الوطنُ.. حول سريري
عندما فتحت عيني في غرفة الإنعاش في مستشفى سان توماس في لندن, بعد الأزمة القلبيّة الخطيرة
التي أصابتْني, لم أصدّق ما تراه عيني....
فقد كان الوطنُ العربي كلُّه جالساً قربَ سريري, يذرفُ الدموع, ويضرعُ إلى الله كي يعيدَ إلى قلبي السلامة والعافيةَ...
***
كان مشهداَ خرافياً لا قدرة لي على تصويره. فكيف يمكنني أن أتصور أن مئتي مليون عربي, يمكنهم أن يحتشدوا في غرفة ضيقة يشغلها مشاعر عربيٌّ مريض؟؟
هل يكفي أن أكون واحداً من الشعراء العرب, حتى يأتي الوطنُ كله, بأرضه وسمائه, وأشجاره, وأنهاره, وبحاره, ورجاله, ونسائه, وأطفاله, ليدافع عن حياتي, ويمسح العرق عن جبيني, ويؤدي صلاة ً جماعيةً من أجل نجاتي؟؟
***
هل كتابة الشعر وحدها, تعطيني مثل هذا الامتياز العظيم؟
إنني لا أميل إلى هذا الرأي.
فالشعراء العرب أكثر من نجوم السماء, ورمل الصحاري, وعُشبِ البراري.
فلماذا يختارني الوطن العربي دون غيري من الشعراء, ويجعل غرفتي في مستشفى سان توماس مهرجاناً للورد. والعطر, ومكاتيب الهوى؟؟
ربما لأنني رفعت الكلفة بيني وبين الوطن, وجلست مع الناس على بساط المحبة والديمقراطية, وتقاسمتُ معهم لغةً شعريةً لا تختلف في بساطتها عن حديثهم اليومي.
وربما لأنني لم أمارس الغش والخديعة والنفاق في كتابتي, ولم أنحنِ أما سلطةٍ سوى سلطة الله...
ولأنني كنت شاعر الناس.. لم يتركني الناس لحظة واحدة, بل حموني بصدورهم وأهدابهم, واستوطنوا غرفتي رقم 12 في مستشفى سن توماس ليلاً ونهاراً...
***
إن الغرفة رقم 12 في مستشفى سان توماس, تشكل مفترقاً تاريخياً في تاريخ حياتي, ومحطةً كبرى في سيرتي الذاتية.
فقبل أن ادخل هذه الغرفة كنت شيئاً.. وبعد أن خرجت منها أدركتُ أنني أعيش ولادتي الثانية...
***
لا يعني هذا الكلام أنني قبل دخولي المستشفى في شهر أكتوبر 1997كنتُ شاعراً مجهولاً, ولكن ما حدث في الغرفة رقم 12, كشف لي كيف بوسع الشعر أن يجمع حولك الدنيا, وكيف بوسع الشاعر إذا وضع قلبه في كفه, وقدَّمه كتفاحة حمراء إلى الجماهير, فإن هذه الجماهير سوف تدافع عنه بأهدابها, في ساعة الخطر...
ويشهد الله أن ما لقيته في عشق الناس, كان فوق ما أتوقع وما أتخيل. وأن أمطار الحنان التي تساقطت على سريري اللندنّي لم تكن مجرد نهر صغير. بل كانت طوفاناً حملني بين ذراعيه وأوصلني إلى شاطئ السلامة...
***
إن الأزمة القلبية التي مررتُ بها أخيراً, لم تكن أزمة جسدية فحسب, بل كانت (استفتاءً) عظيماً لشعري.
ربما كان الاستفتاء موجعاً ودراماتيكياً, ولكنه في نظري كان استفتاءً ضرورياً لفرز الأوراق, وتحديد الأدوار, ولأعرف أين هو موقعي على خريطة الشعر!!..
صحيحٌ, أن الوسام جاءني من خلال الوجع والمعاناة, ومعركة الحياة والموت, ولكنه كان وساماً عظيماً عبَّر فيه الشعب العربي عن خياره.. وقال رأيه بشكل دستوري.
خلال شهري أكتوبر ونوفمبر 1997, تحول مستشفى سان توماس في لندن إلى مهرجان من الحنان والألوان, والرياحين, ومكاتيب الهوس, والبرقيات, والفاكسات, حتى غرق سريري في طوفانٍ من العشق لم أستطع مقاومته..
كان المشهد أقرب إلى ما يحدث في الروايات العاطفية العنيفة, حتى أن الأطباء والممرضات البريطانيين, كانوا يتساءلون: من هو هذا الشاعر العربي الذي حمل قبيلته معه, وجاء ليشغل أجنحة هذا المستشفى الانكليزي العريق؟
وهل كاد الشعب البريطاني على استعداد لإظهار مثل هذه العاطفة الغامرة نحو الشاعر الإنكليزي الشهير وليم شيكسبير؟؟
***
إن موقف العرب من الشعر لا يمكن تشبيهه بموقف أي شعب آخر. فالشعر عند العرب فيه الكثير من أوصاف السحر.. وتجليات النبوة. والشاعر العربي يأخذ لدى عاشقيه صورة الأولياء.. والقدّيسين!!..
لذلك لم أستغرب الدعوة الجميلة التي وجهها صالون العشرين الأدبي في لبنان, إلى الأدباء والشعراء, والعشاق, (للحضور إلى كنيسة سيدة حريصا يوم الجمعة 3 أكتوبر لإيقاد الشموع, والمشاركة في صلاة تضرع من اجل نجاة الشاعر الذي أعطى لبنان من الحب, ما لم يعطه شاعرٌ آخر..).
***
كيف يمكنني أن أقرأ هذه الأنباء, وأنا مستلقٍ على فراشي في لندن, دون أن تجتاحني رعشة زهو وكبرياء, ودون أن اعترف بجميل هؤلاء الأصدقاء الرائعين الذين أضاؤوا لي شموع المحبة على بعد آلاف الأميال في جبل لبنان, من أجل نجاتي, فلامستُ صلواتهم شرفاتِ السماء..
***
ثم كيف يمكنني أن أنسى كبار العرب, من ملوكٍ ورؤساء, ووزراء, وسفراء, وقادة, ورجال سياسة, ورجال فكر, وشعراء, ومثقفين, وفنانين, وصحافيين, الذين وقفوا مني هذا الموقف الحضاري الكبير, وأكدوا صداقتهم واحترامهم للكلمات الجميلة والشعر الذي لا يساوم.
***
لقد كانت ذبحة القلب التي أصابتني أخيراً.. على خطورتها. حدثاً رائعاً وجميلاً.. لأنها أرتني قبل أن أموت, أبعاد مجدي, كما أرتني أن بذور الحب التي زرعتها على مدى خمسين عاماً في تراب الوطن, قد ملأت الدنيا باللون الأخضر من المحيط إلى الخليج.
لقد علمتني ذبحة القلب, أن كتابة الشعر ليست مجرد نزهة في ضوء القمر, أو حفلة ألعابٍ نارية, ولكنها رحلةٌ باتجاه الهاوية.
فإذا أخذني الوطن بين ذراعيه, وسهر طول الليل قرب سريري فلأنني خلال خمسين عاماً كنت ضمير الناس ووجدانهم, وكنتُ صوت العشاق, والثوار, والأحرار, والمناضلين, كما كنت صوت النساء.. وسيسفهن المسلول..
خمسون عاماً مع الناس, كلّ الناس, كبيرهم وصغيرهم, غنيهم وفقيرهم, قويهم وضعيفهم, حتى صار شعري جزءاً من حياة الناس, وكلامهم, وطعامهم, وشرابهم, وتنفسهم..
***
أنني أعترف لكم أنني نزفت طويلاً على أوراقي, ودفعت ضريبة الشعر من جسدي ومن صحتي..
إلا أنني بالمقابل, اعترف لكم, أنني أخذت من حب الناس ما لم يأخذه أي شاعرٍ آخر..
***
لقد كنت أولّ شاعر عربي يمسك مجده بأصابعه, وهو على قيد الحياة.. ويرى حفلة عرسه بواسطة البث المباشر.. لا بواسطة شريط فيديو!!..
***
إنني أكتب لكم هذه الكلمات من الغرفة رقم 12 في مستشفى سان توماس في لندن, وان في حالة نفسية أقرب ما تكون إلى حالة الهذيان والجنون..
عن السرير الذي أرقد عليه يكاد يطير, ومعه يطير مئتا مليون عربي هم أهلي.. وقبيلتي.. ورعيتي..
ربيتهم واحداً واحداً.. من مراكش.. إلى بادية الشام.. إلى شطّ العرب..
مئتا مليون عربي لم يتخلف منهم رجلٌ.. ولا امرأة.. ولا طفل.. ولا تلميذ مدرسة.. ولا مثقف.. ولا نصف مثقف هبطوا كالعصافير على نوافذ غرفتي في لندن يحملون لي في مناقيرهم أزهار العشق.. وقمح المحبة..
خمسون عاماً حاولت فيها أن أؤسس جمهوريةً للشعر, ترفع أعلام الحب والعدل والحرية.. ويتكلم مواطنوها لغةً واحدةً, يتوج فيها النساء ملكاتٍ على مدى الحياة.
وها أنذا بعد خمسين عاماً أعلن من لندن انتصار جمهوريتي التي تمتد من العين إلى العين. ومن القلبِ إلى القلبْ...
***
وبعدُ... وبعدُ...
فإذا قدر لي أن أخرج من الغرفة رقم 12 في مستشفى سان توماس في لندن, وأنا أرفلُ بأثواب العافية, فلأن الحبَّ العظيم الذي طوقني به هذا الشعبُ العربيُّ العظيم هو الذي أعطاني الفرصة كي أعيشْ!!...
نزار قباني
لندن 1 كانون الأول (ديسمبر) 1997