كتب فؤاد الخفش ...
بحزن وألم شديد تلقيت خبر وفاة المجاهد الفلسطيني ابراهيم زهران والد الشهيد زهران وأبو الأسرى والمعتقلين موسى وحمزه وشقيق الشهيد محمد وأحد المجاهدين الذين تشهد لهم معتقلات الاحتلال بالصلابة والقوة والرجولة .
جمعتني بهذا الرجل الذي انتقل إلى جوار ربه أيام من أصعب أيام حياتي كنت حينها معتقلاً في سجون الاحتلال وقد خضعت لتحقيق قاسٍ وفي أحد الأيام وأنا بساحة الشبح العامة وإذا برجل طويل القامة نحيف الجسد طويل يتقدم الخطى ومن حوله جنود الاحتلال حاولت ومن خلال كيس وضع على رأسي كنت قد استطعت بأسناني أن أصنع فيه ثقباً أن أتحسس منظر الرجل وكنت أدقق في ملامحه وأحاول أن أكذب عيني ولكن كل الشواهد كانت تشير إلى أنه رجل ستيني فلحيته البيضاء وظهره الذي أحنته الليالي والأيام كلها تدل على كبر الرجل.
مرت الأيام علينا صعبة قاسية ومع كل يوم كان يمر كنا نتمنى أن يكون اليوم القادم كاليوم الذي مضى ولكن عبثاً كان يكون أشد وأصعب وفي ذات يوم تم وضعنا بزنزانة ضيقة وكان ضيفي في هذه الزنزانة أبا موسى ... جلست أنظر في عينيه وهو ينظر إليّ وقد تغيرت ملامح وجهي وجسمي من شدة التحقيق وقبل أن أسأله عمن يكون قال لي يبدو أنك لا تعرفني ونسيت كم مرة زرتك في مكتبك في وزارة الأسرى وناداني باسمي ... خجلت منه واعتذرت له وتذرعت أني أنسى فقال لي أنا عمك أبو زهران وموسى وحموه زهران ... قمت من فوري وقبلت رأسه أربع قبلات قلت له هذه لك والثانية لموسى والثالثة لروح ولدك الشهيد زهران والرابعة لابنك الأسير حمزه
وجلسنا وبدأ الحديث عن طريقة اعتقاله وعن أنهم يريدون منه أن يشهد على ابنه موسى وأنه قادر على تحمل التحقيق وبدأ يدب في جسدي الحماسة والروح العالية ... كنت أستمع له بشغف وكنت أحثه على الاستمرار .... حدثني عن يوم استشهاد ولده زهران وكيف استقبل أشلاءه واحتضن جثمانه وكيف كانت ابنته الوحيدة تنظر إليه ... حاول إخفاء دموعه .. وحاولت أنا أن أخفي دموعي ... أخذ نفساً عميقاً واستمر يحدثني عن أولاده... موسى الآن في سجن نفحة خضع لتحقيق قاسٍ وضرب المحقق الإسرائيلي وهو اعتقل عدة مرات وأمضى أكثر من عشرة أعوام في سجون الاحتلال ، وعن ابنه الثاني حمزة والذي حاول أن يخطف جنود الاحتلال والذي أمضى هو الآخر قرابة العشرة أعوام في سجون الإحتلال، وقصص لا تعد ولا تحصى عن اقتحام بيته واعتقال أبنائه والتنكيل بهم .
اتكأنا بزنزانتنا الضيقة وسرقنا لحظات ضحكنا بها بعد أن كنا قد بكينا بتذكر الابن الشهيد والأسير والمعتقل ... مازحني ومازحته وقلت له أنت رجل عظيم أنجبت أبناءً عظماء لم تبخل على فلسطين وقدمت لها الكثير وها أنت تدفع ضريبة حبك لوطنك وبلدك فطبت يا عماه وطاب جهادك .
هز رأسه وقال لي هذا واجبنا وهذه بلدنا لا خير فينا إن لم ندفع الظلم عنها ونقاوم المحتل وهذا قدرنا كشعب فلسطيني نرزح تحت الاحتلال ... وقال لي قبل نومك أوصيك بني بالثبات والصبر وتذكر معية الله واستشعار رحمته واصبر وكن كالطود شامخاً وإياك أن تؤذي إخوانك وبلدك وقضيتك ... والصبر وعدم الاعتراف أقرب الطرق للمنزل والبيت والحرية .
واليوم تلقيت خبر انتقال رفيق زنزانتي ووالد إخواني وأصدقائي ... والد الشهيد والأسرى أبو موسى وكان للخبر على نفسي وقع شديد وعاد بي شريط الذكريات للخلف وكأني بهذا الرجل وهو يدعو لي وأنا في ساحة الشبح صوته وهو يردد ( إن الله مع الصابرين ) يرن في أذني ، صوته وهو ينتقى الآيات وقت الصلاة ويجهر بها لكي يصبّرني ويثبتني أنا ومن معي في الزنازين أستحضره وقت كتابة هذه الكلمات ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) .
رحلت يا أبي ويا أخي ويا رفيقي في زنزانتي ويا من استلهمت من نفسه الصبر ومن كلماته التحدي ومن قامته السامقة كيف أتحدى سجاني وأن أسرق من بين أنيابه ابتسامة أخفف بها عن نفسي وأزرع في قلبه اليأس والانكسار ... رحلت وابنك موسى ما زال رهين محبسه ، رحلت لتلتقي زهران البطل الذي اغتالته طيارات الأباتشي رفيق الشهيد محيي الدين الشريف فبالله عليك بلغه منا السلام وقل له ما سقطت ولن تسقط رايتك يا بطلاً لا يغيب.
رحمك الله يا أبا الأسرى ويا والد الشهيد وصبّرك الله يا أخي موسى وحمزه في سجن نفحة فمصابنا بفقدان أبيكم لا يقل عن مصابك ويكفيكم فخراً أن أباك رجل في زمن عزّ فيه الرجال .