، ولكن أطباء الصحّة العامة، وأطباء علم الاجتماع، وعلم النفس، وأطباء الجينات.
في العالم (المتقدّم) تنجب الأسر طفلاً أو طفلةً ويكتفون، فهم هناك يحرصون على أن يعيشوا حياة سعيدة مفرحة لا يضيعونها في العناية بكتيبة أطفال، ولكنهم يضمنون للطفل، أو الطفلة، لا فرق، عيشا رغيدا سعيدا، ومستقبلاً مضموناً في وطن لا يهاجر مواطنوه ليموتوا في البحار والقفار، هربا من (نعمه) التي تدفع للفرار من جحيمه.
كان أسلافنا يرددون: الطفل يولد ورزقه يولد معه، ولكن في بلادنا العربيّة، ورغم ثروات النفط والغاز، وما لا يحصى من كنوز تبدد سّرا وعلنا، لم يعد الطفل العربي يولد ورزقه معه، فلا ينتظره سوى الفقر، والخوف من الأجهزة، والحزن لرؤية وجه أمه وأبيه المصفرين المكتئبين، وصراخ الأشقاء الجوعى الخائفين الأعلى من صراخ أي تظاهرة مرخصّة في بلد عربي.
في بلادنا يولد الطفل وبانتظاره الضرائب، والشرطة السياسيّة والجنائية التي تستقبله بتهم لا تنتهي، أولها دخوله البلاد عن غير الطرق القانونيّة، فأرحام الأمهات في بلاد العرب باتت مراقبة، ومشكوكاً في كل من يخرج منها.. وطبعا قائمة التهم ليس لها آخر.
في بلادنا العربيّة يولد الطفل وبانتظاره زنزانة ليست له وحده، فهذا ترف لن يحصل عليه مهما بلغ شأنه في المعارضة، ومهما ارتقى تعليما وثقافة، فهو في السجون العربيّة الديمقراطيّة يتساوى مع غيره، ومع غيره يدّس في الزنزانة مع عدد من أخوة ورفاق النضال، بحيث لا يمكن له أن ينام إلاّ بالدور مع الآخرين، حيث يقف البعض وينام البعض بلا أحلام، فالكوابيس لا تكّف عن مطاردة العربي الشقي نائما أو مفتّح العينين..لأنه ينام مُحملقا جاحظ العينين.
في بلاده العربيّة يولد الطفل البريء و..بانتظاره هراوات، و..أشخاص غلاظ مكشّرون، وإذ يفكّر في الهرب والعودة من حيث جاء، فإنهم ينسونه حليب أمه الذي لم يتذوقه ـ من أين للأمهات العربيّات حليب في أثدائهن وهنّ يعانين من سوء التغذيّة المتوارث ـ وإن عرفه بالسليقة، والفطرة، و..الاستعداد الوراثي، فمرحلة الطفولة لا تمّر إلاّ بالرضاعة التي هي حّق لكل مخلوق، حيوانا أو إنسانا.. في غير بلاد العرب!
الطفل العربي، يبدو أن الطبيعة، لحكمة إلهية، وبعد أن استشرت الأعاجيب، قد زودته بوسيلة دفاع عن النفس، وهي: الأسنان.. حتى يبدأ بها معركة كسب رزقه، والذود عن وجوده الفردي والجماعي.
ولأن الأسنان قابلة للتهشيم في بلاد العرب، بالقبضات الشرسة المعدّة لهذه الغاية، فقد صقلت الطبيعة أسنانه لتكون أنيابا حادة قادرة على أن تنغرس في تلك القبضات، والعضلات المنفوخة التي تمّت رعايتها لتنقّض على أي مواطن بتهمة وبدونها، فالنظم العربيّة تحميها القبضات، والقبضايات.
لم تنقل الأخبار الصحافية ما جرى للطفل، ولكنني من مصادر شبه موثوقة، حصلت على بعض المعلومات.
ذلك الطفل، ولد واجما، فلا هو يبكي، ولا هو يضحك..ولكنه ينظر أمامه وحوله بغضب!
وعندما أخرجت أمه ثديها المترهل، وكانت بانتظار هذه اللحظة منذ أوّل حركة له في بطنها، أشاح بوجهه، فخاطبته بحنو ورثته عن أمها:
ـ خذ بزّك يا حبيبي..هذا الحليب القليل ادخرته لك لهذا اليوم، وحتى لو ما في حليب يمّا يا حبيبي، فيه حنان بيكفي أنه يشبعك مدى العمر.
أمسكت رأسه برفق، وحاولت جذبه إلى صدرها، فذعرت مّما رأت.
الولد فتح فمه لينبهها إلى أن أسنانه ستؤذيها، فهو بالغريزة يمتلئ قلبه بعاطفة المحبّة لها، كيف لا وقد سكن في لحمها تسعة أشهر مريحة على أفضل وأكمل وجه، و..أفضل من أي إقامة في فندق5 نجوم؟!
أتوقع شخصيّا أن أعدادا كبيرة ستلد في قادمات الأيّام، من الأطفال العرب، بأنياب حادة، وما أتوقعه أيضا، وهذا بمثابة تحذير للآباء والأمهات العرب، كي يحرصوا على إخفاء الأطفال الذين يولدون بأسنان بارزة حادة، تحسبا من أن تجري عملية مطاردة للأطفال، ووضع اليّد عليهم ونقلهم إلى أماكن لا نعرف ماذا ستكون نهايتهم فيها، وبحجة مكافحة الإرهاب!
لن تمانع نظم الحكم العربيّة المعنيّة، التي ستخيفها الظاهرة، بل سترحّب، بأن تنتج (الجهات) الصديقة أمصالاً تلقّح بها قسرا الأمهات العربيّات، بحيث يلدن أطفالاً لا تنمو أسنانهم بتاتا، لأن العلاج الأنجع أن يكون العرب جميعا أمةً بلا أسنان ...
أطفال العرب يولدون بأنياب!
رشاد أبوشاور
10/02/2010