(1)
* مغني الدم
لمغنيك، على الزيتون، خمسون وتر
ومغنيك اسيرًا كان للريح..
وعبدا للمطر،
ومغنيك الذي تاب عن النوم..
تسلّى بالسهر..
سيسمي طلعة الورد، كما شئت:
شرر!
سيُسمي غابة الزيتون في عينيك!
ميلاد سحر!
وسيبكي، هكذا اعتاد،
اذا مر نسيم فوق خمسين وتر..
آه! يا خمسين لحنا دمويا
كيف صارت بركة الدم نجوما وشجر؟
الذي مات هو القاتل يا قيثارتي
ومغنّيك انتصر!
إفتحي الابواب يا قريتنا
افتحيها لرياح الاربعة
ودعي خمسين جرحا.. يتوهج:
كفر قاسم
قرية تحلم بالقمح.. وازهار البنفسج
وبأعراس الحمائم
..........................
احصدوهم دفعة واحدة..
احصدوهم!
...........
.....
حصدوهم..
................
.............
.............
آه، يا سنبلة الموت على صدر الحقول
ومغنّيك يقول:
ليتني اعرف سر الشجرة
ليتني ادفن كل الكلمات الميتة
ليت لي قوة صمت المقبرة
يا يدًا تعزف، يا للعار، خمسين وتر
ليتني اكتب بالمنجل تاريخي..
وبالفاس حياتي..
وغناء القبرة
...........
...........
كفر قاسم!
إنني عدت من الموت لأحيا، لأغني
فدعيني استعر صوتي من جرح توهّج
واعينيني على الحقد الذي يزرع في قلبي عوسج
انني مندوب جرح لا يساوم
علمتني لطمة الجلاد ان امشي على جرحي..
وامشي.. ثم أمشي.. وأقاوم!
(2)
* تشرين
أحاور ورقة توت:
- ومن سوء حظ العواصف ان المطر
يعيدك حية،
وان ضحيتها لا تموت
ولن تنزعي جلدها عن جفوني!
سأدفع مهر العواصف
مزيدًا من الحب للوردة الثاكلة
وأبقى على التل واقف
لأفضح سر العواصف.. للقافلة
أحاور روح الضحية:
ومن سوء حظ العواصف ان المطر
يعيدك حية..
ومن حسن حظك انك انتِ الضحية!
هلا.. يا هلا.. بالمطر!
(3)
الخريف الدامي
كان الخريف يمر في خلدي..
جنازة برتقال..
قمرا نحاسيا تلطّخ بالحجارة والرمال
وتساقط الاطفال في قلبي
على مُهج الرجال..
واذا أطلت الوصف قلت:
جراحهم كانت نصال.
كل الوجوم نصيب عيني..
كل شيء لا يقال
ومن الدم المطلول أذرعة
تناديني: تعال!!
يا كفر قاسم! ليس قايين أخي..
إني شهيد الاصدقاء
إني اخاف على المحبة من اساطير الشقاء
فلترفعي جيدا الى شمس تحنّت بالدماء
لا تدفني موتاك!
خلّيهم كأعمدة الضياء
خلّي دمي المسفوك..
لافتة الطغاة الى المساء
خلّيه ندًا للجبال الخضر..
يخترق الفضاء!!
لا تسألي الشعراء أن يرثوا زغاليل الخميلة
شرف الطفولة انها..
خطر على امن القبيلة
اني اباركهم بمجد يرضع الدم والرذيلة
واهني الجلاد منتصرا على عين كحيلة!
كي يستعير كساءه الشتوي من شعر الجديلة
مرحى لفاتح قرية!
مرحى لسفّاح الطفولة!
يا كفر قاسم!
ان انصاب القبور يد تشدّ..!
وتشد للاعماق اغراسي..
واغراس اليتامى اذ تمدّ
باقون يا يدك النبيلة!
علّمينا كيف نشدو
باقون مثل الضوء والكلمات..
لا يلويهما ألم وقيد
يا كفر قاسم!
ان انصاب القبور يد تشدّ..!
(4)
* القتيلة رقم 18
كان قلبي مرة عصفورة زرقاء
يا عش حبيبي
ومناديلك عندي، كلها بيضاء
كانت يا حبيبي
ما الذي لطخها هذا المساء؟
انا لا افهم شيئا يا حبيبي!
...............
............
أوقفوا سيارة العمال في منعطف الدرب..
وكانوا هادئين..
وادارونا الى الشرق
وكانوا هادئين..
.............
.............
لك مني كل شيء
لك ظلّ.. لك ضوء
خاتم العرس، وما شئت،
وحاكورة زيتون وتين
وسآتيك كما في كل ليلة
ادخل الشباك، في الحلم، وارمي لك فُلّة
لا تلمني ان تأخرت قليلا
انهم قد أوقفوني...
............
غابة الزيتون كانت دائما خضراء
كانت يا حبيبي.
ان خمسين قتيلا
جعلتها في الغروب..
بركة حمراء.. خمسين قتيلا
يا حبيبي..
لا تلمني..
قتلوني..
قتلوني..
قتلوني..
(5)
* القتيل رقم 48
وجدوا في صدره قنديل ورد، وقمر
وهو ملقى، ميتا، فوق حجر
وجدوا في جيبه بعض قروش
وجدوا علبة كبريت، وتصريح سفر
وعلى ساعده الغض نقوش
عندما شبّ اخوه ومضى يبحث عن شغل باسواق المدينة
حبسوه...
لم يكن يحمل تصريح سفر
انه يحمل في الشارع صندوق عفون
وصناديق آخر
آه! اطفال بلادي
هكذا مات القمر
(6)
* عيون الموتى على الباب
مروا على صحراء قلبي، حاملين ذراع نخله
مروا على زهر القرنفل، تاركين ازيز نحله
وعلى شبابيك القرى رسموا، بأعينهم، أهلّه
وتبادلوا بعض الكلام
عن المحبة والمذلهْ
ماذا حملتَ لعشر شمعات أضاءت كفر قاسم
غير المزيد، من النشيد، عن الحمائم..
والجماجم..؟
هي لا تريد... ولا نعيد
رثاءنا.. هي لا تساوم
فوصية الدم تستغيث بأن تقاوم
في الليل دقوا كل باب..
كل باب.. كل باب
وتوسلوا الاّ نهيل على الدم الغالي التراب
قالت عيونهم التي انطفأت لتشعلنا عتاب
لا تدفنونا بالنشيد، وخلدونا بالصمود
اننا نسمّد ليلكم لبراعم الضوء الجديد
يا كفر قاسم!
من توابيت الضحايا، سوف يعلو
علم يقول: قفوا! قفوا!..
واستوقفوا!
لا.. لا.. تذلوا!
دين العواصف انت قد سدّدته.
وانهال ظلّ
يا كفر قاسم! لن ننام.. وفيك مقبرة وليل
ووصية الدم لا تساوم
ووصية الدم تستغيث بأن نقاوم
ان نقاوم...
الشاعر محمود درويش