كتاب ذكريات طبيبة عراقية للدكتورة سانحة امين زكي
د.عدنان هاشم
كتاب ذكريات طبيبة عراقية للدكتورة سانحة امين زكي
وقع تحت يدي هذا الكتاب ؛ وقد هالني لأول وهلة حجمه الضخم بصفحاته الكثيرة التي تجاوزت السبعمائة صفحة والتي يليها ملحق الصور بحوالي مئة صفحة ، وتهيبت في البدء من قراءته ولكنني ما أن بادرت بقراءة الصفحة الأولى حتى بدأت صفحاته تتقلب أمام ناظري بسرعة ، وما أن مضت بضعة أيام حتى أنهيت الكتاب بكامله . ولكن قبل أن أسرد باختصار محتويات الكتاب لا بد أن أذكر معرفتي القصيرة بالمرحومة الدكتورة سانحة . فقد كنا في الصف الثالث في كلية الطب إذ طلعت علينا في القاعة الدكتورة سانحة لتلقي علينا محاضرة في علم العقاقير Pharmacology
و کان ذلك فی عام 1971 . كانت وقتئذ قد تعدت الخمسين من العمر ولكنها كانت على قدر كبير من الحيوية والجمال والأناقة ، وكانت تتكلم الأنكليزية بطلاقة كأنها من أهلها . ألقت الدكتورة سانحة علينا المحاضرة حول العقاقير الطبية ثم اختفت فلم نرها بعد ذلك ، وقد علمت من مذكراتها أنها غادرت العراق إلى لندن سنة 1972 لغرض الدراسة المتقدمة . ولم ألتقِ بها بعد ذلك إلا في بداية الألفين حين كلمتها تليفونيا وكانت تسكن في مدينة بيتربوره التي كنت أعمل فيها استشاريا لطب العيون ، وكنا على وشك اللقاء إلا أن ظروفا خاصة حالت دون ذلك وانتقلت من تلك المدينة ، وقد علمت أنها فارقت الحياة في تلك المدينة سنة 2017 عن عمر يناهز السبعة والتسعين عاما .
أول ما يلفت النظر في تلك المذكرات هو الذاكرة القوية التي تذكر فيها أدق التفاصيل التي مرت بها ، ولا يستطيع القارئ إلا أن يلحظ فيها حبها للحياة بكل ما فيها من متع وجمال مع ذكاء وقاد وقوة ملاحظة نادرة. ولدت سانحة في بغداد سنة 1920 من أم تركمانية من كركوك وأب كردي من أم عربية الذي كان ضابطا في الجيش العثماني ، فقد جمعت سانحة بهذا الدماء الثلاثة فيها .
تأخذنا سانحة في رحلتها الطويلة لتصف لنا بغداد القديمة في العشرينات والتي كانت ما تزال ترزح تحت تأثير المجتمع التقليدي في حَجْره على المرأة والحفاظ على التقاليد الموروثة ، وكيف أن رياح التغيير قد أخذت تهب ببطء أولا ثم ازدادت شدتها في أواخر عشرينات القرن الماضي حيث بدأت بوادر سفور المرأة في الظهور في شوارع بغداد وظهور دور السينما وازدياد عدد السيارات . وتصف إقامتها مع والديها في الموصل لمدة عامين ومن ثم عودتهم إلى بغداد في سن الرابعة من عمرها ، ثم تسرد سيرتها الدراسية ودخولها الفرع الأدبي في الإعدادية المركزية للبنات ، حيث كانت كثيرة المطالعة للقصص والكتب الأدبية وحفظت شعرا كثيرا للشعراء الأقدمين وبعض المحدثين .
وتذكر سانحة كيف التقت بطاغور شاعر الهند الشهير عندما زار بغداد وألقت بين يديه قصيدة نالت إعجابه ، ووصفت مرور الملك فيصل الأول في شارع الرشيد وكيف أن الناس اصطفوا في الشوارع والبالكونات لرؤيته والترحيب به ثم وفاته بعد فترة وجيزة ووصفت الحزن الشديد الذي عم طبقات الشعب لوفاته المبكرة . وتذكرسانحة أيضا وفاة الملك غازي المفاجئة في إحدى ليالي سنة 1935 وقد ذهبت هي ورفيقاتها لتقديم التعازي للملكة عالية رحمها الله .
تنتقل سانحة بعد ذلك لتصف دخولها الكلية الطبية وتخرجها منها سنة 1943 وتصف في الأثناء بعض الأمور الطريفة منها أن رجلا من أهالي الكاظمية اسمه سيد حسن كان يشتغل في قسم الأشعة ، وكان يلبس اللباس التقليدي للسادة بالصاية والطربوش الأحمر الملفوف بقطعة قماش خضراء للدلالة على أنه من ذرية آل البيت ، وكان هذا السيد كفوءا جدا حيث كان مصورا شعاعيا ولكنه كان يشخص الأمراض بالنظر إلى الرقوق الشعاعية ، وكان يحفظ المصطلحات الطبية اللاتينية ويعلمها طلاب الطبية رغم أنه لم يتخرج من أي مؤسسة صحية ، وكان الطبيب المختص الإنكليزي يثق به ويطلب معاونته. كانت الدكتورة سانحة وهي طالبة محبة للرياضة وقد أقنعت عمادة الكلية بتخصيص مساحة من الكلية لإنشاء ملعب للتنس ، وكانت هي وطالبة أخرى من أوائل الطالبات اللاتي لعبن هذه الرياضة المرغوبة في الثلاثينات من القرن الماضي.
تزوجت سانحة بعد تخرجها بقليل من قريبها إحسان رفعت الذي كان عائدا من كاليفورنيا بعد أن أنهى دراسته في حقل النفط . وسافرت بعد زواجها بقليل إلى انكلترا لمدة عامين لدراسة العقاقير وتصف لندن وصفا جميلا وكذلك سفراتها إلى شمال انكلترا وسكوتلندا وطبيعتها الساحرة كل ذلك باسلوب جذاب دون أن يصاب القارئ بالملل .
تصف سانحة أحداث الوثبة سنة 1948 وتصفها وصفا سلبيا متغافلة عن مئات الشهداء الذين قتلوا استنكارا لمعاهدة بورتسموث . ووصفت زيارتها إلى مصر ولقاءها بالملك فاروق وأخواته الجميلات وتعجبت للبذخ العجيب والقصور الجميلة والأثاث الفاخر في تلك القصور التي ليس لها مثيل في بغداد . وقد كانت قليلة الثقة بالضباط الأحرار الذين أسقطوا المللك فاروق ، وذمت إذاعة صوت العرب من القاهرة ومذيعها الشهير أحمد سعيد وذكرته بكثير من الإزدراء والأستخفاف .
وتذكرسانحة أيضا سفرتها إلى إيران مع وفد من الأطباء العراقيين لحضور مؤتمر طبي في إيران وذكرت كيف أن المرحوم الدكتور علاء الدين الخالدي من باب الفكاهة أخذ في تعليم زملائه الفارسية من كراس صغير بعنوان " كيف تتعلم الفارسية في سبعة أيام " الذي اشتراه قبل سفره بقليل وكأنه الخبير في تلك اللغة . وقد وصفت لقاءهم بالشاه الذي كان متجهم الوجه كما قالت وأعجبت بجمال الملكة ثريا الأسطوري والتي طلقها الشاه فيما بعد لعدم قدرتها على الإنجاب وفي خلال تجوالهم في المستشفى الكبيرفي طهران استغرب الطبيب الإيراني من ضحك الأطباء العراقيين عندما مروا أمام المختبرات والتي كتب عليها كارخانة فيزياء وكارخانة كيمياء ، لأن معنى الكارخانة في بغداد مرتبط بالمبغى أو ما يسمى عند البغداديين بالكلچیة . وقد سردت الدكتورة سانحة أيضا جولتها في الولايات المتحدة ورحلتها مع عائلة أمريكية لتقطعها عرضا From Coast to Coast وتصف جمال الطبيعة في المناطق الغربية التي حباها الله بالنعم من الخضرة والماء وجمال الطبيعة.
اكتشف الأطباء في بغداد في الخمسينات أن سانحة أصيبت بالتدرن الرئوي بعد أن أخذت تفقد الكثير من وزنها ، فذهبت على أثرها للإستشفاء في مستشفى على جبال الألب في سويسرا وعادت بعد سبعة شهور إلى بغداد بعد أن تماثلت للشفاء وكان العلاج في ذلك الوقت بزرق إبر الستربتومايسين مع الراحة التامة ، وليس كما هو الآن حيث لا ضرورة للراحة التامة مع توفر العديد من العلاج لهذه المرض .
أصيبت سانحة بجزع وحزن شديد لمقتل العائلة المالكة في صبيحة 14 تموز سنة 1958 ، وكانت تعتقد أنها بداية الكوارث للشعب العراقي ، وقد صدق ظنها فلم يذق العراق الراحة منذ ذلك الحين . وقد التقت الزعيم عبد الكريم قاسم وعباس المهداوي وماجد أمين في إحدى الحفلات التي أقامها الدكتور محمد الشواف وزير الصحة في القصر الأبيض على شرف شخصية كبيرة من الأتحاد السوفييتي ، وعندما خرجت من الحفل قالت لأحد معارفها أن عبد الكريم معلوماته لا تتجاوز مستوى طالب في الدراسة المتوسطة وأنها لا تعتقد أنه سيحكم العراق طويلا . وأعتقد أن في ذلك إجحاف في حق عبد الكريم قاسم الذي عرف أنه كثير المطالعة ولكن هكذا النفوس لا ترى خيرا قط في من لا تحبه .
نأتي لتقييم هذه المذكرات ؛ توقفت الدكتورة سانحة عن سرد مذكراتها عند سنة 1958 علما أنها استمرت في ممارستها للطب في بغداد إلى سنة 1976، ومارست الطب في المملكة السعودية في مستشفى الملك فهد لمدة خمس سنوات في الأمراض العقلية وخاصة علاج الشيزوفرينيا ، ثم تقاعدت تماما وسكنت مدينة بيتربوره الآنفة الذكر حتى وفاتها .
يلاحظ القارئ أن الكاتبة قد أطنبت في ذكر عائلتها وأقربائها حتى استوفت أكثر من خمسين ومئة صفحة من كتابها، وأغلب هذه التفاصيل خاصة لا تهم القارئ ويمكن حذفها دون أن تؤثر على مضمون الكتاب . وكذلك يرى القارئ أن ذكريات الدكتورة سانحة حول الحياة الطبية التي عاشتها سواء في العراق أو إنكلترا أو أمريكا شحيحة نسبيا إذا نظرنا إلى حجم الكتاب الضخم . وبالعكس يرى هناك تفصيلات كثيرة وكأنها سجل طويل حول الحفلات التي لا حصر لها و التي حضرتها سواء في بغداد أو لندن أو أمريكا والتي يمكن أن يهمل أكثرها دون أن يؤثر على الكتاب ، وتصف سانحة أيضا رحلاتها الكثيرة شرقا وغربا حتى سماها أقرباؤها " بنت بطوطة " والتي شملت البادية في ضيافة شيخ قبائل شمر وكثيرا من دول أوربا وأمريكا والعالم العربي ، وفي أثناء ذلك تراها في مواضع عديدة تدخل في تاريخ ملوك فرنسا وبريطانيا العظمى حتى تجعل القارئ يتسائل هل أنه أمام سرد تاريخي لأولئك الملوك! وما هي ضرورة ذكر أحداث تاريخية ماضية لم تعايشها في هذه المذكرات .
أما عن نشاطات الدكتورة سانحة الإجتماعية العامة فقد ذكر بعض الذين ذكروا سيرة الدكتورة سانحة أنها كانت من رواد الحركة النسوية في العراق ، ولم أر أثرا لذلك في هذه المذكرات إلا إذا كان ذلك يعني سرعة تحررها وسفورها المبكر وحضورها الحفلات المختلطة مع الطبقات العليا من المجتمع العراقي والغربي، ولم أجد صورة واحدة للدكتورة سانحة مع واحدة من كادحات العراق للدلالة على اهتمامها بشؤون المرأة العراقية رغم وجود المئات من الصور في مذكراتها . كانت المرحومة سانحة عضوة في بعض الجمعيات العراقية الطبية والأجتماعية ولكنها لم تذكر شيئا يذكر عن فعالياتها في تلك الجمعيات .
والخلاصة أن مذكرات الدكتورة سانحة أمين زكي كتاب ممتع لمن أراد المتعة وإن كان يحفل بالأخطاء النحوية والتي كان من الضروري تصحيحها قبل طبع الكتاب . ولم أجد الكتاب كثير الفائدة لمن أراد أن يتعرف بصورة أعمق على الحياة الطبية والصحية التي مر بها العراق منذ العشرينات وإلى وقت قريب .