(1)
لم يكن أكثر المؤمنين والمتفائلين بقدرات الشعب المصرى يصدق ما يحدث الآن..
الجميع فقد الثقة بالشعب المصرى، والمحللون أكدوا أنه مات وينتظر
المدافن.. ولم يكن أحد يصدق أن هناك جيلاً يمارس ويشكل حياة كاملة.. ويناقش
ويتناقش عبر مواقع الاتصالات على الإنترنت وعلى المواقع المختلفة.. نعم
رفض هذا الجيل الحوار الهلامى والمتردى والمتخلف الذى يدور حوله فى الإعلام
الحكومى، واستطاع هذا الجيل الناهض الأكثر جرأة، أن يؤكد أن يوم 25 يناير
هو يوم الخلاص، وبالطبع لم يصدق، أو قل استخف النظام المصرى بهذا الموعد
والميعاد، ولكن جاءت فورات الثورة والانتفاضة التى كانت واضحة فى عيون
هؤلاء الشباب.. وقد كان لى شرف المشاركة فى ضربة البداية أمام مسجد مصطفى
محمود، وشاهدت العيون الثائرة.. الغاضبة.. المتحفزة.. المليئة بالإصرار وهى
تهتف «الشعب يريد إسقاط النظام» ثم ينادون على الناس فى المنازل «انزل..
انزل» وأزعم أنهم نجحوا كثيراً فى نزول الشعب إلى ساحة المظاهرات، بعدما
أكدوا بهتاف آخر «واحد.. اتنين الشعب المصرى فين».. وعموماً جاءت المسيرات
الصاخبة التى نزعت الخوف من الصدور وأعادت الثقة والطمأنينة.. واستطاعت
باكورة المظاهرات أن تصل إلى ميدان التحرير، حيث اختلطت كل أطياف الشعب،
وكانت أجمل المشاهد عندما التفت دوائر الشباب على الأغانى الوطنية وأعادت
المظاهرات أغانى الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم.. وظل هذا المشهد، إلا أن الأمن
تدخل بكل ما يملك من أدوات العتاد والردع، واستخدم كل أدوات القوة حتى تم
فض الاعتصام، وظن وقتها العادلى ورجاله أنهم انتصروا.. إلا أن باقى المشاهد
كانت أكثر إيلاماً.. لكل الطغاة والفراعنة وسلاطين الحاكم.
(2)
لاحظت أن المحللين السياسيين الذين صدعوا رؤوسنا بأن ثورة الجياع قادمة،
وهى الطريق إلى الفوضى لا محالة، بعدما تضاءلت دخول الأسرة المصرية، وزادت
نسب الفقر بشكل غير مسبوق، وبات أكثر من 40 % من الشعب المصرى تحت خط
الفقر، ثبت قصور تحليلهم بعد أن لاحظت أن المتظاهرين فئات من متوسطى
الدخل.. مستورين.. يرتدون ثيابا فخمة كاجوال بشكل عام، ولكن ما شد انتباهى
أن معظمهم من شباب الألتراس الذين شكلوا وكونوا مجموعات جديدة لتشجيع كرة
القدم، سواء فى الأهلى أو الزمالك أو الإسماعيلى، واستطاعوا فى وقت قصير أن
يغيروا طعم ولون التشجيع فى مصر، سواء باللافتات الجديدة أو طرق التشجيع
نفسها.. وكالعادة استطعنا محاربتهم، وتوجيه كل ألوان الاتهامات لهم، واتفقت
معظم الشاشات الفضائية الرياضية على أنهم شباب ماجن لا يعرف المسؤولية،
وإن كنت أكدت أكثر من مرة سواء فى لقاءات تليفزيونية أو على أوراق الصحف..
أن هؤلاء الشباب يملكون طاقات هائلة إذا استطعنا الاستفادة منهم، وتوجيه
امكانياتهم فى التكنولوجيا وبراعتهم فى استخدام الانترنت، وأفكارهم الجديدة
سيكونون إضافة إلى الأجندة المصرية، ولكن جهابذة الأمن استطاعوا التنكيل
بهم سواء بالإيذاء النفسى أثناء دخولهم ستاد القاهرة، أو بالقبض عليهم،
وتحويلهم إلى النيابة العامة بتهمة إثارة الشغب رغم معاملتهم مثل القوى
السياسية ففى مباراة الأهلى والزمالك الماضية، ثم القبض على أعداد غفيرة من
ألترس الفريقين من منازلهم، بدعوى التحفظ عليهم لعدم حضور لقاء الأهلى
والزمالك وبالطبع تلك المرمطة والبهدلة اللا أخلاقية، أثرت بشكل كبير على
نفوس هؤلاء الشباب، وليست هذه فقط، بل هناك بلاوى نفسية كثيرة متراكمة
أهمها على الإطلاق غول البطالة المتوحش الذى ساد بينهم، وجعلهم جاهزين
تماماً لافتراس هذا النظام.. وبالطبع ليس الألتراس فقط هم المشاركون ولكن
أؤكد أنهم الطليعة لهذه المظاهرات التى جرجرت وراءها كل القوى الوطنية
بجميع ميولها وألوانها السياسية.. وتباينت بعد اليوم الأول للتظاهر كل
أطياف الشعب، حتى إن التظاهر بات تفاخرا ومباهاة وبات عيباً على الذين لم
ينالوا شرف المشاركة، ولذا فالكل تسابق بشكل كبير.. وجاءت الفرصة الكبرى
لكى يلحق الذين فاتهم قطار المظاهرات السريع، بعدما ألقى مبارك خطابه
المنتظر، والذى خيب آمال وطموحات الملايين، وصدم الشعب بخطاب فاتر.. ضعيف..
هش.. أكد فيه استمراره وإقالة الحكومة واستشعر الجميع عقب الخطاب، أن
الرئيس بات لا يعرف ماذا يدور فى البلاد، ولم يقدر حجم الغضب بعدما جاء
خطابه غير مقنع لشباب المعتصمين، وأكثر ما أغضب الجميع هو حالة الإصرار على
الاستمرار على كرسى العرش، رغم أن كلفته باتت مزيداً من القتلى ومزيداً من
الجرحى، ولم يفكر فى إنقاذ وطن كبير بحجم مصر، ويعلن تنازله أو تنحيه عن
الرئاسة.. وربما جاءت بعض جمل الخطاب أيضاً مستفزة بشكل ألهب حماس
المتظاهرين، عندما ظن مبارك أن الحرية التى منحها للشعب كانت وراء تلك
المظاهرات.. ونسى أو تناسى أن هؤلاء الشباب خرجوا ونزلوا إلى الشارع بعدما
ذاقوا كل ألوان المرار والإحباط والاكتئاب، لأن معظمهم تمت ولادته وجاء إلى
الحياة ووجد مبارك رئيساً، ومن وقتها لم تتغير الدنيا حوله، بل زادت
تعاسته وفقدانه الأمل بعدما بات هؤلاء الشباب محرومين بسبب المسؤولين من
صناعة الأمل وإعطاء بوادر لأى حلم فى الحياة.
(3)
ربما جاءت هذه المظاهرات وهذا الحدث سريعاً، والتجربة نفسها تحتاج إلى
التعلم سواء للحكام العرب أو الحكومات الغربية الموالية لتلك الديكتاتوريات
جميعاً.. فرغم أن اليوم الأول للتظاهر رفع الشباب شعار «الشعب يريد إسقاط
النظام»، وجاء هذا الشعار سياسياً بحتاً.. إلا أن هذا الشعار تطور سريعاً
فى اليوم الخامس وبالتحديد بعد خطاب الرئيس وبات «الشعب يريد محاكمة
مبارك».. لأن المتظاهرين رأوا أن حتى الفرصة الأخيرة لمبارك قد أضاعها
باستخفاف، وعدم استيعاب طلباتهم، ورفض التنازل عن الحكم لكى يجنب البلاد
مغبة الفوضى، ولكن سرعان مادارت داخل قصر العروبة مشاورات كثيرة، بعد أن
سرت شائعات بأن الرئيس لا يستطيع تشكيل حكومة، رغم أنه أقال الحكومة ليلاً،
إلا أن الساعة اقتربت من الخامسة مساء اليوم التالى، ولم يذع الحكومة
الجديدة وانتظر الجميع، وظهرت شائعات أن كل الوزراء رفضوا، وجاء طوق النجاة
بعدما تولى عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية الذى تأخر 25 عاماً وتم تكليف
أحمد شفيق رئيساً للوزراء، وربما كان هذا القرار معطلاً فى الأدراج لأسباب
يعلمها صناع القرار، وربما جاء عمر سليمان لأنه يملك كل الملفات المهمة
سواء خارجياً مثل الملف الفلسطينى.. الإسرائيلى أو الملف اللبنانى أو
الملفات الداخلية مثل ملفات الأقباط والإخوان المسلمين والملف الاقتصادى
أيضاً.. وجاء شفيق لتشكيل حكومة إنقاذ وطنى مهمتها الأساسية ضبط إيقاع
السوق، وطرد السماسرة وتجار السوق السوداء والقضاء على الغش التجارى بكل
ألوانه، ورفض الاحتكار، ولكن أكثر ما يخيف بعض رموز القوى الوطنية، أن يظل
ملف الحرية والديمقراطية لفظياً فقط، مثلما كان فى عهد مبارك دون تفعيله
لتكون الديمقراطية عملية.. وواقعاً ملموساً تظهر آثاره على الحياة السياسية
المصرية، لأننى مؤمن أن هناك قوى ستقاوم هذه الحكومة، وهذا النائب، بدعوى
أنه حكم عسكرى فى زمن بات يحتاج إلى الليبرالية ولذا فإن الخطاب الجديد
لعمر سليمان وشفيق بات مهما لإحداث قناعات كاملة لكل طوائف الشعب.
(4)
رغم أن هناك أكثر من 50 ألف متظاهر فى ميدان التحرير، وهى مساحة قليلة
بالنسبة للتعداد.. ورغم وجود بنات جميلات يرتدين أفخر الثياب ومحجبات
ومنقبات.. إلا أننى لم ألحظ حالة تحرش واحدة، وحتى عندما سألت أحد أصدقائى
فى الإسكندرية التى خرج منها أكثر من 500 ألف متظاهر، أكد لى نفس الكلام،
وقال إن هناك حالة من التفاهم الكامل بين الشباب والبنات دون الخروج على
الأخلاق.. وكانت حلقات الأغانى الوطنية القاسم المشترك بين الجميع فى وسط
ميدان التحرير فى اليوم الأول، وجاءت الأفكار السريعة مثل الإذاعة الداخلية
لبث روح العزيمة والإصرار.. وربما جاءت الرغبة أنا وصديقى البير لكى نمر
ونشاهد بعض الكنائس فى يوم سقوط الشرطة وتخليها عن دورها، وتركها حراسة
وحماية الأبنية الخاصة والعامة فى مشهد غير مفهوم حتى الآن.. والحمد لله
وجدنا الكنائس لم يمسسها أى ضرر، رغم عدم وجود حراسة شرطية عليها، وتساءلنا
ونحن نسير أين هى الفتنة الطائفية ومن يصنعها ويحاول تأجيجها.. أهى لعبة
النظام لإلهاء الشعب المصرى حتى لا يكون صفاً واحدا،ً ويكون متناحراً بشكل
مستمر.. هل اللعبة بورقة الدين يجدها النظام محاولة لإبعاد عيون الشعب عن
فساد وتردى نظام مبارك.
(5)
تفسيرات كثيرة ولكن أكثرها إقناعاً هو لماذا تم حرق مبنى الحزب الوطنى
بكورنيش النيل، ومعظم أبنية الحزب فى المحافظات.. هل لأنها رموز التزوير فى
الانتخابات الأخيرة والتى رأها الشعب على الهواء مباشرة.. أم لأن هذا
الحزب بات مصدراً للأكاذيب بعد أن قدم أحمد عز تاجر الحديد الذى صار رمزاً
سياسياً فى ظروف مريبة، تحليلات وتفسيرات وتنظيرات سياسية عن الانتخابات
وكيفية نجاح رجاله فيها، وشرح تفاصيل سقوط المعارضة بأكملها، وأخذ يرتل
كلمات كاذبة أغاظت وأحبطت الجميع، حتى إن الجميع شعر بأن الأمل يتضاءل،
وبات جمال مبارك على مشارف كرسى الحكم رغماً عن أنف الشعب،، فجاء حرق مقار
الحزب الوطنى يشفى غليل هؤلاء المتظاهرين جميعاً.. وجاء الهجوم أيضاً على
مقر التليفزيون المصرى، والرغبة المحمومة لتكسيره لولا الجيش.. لأن
المتظاهرين يرون أن هذا المبنى يصدر لهم الأباطيل والتضليل، وبات بوق
الحاكم الذى يقول كلاماً معسولاً يضحك به على الناس، أما الشىء اللافت
للنظر فهو المحرقة التى لاقتها أقسام الشرطة، وكأنه عمل منظم ومرتب، وحالة
إصرار رهيب لحرق تلك المقارات الشرطية، وهروب ضباط المباحث بشكل غير
مفهوم.. وجاءت الضربات المتلاحقة لمراكز الأمن المركزى، وخطف الأسلحة غير
مفهومة حتى الآن.. ويرى المحللون أن حبيب العادلى وزير الداخلية المسؤول
الأول عن حالة الفوضى التى سادت البلاد، وهو الذى أمر رجاله بالانسحاب من
المظاهرات، وحراسة الأبنية وترك البلاد فى حالة فوضى، ويفسر البعض أن هناك
أزمة شديدة ولوم شديد، وجهه مبارك إلى وزير الداخلية بسبب عدم قدرته على
التصدى للمظاهرات فبعدما علم العادلى بدخول الجيش أعلن غضبه الشديد، ورفض
وهدد وتوعد.. وأعلن انسحابه تماماً ليضع البلاد فى ورطة، ويدخل النظام فى
نفق مظلم، ويحرج القوات المسلحة، ويرى البعض أن الغرور أيضاً قاد البلاد
إلى الفوضى، ويظهر ذلك واضحاً فى الحوار الأخير الذى أجراه، العادلى فى روز
اليوسف مع عبدالله كمال رئيس التحرير، والذى قال إن النظام ليس هشاً.. وهو
الذى يسمح دائماً بالمظاهرات، لأنه يملك ويعرف كل التفاصيل، وظل يتغنى
ويتكلم العادلى مع رئيس تحرير روزاليوسف، ويشعرك بأنه الأعلى والأكثر
معرفة، وظن أن جنود الأمن المركزى قادرون على ردع إرادة هذا الشعب.
(6)
ربما جاءت السرقات والهجمات المسلحة على المتاجر والمحال والمنازل والمولات
الكبيرة، الحالة المؤلمة الوحيدة فى هذه الانتفاضة، ولكن هناك تفسيرات
كثيرة حول من هؤلاء اللصوص.. البعض يؤكد أنهم الميليشيات والبلطجية التى
شكلها وكونها أحمد عز، لتعاونه وتساعده فى مخططاته وآخرها تدريبهم فى
انتخابات الشعب الأخيرة، وهم الذين كانوا يدينون بالولاء لتاجر الحديد
نظراً لمنحهم رواتب شهرية، وكانت هذه الميليشيات تعمل تحت سيطرة رجال
الشرطة لتنفيذ كل العمليات القذرة لوزارة الداخلية بالتنسيق مع عز، وكان
الهدف الأسمى لتلك الميليشيات جلوس جمال مبارك على كرسى الرئاسة.. والبعض
يؤكد أن تلك الميليشيات شعرت بأنها فى خطر لو رحل النظام، حيث ستكون بلا
دخل شهرى، فوجدت النهب فرصة كبيرة لها، بعدما خلت البلاد من رجال الشرطة،
لكى تكون حصيلة تنفعها فى الشهور القادمة، وهناك مشاركون أيضاً فى النهب من
بعض المرشدين والمخبرين السريين الذين وجدوا أنفسهم فجأة بلا وزارة، ولا
وزير، ولا قسم شرطة فذهبوا ينتقمون ويشعلون البلاد ناراً وينتقمون من الذين
أخرجوهم من أقسام الشرطة، وهناك أكثر من دليل ظهر واضحاً فى محاولات سرقة
المتحف المصرى ولكن سرعان ما قامت تشكيلات من شباب المناطق التى رفضت كل
هذه السرقات، وباتت هى الحماية والحصانة لكل منطقة، وهناك أمثلة كثيرة أكدت
أن المصريين قادرون دوماً على تحقيق المعجزات إذا أخذوا الثقة كاملة،
ويكفى ما شاهدته فى شبرا الخيمة من مقاومة هؤلاء البلطجية والقبض عليهم،
والمطرية وفى المهندسين بعدما قام الشباب بتنظيم المرور ومعاونة البشر..
ويبقى سؤال مهم: هل حقاً محاكمة المسؤولين على ما حدث هى ما تنتظره جموع الشعب؟