في شهرِ اللوزِ والأرضِ، وشمسُ الدماءِ تشرقُ على البلادِ، يُطالعنا يوم الغناء طفلاً، له وجهُ العيدِ والذّهبِ، من كرمل الدنّيا وشجر حليبها المجيدِ، إلى أرضِ السماءِ ونافذتِنا إلى الله .
وفي الطريقِ من حيفا إلى إيليا، بواباتٌ تُفضي إلى روح القبابِ، مشرعةً بعناقِ النجيعِ والنشيدِ، والقافيةِ العاشقةِ، المزدانةِ بأسماءِ إيليا الحُسنى أو أسماءِ عكا المعلّقةِ على الأقواسِ، ورداً ومنثوراً وملائكةً من براءةٍ وندى .
وكأننا نرددُ مع هذا الغناءِ القاسي بحنينه، والذابحِ بقشعريرةِ الجراحِ والدمع اليابس، ما ينبغي تأكيده، بتفاؤلِ الشروقِ وعنادِ الموجِ، بأننا عائدون، غير منقوصينَ، إلى الحُلمِ الواقعيِ، والترابِ المرنّقِ بالفجائعِ، الذي سنجعلهُ فردوساً لكلِ الوجوهِ واللغاتِ، للبشرِ والطيرِ والرضيعِ، ولزيتونةٍ لن يخلعوها عن عَرْشِها الأبديِ، بفعلِ الشريانِ وقصيدتهِ الصعبة .
وضفائرُ الحقائبِ، لفتى الرملة الرامي جدائلَهُ في أزقةِ يافا، أصواتاً أنقى، بمحبتِها وانتمائِها، من عِفّةِ الشجرِ، ليظلَّ طفلُ الصنوبرِ، وجوقةُ الكُحلِ السائلِ، هالةً تدُفّ حولَ المعابد، إلى أن يكونَ يومُ الخلاصِ الأكيدِ للأسوار .
إننا يا أمّ النور، عاصفةُ العباءةِ القانيةِ ورايةُ الحنّاءِ على الميدانِ، ونقشٌ في حِكْمةِ خِطابِك، الذي يحاصرهُ العدمُ المهزومُ ..
وأنتِ يا يبوس، فرسُ المدائنِ الشقراء، التي تمسكُ البرق، وتشيعهُ مواقدَ وقناديلاً، لنرى السلامَ شموعاً وزفّاتٍ وعرائشَ مائسةً بالدوالي والرقصاتِ، ونسمع الأغاني كما لم تحملْها الكلماتُ .. لأنها ستكونُ زهرةً زجاجيةً نرفعُهَا للعواصم .. إلى أنْ تُطاولَ النجومَ، وتصبحُ واحدةً بيضاءَ .. لها أسماءُ الحَمامِ والنرجسِ والأحلام .
هنا، في قوس قزح الإيقاع، يرقصُ الغزال على صهوةِ البركانِ، وتنصهرُ الدموعُ نثاراً من نَمَشٍ يتوهجُ في العتمةِ، وتخرجُ المآتمُ إلى احتفالِ السيلِ العميقِ، وهو يفترعُ الصمتَ والبور.
وهنا تستعيدُ الطرقاتُ آلامَها وهي تخبُّ نحو الجلجلةِ، لكنها تنتصرُ على الخَشبِ الظالمِ والأشواكِ، لتفتحَ دروباً للصغارِ الطالعينَ من حَبقِ الأكمامِ وصهيلِ القلعة، إلى فُحولةِ النَّرجسِ الجبليّ.
وفي الحروفٍ غيومٌ حمراءُ، تتناسخُ من أوردةٍ لم تتخثْر بعد ! وفي اللحنِ السائلِ حُرقةٌ تَجتْرَحُ البراعمَ من أسْدافِ القيدِ واللزوجةِ، لتشهدَ الآفاقُ البريّةُ غابةَ زعتر تتوالدُ من جديد .
هنا جذرٌ تنهضُ على غُصونهِ الحكايةُ من أوّلها، حتى لا ننسى! وفي فضاءِ الصوت الرسوليِ روايةٌ ستحملها الليالي إلى العاطفةِ واللحمِ الطريّ ِ، حتى تظلَ المداركُ حارسةً للأحلامِ والثوابتِ، ونعودُ كما كُنّا .
يا بئر السبع ويا غزة !
تليقُ بك الأعراسُ، وثوبُ الأساطيرِ يفيضُ منكِ، كأنه سنابلُ الماءِ الحُرّ ِ، وحنّونُ الربيعِ المشتعلِ، وعرباتُ النايِ في الوديان .
وسلامٌ على مَنْ تمسّ أرواحَنا بقيثارتها الماس، وتأخذُنا إلى جبل الياسمين، مذبوحين برمشِ الشرفةِ المصقول، ووتر الكمنجةِ الطفل .
-II-
أصعدُ إلى عيبال، فأرى الناصرة سجادة ضوءٍ تُهادلُ النجومَ. كأنني أقفُ على جبلِ البشارة، وأعمدةُ الرخام وشواهدُ الغابرين الأفذاذِ .. أرضي الراسخةُ . والقدسُ رغم جنونِ الوثنيّ، ما فتئت حقلَ صنوبرٍ وشبابيكَ حبق .
تتماهى المدنُ، فيصبحُ الجزّارُ معراجاً وردياً، ويصيرُ مقامُ الشيخِ تلّةَ التراتيل، وتمسي أجراسُ الزيتون قناديلَ الرمّان، وبابُ الإسراء مدخلَ اللّد، ودّوارُ الساعة ساحةَ المعلّقين على النْطع .
أما الطريق إلى سخنين، فأراهُ آيةً سماويةً حطَّتْ برمشها الفضيَّ، فانشقَتِ المساربُ نبضاً وأزهارَ ليمون .
وكأنَّ المسافةَ بين المدن كالمسافةِ بين الغيم والمطرِ، أو بين الأسوارِ والحاراتِ، أو بين النارنجِ والسُّكَّرِ. وقبلَ وصولي، إلى هنا، قبل ستة الاف عام، وبعد أن جففّت حواءُ مشيمتها على صخرة البحر العسقلاني، أوْدَعتني المدينةُ للمدينةِ دمعتها الزرقاءَ، ووشاحَها المُدمّى، وقُبْلَتَها الفراشةَ، لتكونَ رعشةً على جِيْدِ السّور، أو أعرافَ حصانٍ ينضحُ بالعسل .
ولفتى الجدائلِ، مثلما لفتيانِ المصاطبِ، الذين انتصروا بالجراحِ والأغاني وقبضانِ الريحِ، التي تُدَوَّمُ على الأبوابِ، بعبقريةِ الشهداءِ مع وقْفِ التنفيذِ، وهم يَرُجّون القضبانَ أو السماواتِ أو القلوبَ .
ولطبريا، هذا السَّرُّ الأشهى، المثخنُ بالضوءِ، والذي نُغَنَّيهِ، إلى أن تغوصَ الخيولُ في العِنّابِ، وتبشَّرَ بالكَرز .
ولكم، يا أهلَ المثلث، أرجوحةُ الماءِ، وغَضَبُ اليمَامِ، وتفاحةُ الأطفالِ الكبارِ، ونورسُ الجبلِ وهو على ذُرى شجرةِ الجليل، يرمي شقائق راهجةً بالنُعمان، فتفيضُ دفاتِرُهم وطفولتهُم المُهَجَّرةَ .
ومن صخرة النبي الذي ظللّته الغيمة، إلى العجيج في دغل القسطل .. خطواتُ الأنبياء، الذين ترسَّمَهمُ القتيل الشريف، فَوصَل الأعالي، حاملاً الأغصانَ وأكفانَ السرّيس، حتى تظلَ السواحلُ ممتدةً، تتجاوزُ هشاشة الحدودِ والوَهْمِ، وتؤكدُ على وحْدَةِ الكلام والحلم، وهي تثوبُ، رغم العدميّةِ والتغريبِ، نحو أَلَقِ المجابهةِ والممانعةِ، ومقاومةِ البشاعةِ والمغايرةِ والإندثار .
إنه حُلمنا، الذي يتفتّحُ مثلَ نوّار الرّبيع، لينفجرَ برقوقُ الحقولِ زغاريدَ وصبايا، وعَوْدةً إلى البلاد .
يا بلادَنا الباهظة كالحرمان . يا لوحةَ الحسَراتِ التي تتراءى بين الأصابعِ، فينشبُ، في جدرانِنا الكابوس.
يا مذبحةَ النبيّ الشاب، الذي جزّوا رأسَه، ورقصوا على دَمِه المُرَّ كتماثيلِ الثلج . يا خرابَ الجَنَّةِ، ويا دموعَ الرّبَّ، ويا قبورَ القمرِ، ويا نشيجَ شقيقاتِ الموج .
يا بلادَنا التي هجستْ بها الممالكُ، منذُ بابل، إلى أنْ نسينا قهوتَنا في غرناطة البعيد .
متى سأخرجُ من قَداسةِ الحنينِ، إلى ملحِ الصعاليكِ في الصحراء ؟
ومتى سنغنّي لامرأةٍ تُذيبُ الشمسَ، أو ترتبكُ المرايا من انحسارِ الحرير عن لبائها؟ ومتى سنصعدُ إلى التلال، ونبكي من فَرْطِ القُرْبِ، ونضحكُ من عَبَثِ النسيان، ونمشي خلف امرأةٍ غامضةٍ، للكهفِ المسحور .. ونصحو قبل السرجِ، ونعرفُ أنَّ وِسَادةَ السحابِ قد بالَغَت قليلاً في الغوايةِ ؟
ومتى يا إيليا .. سنعود ؟
-III-
كذبوا علينا .. إلى أن صدّقوا الفرية وصدّقناها ! وعندما عطشنا، ولم نجد غير الرمل، ذهبنا إلى الينبوع، وكسرنا الصخرة الكأداة الكالحة ! فانهمر مارسُ بالعندم، يعيد للقلب دورته الكاملة، ويوحّد الشغاف من جديد !
كذبوا علينا .. وما زالوا يكذبون ! لكننا نعرف هوامش الظلمة، ومبررات الانكسار، وسعْيهم المحموم إلى الخلاص الشخصي! ونعرف دعوات الباطل التي تتزيّا بالحق، ونعرف استبدال التبر باللّمعان، ونعرف إلى أي منحدر يسير هذا الجبل .
لم يستدرجوا الجبل، يا صديقي، لقد استمرأوا إطراء الأفعى، وأصابتهم رعدةُ السمّ، التي تأخذ شكل الذروة واللّذة والرّيانة .. لكنها قاتلة بامتياز .
ولم يجوعوا أو يعطشوا، أو يناموا في بيت العزاء، ولم يمزّقوا لحومهم على هوْل المذبحة المصوّحة .. لقد تمنطقوا السواد الزائل، وأتقنوا قليلاً بلاغة البكاء .. لكننا اكتشفنا اللعبة الممجوجة .. وكان لا بُدّ من صرخة الطين، ليسمعوا جميعهم .. لكنهم ما زالوا يكذبون ويتكاذبون .
وما زلنا نكتمل بزينتنا الجارحة !
بقلم : المتوكل طه