الكويتيون يزحفون نحو سواحل العراق
كاظم فنجان الحمامي
استغلت إيران كل شبر من سواحلها المتشاطئة معنا في شط العرب, واستثمرت كل قطرة من مقتربات مسطحاتها المائية المشتركة, فبنت وعمرت واستصلحت وطورت واستحدثت حتى تقدمت وتفوقت علينا كثيرا, وقفزت قفزات عمرانية هائلة في المناطق المتاخمة للبصرة من جهة البحر, بينما ظلت سواحلنا على حالها, صحراء جرداء مهجورة خاوية ذاوية, لا زرع فيها ولا شجر, ولا كوخ فيها ولا قصر, ولا ضوء فيها ولا قمر. . ثم جاءت الكويت لتبني وتعمر وتستصلح وتطور وتستحدث في سواحلها المتشاطئة معنا, وعلى وجه التحديد في الأماكن التي لم يكن لها فيها أي موطأ قدم منذ انسلاخها من جسد العراق وحتى عام 2010, لكنها استغلت التقلبات السياسية المؤاتية لها, واستثمرت القرار الجائر (833) الذي أصدره مجلس الأمن لصالحها, فوجدت الطريق ممهداً أمامها للزحف والتوسع والتمدد نحو سواحلنا, فتعمقت في بحرنا الإقليمي, حتى استحوذت على مساراته الملاحية المحصورة بين ميناء أم قصر وميناء البصرة النفطي, فكان ميناء مبارك هو الخطوة المينائية التوسعية الأولى الزاحفة نحو الفاو, وكانت أرصفة بوبيان هي الذراع الاستفزازي القاطع للرمق المائي الوحيد الذي يربطنا ببحار الله الواسعة. . ثم جاء وزير البلدية الكويتي ليعلن عن انطلاق مشروع مدينة الحرير بتكلفة خيالية تقدر بنحو (270) مليار دولار, فيستفز الخليج كله بالرقم والتوقيت بمشروع يُعد من المشاريع المجنونة, التي لا يصدقها العقل ولا يقبلها المنطق, فالتخطيط الاستراتيجي الواعي ينبغي أن يكون قائماً على الأسس الصحيحة والمبادئ العلمية المدروسة, نحو تحقيق الرخاء والرفاهية للشعب الكويتي الشقيق, بيد أن هذا المشروع المكمل لميناء مبارك لم يكن له ما يبرره سوى الزحف نحو السواحل العراقية بأي ثمن, ومواصلة الضغط على جراحنا ومضاعفة آلامنا, في الوقت الذي تفتقر فيه الكويت إلى جامعة وطنية كبيرة تستوعب جميع أبنائها من خريجي الثانوية العامة, ولا تمتلك مطاراً دوليا معاصراً بالمستوى الذي يضاهي مطار دبي أو مطار الدوحة, ولم تتجدد فيها المستشفيات القديمة التي بُنيت في ستينيات القرن الماضي وما زالت على حالها. .
من المفارقات الملفتة للنظر أن الصحف الكويتية نفسها هي التي صبت جام غضبها على مشاريع الزحف الساحلي في أجندة وزير البلدية صاحب الأفكار الساحلية الأميبية المندفعة نحو الفاو, وهي التي وجهت له النقد اللاذع لتجاهله المتعمد لمنظر المباني الكويتية المتهالكة التي عفا عليها الزمن, والمجمعات التي أنشئت بطريقة خاطئة وسط المناطق السكنية, ومجمع الوزارات الذي يسهم في تعقيد الأزمات المرورية, والمناظر البائسة لمنطقة الكراجات المقابلة للأبراج التجارية, والتي لم تستبدل ملامحها الكئيبة حتى الآن في ظل سيادة الروتين وسيطرة الفساد. . فعلى الرغم من كل المشاريع الداخلية المعطلة والمؤجلة هرعت الكويت بأموالها المليارية, وتوجهت بها صوب أم قصر وصوب الفاو, لتبني مدينة الأحلام, التي أطلقت عليها اسم (مدينة الحرير), فخططت منذ الآن لتشييد الأبراج والقلاع وناطحات النجوم فوق جزيرة وربة وفوق جزيرة بوبيان, في مشروع خارق يمتد تنفيذه لأكثر من ربع قرن (25 سنة), على مساحة ساحلية جرداء تزيد على (250000) متراً مربعاً عند مقتربات مدينة (الصُّبيَّة) المحاذية لأم قصر, يتوسطها برج خرافي يصل ارتفاعه إلى (1001) متر, يتألف من 250 طابقاً, تحيط به قرية خيالية تستوعب (700) ألف نسمة. . تبقى نقطة في غاية الأهمية, وهي أن البرج الضخم الذي يزيد ارتفاعه على الكيلومتر بمتر واحد, سيكون مجهزاً بمراصد وعدسات تلسكوبية قادرة على رصد كل شاردة وواردة في أحياء مدينة البصرة في الليل والنهار, وبالتالي فأننا سنصبح فرجة مجانية للرايح والجاي, فما بالك بالقدرات الخفية لهذا البرج في تسهيل عمليات الاستطلاع العميق, وفي رصد تحركاتنا في المناطق القريبة من ضواحي الفاو وأبو الخصيب والزبير. .
ختاما نقول: لم تدخر الكويت جهدا في بناء أبراجها الخرافية, ولم تتخلف في إعلاء قلاعها البحرية الضخمة, ولم تتردد في تشييد مراصدها الحدودية الجبارة, لتشرئب بأعناقها الطويلة فوق مسرحنا الساحلي المأساوي, الذي انقطعت صلته بالتطوير والتعمير, فانكمشت ضفافه وتقلصت وتراجعت, ثم تقزمت وتمحورت حول أخاديد شبه جزيرة الفاو, وغارت في تشققاتها الزلزالية, التي حولتها المعارك الطاحنة إلى أكداس وروابي عشوائية من الرماد والعظام والخوذ الفولاذية المثقوبة, وتبعثرت في خنادقها سرفات الدبابات المتفحمة, بينما تحجرت بلورات كلوريد الصوديوم في (المملحة) العتيقة الغارقة بين الطين والماء, فتراكمت عليها الأنقاض, وفقدت بريقها الملحي الناصع, لكنها احتفظت في ذاكرتها بقطرات دماء الجنود الأشاوس, الذين عصفت بهم صواعق حرب تحرير الفاو, فأبتلع البحر أجسادهم الطاهرة في هذه الرقعة المهجورة من كوكب الأرض, في الوقت الذي ظلت فيه سواحلنا الكئيبة محتفظة بملامح التكوين البدائي قبل هبوط سيدنا آدم في فردوس الميزوبوتاميا, وكأنها لم تنتم إلى أعرق الحضارات التي علمت البشرية فنون ركوب البحر. . . والله يستر من الجايات |