اليــــــقظة الـأخيـــــــــــرة !
في غلس الليل العميق ، قد هب النسيم معطرا بأنفاس الفجر الأولى، نهض السابق وهو صدى الصوت الذي لم تسمع به أذنٌ بعد - فترك مقصورته وصعد إلى سطح بيته ، وبعد أن وقف هنالك طويلا ينظر إلى المدينة الهاجعة في سكينة الليل ، رفع رأسه ، وكأنما قد تجمع حواليه ارواح أولئك النائمين المستيقظة ، وفتح فاه وخاطبهم قائلاً :
" يا إخوتي وجيراني ، و يا أيها المارون ببالي في كل يوم ، إنني أودّ أن أناجيكم في نومكم ، وفي وادي أحلامكم ، أود أن أمشي مطلقاً عاريا ، فإن ساعات يقظتكم أشدّ غفلة من نومكم ، وآذانكم المثقلة بالضجيج كليلة صماء .
" لقد أحببتكم كثيراً وفوق الكثير .
قد أحببت الواحد منكم كما لو كان كلكم ،
وأحببتكم جميعا كما لو كنتم واحداً .
ففي ربيع قلبي كنت أترنم في جنانكم ،
وفي صيف قلبي كنت أحرس بيادركم .
" أجل ، قد أحببتكم جميعكم ، جباركم وصعلوككم ، أبرصكم وصحيحكم ، وأحببت من يتلمس منكم سبيله في الظلام ، كمن يرقص أيامه على الجبال والآكام .
" أحببتك أيها القوي ، مع إن آثار حوافرك الحديدية لا تزال ظاهرة في لحمي .
وأحببتك أيها الضعيف على رغم أنك جففت إيماني ، وعطلت عليّ صبري .
...
أجل أحببتكم جميعكم فتاكم وشيخكم ،
وأحببت قصبتكم المرتجفة كسنديانتكم الجبارة الراسخة ،
ولكن وا أسفاه فإنّ قلبي الطافح بحبّكم قد حوّل قلوبكم عني ،
لأن في وسعكم أن ترتشفوا خمرة المحبة من القدح الصغير ولكنكم لا تقوون على شربها من النهر الفياض .
" إنكم تستطيعون أن تسمعوا صوت المحبة عندما تهمس بآذانكم ، ولكنكم تصمون آذانكم عندما تصيح المحبة مهللة بأعلى صوتها .
وعندما رأيتم أنني قد أحببتكم جميعكم بالسوية، تهكتم قائلين :
" ما أسهل إنقياد قلبه ، وما أبعد الفطنة عن مسالكه !
إن محبته هذه محبة متسول جائع ، قد تعود التقاط الفتات ، ولو كان جالساً إلى موائد الملوك، بل هي محبة ضعيف حقير ، لأن القوي لا يحب إلاّ الأقوياء "
...........
أما أنا فقد كنت أقول في قلبي :
" لا بأس في ذلك ، فإني سأحبهم أكثر فأكثر ، ولكني سوف أسدل على محبتي ستاراً من البغض ، وأستر عطفي بشديد كرهي . وسأتبرقع ببرقع من حديد ، ولا أسعى وراءهم إلا مسلحاً مدرعاً "
وبعد ذلك ألقيت يداً ثقيلة على رضوضكم وجراحكم ، وكما تعصف العاصفة في الليل رعدتُ في آذانكم ،
" لقد لعنت قاصري النظر فيكم كما تلعن الخفافيش العمياء ،
" أما الفصحاء والبلغاء بينكم فدعوتهم متشعبي الألسنة ، ودعوت الصامت الساكن فيكم متحجر القلب والشفتين ، وقلت في البسيط الساذج :
" إنّ الأموات لا يملّون الموت "
" وحكمت أيضا على المأخوذين والمجذوبين بحبّ الأرواح وما وراء الطبيعة كمصطادي أشباح ، يرمون شباكهم في مياهٍ راكدة ، ولا يصطادون سوى ظلالهم البليدة .
" كذا شهّرتكم بشفتي ، ولكن قلبي ، والدماء تنزف منه ، كان يدعوكم بأرقّ الأسماء وأحلاها .
* أجل أيها الأصحاب والجيران ، فإن المحبة قد خاطبتكم مسوقةً بسياط ذاتها ،
" والكبرياء قد رقصت أمامكم متعفّرة بغبار خيبتها مذبوحة بآلامها ،
" وتعطشي لمحبتكم قد ثار ثائره على السطوح ،
" ولكن محبتي كانت تسألكم صفحاً وهي راكعة صامتة .
" ولكن إليكم المعجزة يا قوم :
" إن تستري قد فتح عيونكم ، وبغضي قد أيقظ قلوبكم .
والآن أنتم تحبونني !!
* إنكم لاتحبون سوى السيوف التي تطعن قلوبكم والسهام التي تخرق صدوركم ،
لأنكم لاتتعزون إلا بجراحكم ولا تسكرون إلا بخمرة دمائكم .
وكما يتجمّع الفراش حول اللهيب ، ساعياً وراء حتفه ، تجتمعون أنتم كل يوم في حديقتي ، وبوجوه مرتفعة ، وعيونٍ شاخصة ، تراقبونني وأنا أمزّق نسيج أيامكم ـ فتتهامسون فيما بينكم قائلين :
" إنه يبصر بنور الله ، ويتكلم كأنبياء المتقدمين فيحسر القناع عن نفوسنا ويحطم أقفال قلوبنا ، وكما يعرف النسر مسالك الثعالب يعرف هو أيضاً طرقنا ومسالكنا "
..........
وبعد أن فرغ السابق من كلامه غطّى وجهه بيديه وبكى بكاءً مراً ، لأنه أدرك في قلبه أن المحبة المحتقرة في عريها ، لأعظم من المحبة التي تنشد الظفر في تسترها وتنكرها ، وخجل إذ ذاك من ذاته .
ثم رفع رأسه بغتةً ، وكأنّه أفاق من نومٍ عميق ، وبسط ذراعيه وقال : " ها قد ولّى الليل ، ونحن أولاد الليل يجب أن نموت عندما يأتي الفجر متوكئاً على التلال ، وستعبث من رمادنا محبة أقوى من محبتنا ، وستضحك في نور الشمس ، وستكون خالدة "