فلسطين.. مطية الحكام ودرّة الشعوب
5/3/2010
منذ عقود وخطاب الحكام إزاء فلسطين السليبة لم يتغير ولم يتبدل، حاله كحال فعالهم إزاء فلسطين فهما الثابتان الوحيدان .. تجوّع يا سمك وسنلقيهم بالبحر، إلى خطاب سنعيدهم إلى عصر الإنسان الأول، والوعيد بالموت لإسرائيل، والمحو من الخريطة ،والانتقام منها إن فكرت بالهجوم على غزة ..بينما الشعوب المسلوبة الحرية والأمان ولقمة العيش تتحسر على ما تشاهده يوميا من مشاهد تقشعر لها أبدان بني البشر لما يجري لشعبنا في غزة والضفة والقدس وغيرها، في موازاة ذلك أدرك تماما أن شعب فلسطين يستشعر نفس الألم وربما أكثر إزاء ما آلت إليه الشعوب العربية والمسلمة، فالمكلوم أقدر الناس على فهم جراحات وعذابات الآخرين .
السؤال المطروح هو لماذا لا نسمع هذه التهديدات بمحو إسرائيل من الخريطة ودك معاقلها وتحويلها إلى عصر الإنسان الأول إلا حين تتهدد أنظمة الحكم العربية والإسلامية، حينها تهدد تلك الأنظمة وتتوعد بالويل والثبور وعظائم الأمور ،حينها فقط نسمع تراجعا وانكفاءً صهيونيا عن تلك التهديدات ما دامت هذه الأنظمة توفر الحصن الحصين والستر الواقي والجدار الصيني العظيم لبني صهيون في وجه كل من يفكر في تحرير الأقصى و التخفيف عن أهلنا في فلسطين الحبيبة .
وكأن القدس بذاتها لا تستحق تلك التضحيات، ولا تستحق من تلك الأنظمة التي تدعي
- وأزعم جازما أنها تدعي زورا وبهتانا ـ القدرة على محو إسرائيل وإعادتها إلى عصر الإنسان الأول، إذن فما الذي يمنع هذه الأنظمة من فعل ذلك؟ هل يمنعها كرمها وسخاؤها وخشيتها على أبناء عمومتها الصهاينة؟؟ أم هي نفسها التهديدات الجوفاء التي أصبحت الشعوب العربية والإسلامية رهينة لها وحبيسة لها، وليست حبيسة أكاذيب الأسلحة المتطورة هنا وهناك .
كل هذا يجري ويتكرر وتتجدد وتُجتر مشاهده بشكل يومي وبعض الشعوب لا تزال تُصدق بأن ثمة معتدلين ومتشددين ، ومنهزمين وممانعين ، وهي التي شاهدت الفيلم العربي مئات المرات حتى حفظته عن ظهر قلب ولكن لم تعيه، وتُمني نفسها بالسراب الموعود، ربما عذرها أنه في ظل الافتقار إلى المشروع العربي والإسلامي الواضح البين ، تنتظر أي شيء ليمنيها بما تحلم به، استنادا إلى التفكير الرغائبي ، ينضاف إلى ذلك نخبة عربية إسلامية لا يتجاوز فهمها ما تسمعه آذانها، وكما قيل فإن أصحاب الرؤوس الفارغة يحكمون بالظواهر، وهو ما تفعله الطبقة النخبوية، حينها فما هو الفرق بين الرجل العامي الذي يسمع فقط وهو ما ذمه القرآن الكريم:'وفيكم سمّاعون لهم' وما قاله عليه أفضل الصلاة والسلام:'رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه' وما طالب به العلامة ابن خلدون:'لا بد من إعمال العقل في الخبر'، ما هو الفرق بين هذا وبين من يسبر الأمور ويقلبها ويفكر في مآلاتها وينسج على سوابقها، لكن بكل تأكيد فإن تصديق ظواهر الأمور يُريح العقل الساذج عن تقليب الأمر على أوجهه ومقايساته على شواهد تاريخية سابقة ومطابقاته مع الواقع العملي على الأرض، فهو الهروب من كُلف تحليل الأمور والقراءة المتبصرة وسؤال أهل العلم في كل مجالات الحياة .
في ظل هذه الأجواء الضبابية التي تمارسها الطبقة النخبوية العربية والإسلامية من حيث السير في مشاريع وهمية بعيدة كل البعد عن واقع وبوصلة الأمة، يُذكرنا ذلك تماما بالطبقة النخبوية التي مأسست وعششت للاستبداد العربي في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والتي قادتنا إلى كل الانكسارات العربية التي وقعت، أما الآن فثمة نخبة بلون آخر تسعى إلى تبرير الاستبداد العربي تحت ذريعة الممانعة بعد أن تراجعت تلك الأنظمة عن شعارت رفعتها بالأمس وصدقها البعض للأسف وهي شعارات التحرير ثم تنازلت إلى شــــعارات الصمود والتصدي وأخيرا إلى شعارات الممانعة ولا أدري ماذا بقي من شعارات بإمكان النخبة المأزومة والإمعية أن تختلقها لتلك الأنظمة من أجل تبرير سياساتها وبقائها في السلطة .
الطريق إلى تحرير فلسطين باختصار يمر من تحرير الإنسان العربي والمسلم من الاستبداد والاستعباد، فالحر هو الذي يخلص ويحرر العبيد والمحتلين والمستعمرين بفتح الميم الثانية، أما من قدره أن يكون عبد الأنظمة لا يستطيع في ظلها فتح فمه فلن يفكر بأبعد من أرنبة أنفه، على هذا يتطلب من الطبقة النخبوية العربية إن كانت جادة في المشاركة بعملية تحرير فلسطين وتحرير الشعب الفلسطيني، أن تبدأ برحلة الألف ميل ولا تتعذر من أن ذلك طريق طويل وشاق، ومكلف فالمكلف الحقيقي هو السراب الذي تبيعه هذه النخبة للشعوب من عقود .
إن المثقف هو الذي يرى غدا وبعد غد بقلبه ما يراه غيره بعينه اليوم، أما أن يظل المثقف ينظر بعين السياسي والحاكم، ولا يفكر بالمستقبل وطرق اختراعه واجتراحه فسنظل نراوح مكاننا مؤملين وممنين أنفسنا بشعارات طنانة رنانة لا ثقل، ولا وزن لها على أرض الواقع .. لنكون بذلك كالباحث على السراب ممنيا نفسه بوجود الماء وهو يدرك جازما أنه لا ماء .
الطبقة المثقفة الحالية المتحالفة مع الأنظمة قطعت صلاتها وعلاقاتها مع الشعوب ..وأصبحت في غالبها مبررة لواقع إن كان متدثرا بشعارات الممانعة أو بشعارات الاعتدال لا فرق، ولذا نرى هذه الطبقة المثقفة أبعد ما تكون عن اهتمامات الشعوب وشارعها، وأبعد ما تكون أيضا عن تحريك هذا الشارع، ما دامت قد تحالفت مع الأنظمة تبريرا وتسويفا ونحوهما، وهو أمر يريح الأنظمة التي لم تنجح في تخدير الشعوب فحسب وإنما خدرت الطبقة النخبوية،حتى أصابتها بالشلل عن قيام واجباتها التي تصدت لها، فقطعت كل طريق عن التغيير، وهو الأمر الذي لا يمكن نيله في ظل الافتقار إلى قنوات تقولبه وتسقيه وترفده وترعاه، وأهم تلك القنوات الطبقة النخبوية من المثقفين والمفكرين والحقوقيين والطلاب وغيرهم، الحوامل الأساسية للتغيير، فهي الوحيدة القادرة على تحريك الشارع ورسم خريطة طريق واضحة للتغيير كما حصل في دول أوروبا الشرقية ودول وسط آسيا وغيرها من زوايا العالم الذي لا يزال العالم العربي بعيدا عنها .
' كاتب سوري