على الخليلي.. حضور بارز في المشهد الثقافي / بقلم الاديب محمود شقير
---------------------------------------------------------------
للأديب علي الخليلي حضور بارز في مشهدنا الثقافي الراهن تؤكده شواهد كثيرة، وهو علم من أعلام ثقافتنا المعاصرة، يوزع إبداعه ونشاطه العقلي على عدد من أجناس الكتابة وحقولها. يكتب الشعر في شكل أساسي، ثم تتعدد اهتماماته، يكتب الرواية والسيرة الذاتية والقصة المكرسة للأطفال والبحث الأدبي والدراسة الفولكلورية والمقالة النقدية الأدبية علاوة على المقالة السياسية.
إن هذا التنوع في أساليب الكتابة التي أنتجت ما يزيد عن أربعين مؤلفاً حتى الآن، يدلل على قدر من التوهج والاستعداد للكتابة في أصعب الظروف وأكثرها تعقيداً وانتهاباً للوقت. وعلى الرغم من انشغال علي الخليلي في سلك العمل الوظيفي وفي العمل الصحافي سنوات طويلة، فإن هذا الانشغال لم يستطع أن يحد من اتساع الحيز الذي ابتكره لنفسه، ليعطينا أعمالاً أدبية ودراسات جعلته في طليعة المنتجين الثقافيين الذين أغنوا هويتنا الثقافية وأمدوا ثقافتنا الوطنية الفلسطينية بالكثير من عناصر الحيوية والجدارة.
ولعل الميزة التي تسم النشاط الثقافي والإبداعي لعلي الخليلي، أن تتمثل في انخراطه الحي في قلب حركة الثقافة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، مسؤولاً في مؤسسات ثقافية شعبية ورسمية، وفي مجلة أدبية لعبت دوراً مرموقاً في بلورة جيل من الكتاب الجدد. وعلى يدي علي الخليلي تعلم هؤلاء الكتاب دروسهم الأولى، وثمة من تعلموا على يديه دون أن ينشروا كتاباتهم في الفجر الأدبي، لأنه ظل يضرب في أرض الإبداع طوال السنوات الخمس والأربعين الماضية بلا كلل، وكان بين الحين والآخر يتوقف متأملاً حصاد التجربة، محاولاً الخروج بتنظير نقدي مناسب، من خلال استقرائه لمجمل النتاج الثقافي والإبداعي في مرحلة من المراحل، وأبرز مثال على ذلك، الاستخلاصات التي توصل إليها وهو يلاحظ انتقال أدبنا في مرحلة ما بعد أوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية، من أدب المقاومة إلى أدب الضحية. وهو لم يستصغر شأن هذا الأدب المعبر عن الضحية، ولم يصطنع تناقضاً وهمياً بينه وبين أدب المقاومة، ولم ينظر إليه باعتباره رجعة إلى الوراء، لأنه رأى فيه "أدب الضحية التي لا تخاف الهزيمة والخسارة، طالما هي واعية لهذه الهزيمة في معنى عدم التسليم لها، وفي بلاغة التعبير عنها بشجاعة وصدق، ومدركة للخسارة، فلا تفقد معها قدرتها على مواصلة التعبير"! بما يعني أن علي الخليلي يوسع في استخلاصه هذا، مفهوم أدب المقاومة، مضفياً عليه أبعاداً إنسانية جديدة، متيحاً في الوقت نفسه للمبدعين فرصة التحرك في فضاء أوسع، وبما يساعد على إنتاج نماذج أدبية بعيدة من النمطية والتكرار ومن التشابه والصيغ الجاهزة، وبما يسمح للمبدعين بصهر ذواتهم الفردية في مادة إبداعهم، فيكون من ذلك كله نقلة جديدة في الأدب الفلسطيني لا بد منها لكي يظل أدبنا مواكباً لروح العصر ولما يعتمل في داخل إنساننا الفلسطيني من مشاعر إنسانية نبيلة ينبغي التعبير عنها بعيداً من التأطير المسبق والمواقف المعلبة.
وبالنظر إلى إخلاص علي الخليلي للدور الذي نذر نفسه من أجله، ولإحراز مزيد من التفاعل مع مكونات حركتنا الثقافية، فهو لم يتوقف عن كتابة المقالات النقدية التي يتناول فيها أعمالاً أدبية لكتاب فلسطينيين وعرب، مستخرجاً من هذه الأعمال ما فيها من قيم جمالية وإنسانية، ليثقف بها القارئ الذي يكتب له، وليتمثل ما فيها الكتاب الجدد. وفي الوقت نفسه فهو يواصل تناول أعمال أدبية لكاتبات وكتاب فلسطينيين شباب، بالكثير من العناية والرعاية والدأب، مواصلاً دوره الذي رسخه في مجلة الفجر الأدبي، مكتشفاً مواهب جديدة لا تلبث أن تتقدم على طريق الإبداع، مؤكداً على ما يحاوله "الجيل الجديد من أدباء فلسطين في المرحلة الراهنة (...)" المتمثلة في تجاوز "قاموس (أدب المقاومة) التقليدي الذي ورثه عن أدباء المراحل السابقة، إلى قاموس خاص به، دون أن يعني ذلك على الفور، تخليه عن هذا الإرث أو ابتعاده عن المقاومة، وإنما يعني مدى قدرته على "المغايرة" الإبداعية في التعامل مع الواقع اليومي المتغير، ومع ما ورثه أيضاً".
ولعل الأديب علي الخليلي أن يكون واحداً من أبرز كتابنا المعنيين بالاحتفاء بأفكار العقلانية والتنوير واحترام الرأي والرأي الآخر، والإفساح في المجال لجدل الأفكار والآراء، دون تعصب أو انغلاق أو تحيز عصبوي لجهة سياسية أو ثقافية بعينها.
هذا الدور التنويري الذي يمارسه علي الخليلي في كتاباته الأدبية، يتجلى بوضوح لا مزيد عليه في مقالاته السياسية التي يدأب على نشرها في الصحافة اليومية، مبيناً حرصه على التطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال وفي الديموقراطية والتعددية. وهو يقف من الأخطاء والتجاوزات التي رافقت نشوء النظام السياسي الفلسطيني، موقفاً نقدياً بعيداً من التشنج والانفعال، مؤكداً في الوقت نفسه حرصه على الوحدة الوطنية الفلسطينية باعتبارها الرافعة الأساس لتطوير النضال الوطني الفلسطيني ضد الاحتلال، ولحماية شعبنا من مخاطر الاقتتال والسقوط في فخ الفتن الداخلية.
حينما كنت واحداً من كتاب مجلة الأفق الجديد المقدسية في ستينيات القرن الماضي، لم يكن علي الخليلي واحداً من كتاب هذه المجلة، لأنه كان قد غادر البلاد للدراسة الجامعية وللعمل في أحد الأقطار العربية. كان يواصل الكتابة ونشر قصائده في الخارج. وحينما عاد إلى الوطن لم أكن أنا في الوطن. كنت مبعداً منه بقرار قسري من سلطات الاحتلال، وقد استقر بي المقام في عمان في فترة من الفترات. وكان أول لقاء لي مع علي الخليلي في عمان. ومنذ لقائنا الأول أكبرت فيه دماثة خلقه وتواضعه واحترامه للآخرين وميله للتحدث بصوت هادئ، وحينما يصمت فإنه يفعل ذلك بعمق لكي يصغي إلى محدثه بانتباه.
ولم تكن لدينا لقاءات متقاربة، ربما التقينا مرة أخرى أو مرتين في عمان. وكان علي قد أخذ يمارس دوراً ثقافياً ريادياً منذ عودته إلى الوطن، وواصل هو ونخبة من زملائه الاضطلاع بمهمة تكوين إطار ثقافي يجمع شمل الكتاب، ويتحدى عسف سلطات الاحتلال، ويسهم في تطوير الثقافة الوطنية ودفعها خطوات واسعة إلى الأمام، تمثلت في كتابة جديدة على صعيدي القصة والقصيدة تحديداً، تعنى بالواقعي واليومي وبهموم الوطن الفعلية، بعيداً من الرومانسية الساذجة ومن المباشرة الفجة. واستمر علي الخليلي يطور قصيدته منوعاً في طرائق كتابته الشعرية ما بين قصيدة قصيرة مكثفة ذات نهاية مباغتة، وقصيدة طويلة تستلهم التراث على نحو ما، وتستلهم في الوقت نفسه مأساة شعبنا الممتدة من منظور فكري أكثر عمقاً وإحاطة، بلغة جديدة متقنة فيها بساطة اليومي ورصانة التراثي، تعبر في حالات غير قليلة عن شغف علي الخليلي بالمكان والتصاقه الحميم به، خصوصاً حينما يتعلق الشعر بنابلس، مدينة طفولته وصباه، أو بالقدس، مدينة نضجه وتبلور رؤاه.
وحينما عدت إلى الوطن مع أول فوج من المبعدين العائدين، تعددت اللقاءات بيني وبين أبي سري، وظللنا نلتقي في قاعة اتحاد الكتاب للمشاركة في الأنشطة الثقافية التي يقيمها الاتحاد، وفي المسرح الوطني الفلسطيني في القدس وفي مؤسسات ثقافية أخرى. وبقينا على هذا الحال إلى أن جمعتنا الظروف في عمل وظيفي استمر ما يزيد عن عشر سنوات في وزارة الثقافة، كانت لنا خلالها لقاءات كثيرة للمشاركة في أنشطة ثقافية وندوات ومهرجانات وحوارات. وطوال هذه السنوات تعزز لدي الانطباع الأول الذي كونته عن هذا المثقف الممتلئ رهافة ودماثة. إنه إنسان تصقله ثقافته التي أصبحت جزءاً من سلوكه ومن ممارسته اليومية في الحياة. وإنه سرعان ما يحزن حينما يرى أي خلل في السياسة أو في الثقافة أو في علاقات الناس ببعضهم بعضاً، فيبحث عن صديق يبثه شكواه، لكي يتخفف قليلاً مما يشعر به من أحزان.
وأنا أسجل هذه المزايا وتلك الصفات التي يتحلى بها أديب فلسطيني صنعته مثابرته، وخلقه جده واجتهاده، فإنني أسجل له كذلك حرصه على استمرار النزوع الديموقراطي والعقلاني لثقافتنا الوطنية، الذي لم يتحقق إلا عبر الجهود الخلاقة والخبرات المعرفية، لمثقفين مخلصين تمكنوا في أصعب الظروف وأعقدها من بلورة الأسس لثقافة فلسطينية حديثة لا تعرف العزلة والانعزال، ولا تقبل الردة والارتداد عن قيم جرى ترسيخها عبر عشرات السنين في عقول جمهرة المثقفين الفلسطينيين وفي عقول قطاعات واسعة من المواطنين، وهي والحالة هذه، ثقافة لا تركن إلى المفاهيم الضيقة المنغلقة على نفسها، ولا تضيق ذرعاً بما يخالفها من رؤى واجتهادات، ولا تواجه الرأي الآخر بمنطق المنع والحجب والمحاصرة والإقصاء، وهي ثقافة معنية بالمثاقفة وبالتعاطي مع الثقافات الإنسانية الأخرى، لا لتذوب فيها وتغترب عن واقعها الحي الملموس، وعن تراثها وما يزخر به من قيم إيجابية قادرة على البقاء، وإنما لتعود من هذه المثاقفة، بزاد وفير يرفد ثقافتنا بما يغنيها ويجددها باستمرار، ويزودنا نحن أبناء هذه الثقافة، برؤى ومفاهيم وخبرات تجعلنا قادرين على مواصلة الصمود في وطننا، وعلى الاستمرار في النضال لانتزاع حقنا في الحرية والاستقلال والديموقراطية والتطور والازدهار.
وتحية لعلي الخليلي الشاعر المثقف الإنسان، مع تمنياتي له بالعمر المديد ودوام الإبداع.