الأعمدة المهترئة للبيت العراقي / هيفاء زنكنة
ماذا حدث منذ عودة رئيس الوزراء نوري المالكي من واشنطن خالي الوفاض من الهدايا العسكرية الامريكية المتطورة، والتقريع يرن في اذنيه حول ضرورة التوازن مع الفرقاء السياسيين الذين إجتهد الإحتلال في توفيرهم ضمن الصفقة الإقليمية في العراق؟ لا شيء عدا التفجيرات وإستخدام كل ما لديه من قوة لتصفية الاصوات المعارضة، بسرعة تماثل تشبث المحتضر بالحياة في صراعه مع الموت. فالمالكي وحزبه انما يصارع من اجل البقاء على كرسي السلطة بثمن موت العراقيين. وهنا لا اعني الموت من التلوث والفقر والاختطاف والتشرد وانهيار الطب. بل التفجيرات الممنهجة، والاعدامات الجماعية، والاغتيالات وفق قوائم. أي الموت الناتج عن ارهاب "الدولة". وهذه الدولة بلا رئيس عدا المالكي. فجلال الطالباني غائب منذ عام تقريبا، ونائبه الوحيد، خضير الخزاعي، مجند في التحالف الطائفي الحاكم لصاحبه نوري المالكي رئيس حزب الدعوة الاسلامي الشيعي . وهو نفسه القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع والداخلية والفرق الخاصة المتمركزة في المنطقة الخضراء والمشتركة مع فرق التدريبب والتنسيق الأمريكية هناك. وهو المسيطر عبر مكتب رئيس مجلس الوزراء وميزانيته الخاصة ومئات المستشارين والمبعوثين الخاصين ورجال الحماية.
وعبر عشرات القرارات، يمسك بيديه المحاكم وقضاتها، والبنك المركزي وإجراءاته، وتوقيت إطلاق التخصيصات أو حجبها عن المحافظات والوزارات والعشائر، وبالتالي بأرزاق الناس جميعا . فهل من المستغرب اذن ان توجه اصابع الاتهام في نشر الموت وتصنيع الطائفية والميليشياوية والفساد الى حكومة "العراق الجديد" بمكوناتها الغاطسة حتى الاعناق بالفساد المالي والاداري والاخلاقي؟
اذا اردنا استخدام مصطلح الدولة بدلا من الحكومة أو الاصح ‘البيت’، وقبلنا بذلك افتراضا ، نواجه سؤالا بديهيا : ما هي اركان أو أعمدة دولة ‘العراق الجديد’، المنبثقة عن الغزو والاحتلال في عام 2003؟ ان تأمل الاركان التي تم تأسيسها والعمل على تثبيتها، خلال العشر سنوات الاخيرة، يبين كيفية السيطرة على البلد من خلال خلق تواؤم طبقي اقتصادي بين الشريحة المهيمنة على الثروة الوطنية من جهة والاركان الثلاثة التي عملت على تأسيسها، حماية لوجودها من جهة ثانية.
فبعد سنوات الحصار التي شهدت شحة شديدة في موارد الدولة من تصدير النفط، وبالتالي ضعفا في وزن وقدرات الحكومة مقارنة بالنشاط الإقتصادي المحلي والأهلي، مهما كان محدودا وقتها، إنفجرت عائدات النفط بعد الإحتلال . واليوم، الجانب الغالب في الإقتصاد والمجتمع عندنا الذي يقارب كونه الوحيد ضمن الخراب العام، هي الحكومة / الدولة . اما الاركان التي تأسست هذه الدولة عليها منذ عام 2003، فهي أركان منتفخة ثلاثة : أجهزة الأمن، والتوظيف في الحكومة، والإقتصاد الديني. وساترك ركن الاقتصاد الديني الى حين لضيق المساحة.
فالجيش والشرطة، والفرق الخاصة، وأجهزة الامن والمخابرات، وفرق حمايات مئات (او الاف) المسؤولين وأخرى بتسميات مثل حماية المنشآت قد وصل تعدادهم المليون ونصف. وهي متداخلة فيما بينها، وتابعة، بدرجات متفاوتة نسبيا، لمكتب رئيس الوزراء، فيما عدا جماعات الحمايات المحلية التي يمكن تشبيهها بالميلشيات الصغيرة، كل بسجنها وغرف التحقيق لديها. واذا ما علمنا ان معدل حجم العائلة العراقية هو 6 أفراد، فذلك يعني، في الواقع، ان هناك 9 ملايين عراقي يعتمد في معيشته وحياته على هذه ‘المؤسسة’ الضخمة. ونتيجة تشغيل هذا العدد الكبير من الشباب ذوي القدرات الجسدية، نوعا ما، هي شراء ولاء طبقة من العاطلين عن العمل، أغلبهم من الأقارب أو الفقراء المحيطين بهم، بدون تعليم أو كفاءة، بالاضافة الى منح الرواتب لافراد الصحوة والميليشيات الذين باتوا، في ظل محاصصة الفساد، يجنون الارباح من الميزانية العامة، مع محافظتهم على نشاطهم الاصلي وهو ترويع وابتزاز المواطنين بدلا من حماية الأمن والوطن، كما يفترض. خاصة وان معظم المجندين بقوا غير مؤهلين، وبلا تدريب . فالجيش العراقي، بأعداده الضخمة، حسب موقع ‘غلوبل فاير باور’ العسكري المتخصص، يحتل، بقدراته، المرتبة 58 من أصل أقوى 68 جيشاً لعام 2013. أما الضباط وذوو الرتب المتقدمة، فان توزيع الرتب والمهام عليهم، أو بيعها كما يتكرر في البرامج التلفزيونية المتواترة، يتم بمعايير الإقطاع العسكري: هذه الرتبة والمنطقة بمليون دولار وتلك بنصف مليون.
الركن الثاني لدولة ‘العراق الجديد’ هو التوظيف في الدوائر الحكومية. والموظفون يتم تعيينهم مثل زملائهم في الامن والشرطة والجيش، غالبا، بلا مؤهل، او بمؤهلات مزورة، وبالواسطة او بدفع رشوة، ووفق المحاصصة الطائفية التي أصبحت تسري في جميع المؤسسات والوزارات. وكان عبد الله اللامي ‘المستشار في الحكومة العراقية’ قد كشف، عام 2011، أن عدد الموظفين في الدولة يبلغ نحو أربعة ملايين. مما يجعل العراق أكثر بلدان المنطقة من حيث عدد الموظفين قياسا الى حجمه السكاني. والسبب والهدف طبعا شراء الولاء، أي توسيع القاعدة الإجتماعية الطفيلية للإقطاع الحكومي. وجزء هام من هذا السياق ما يجري في حقوق التقاعد الذي يشمل مئات الألوف من الأجيال السابقة من العراقيين ممن عملوا في الدولة ومدارسها ومرافقها خلال سنوات الخير وسنوات الحصار .
فهل يجرؤ الموظف الحكومي على الخروج في احتجاج او مظاهرة او رفع صوته دفاعا عن قضية او مظلوم وهو الذي تم اسكاته براتب شهري او بوعود التقاعد او بدء معاملة التقاعد، وهو حق من حقوقه؟
العمود الثالث الذي يرتكز عليه بيت ‘العراق الجديد’ هو الاقتصاد الديني – السياحي. وساعود اليه بالتفصيل لاحقا. لا احد يعرف حجم الاقتصاد الديني والمؤهل لاحتلال المرتبة الثانية بعد النفط في غياب الصناعة الوطنية والانتاج الزراعي. ولا زلنا في بداية فهم هذه الظاهرة، التي تختلف تماما عن الجوانب الروحية والدينية المتعلقة بتمجيد آل البيت، وهي جوانب مشتركة بين المذاهب الإسلامية السائدة عندنا في العراق، وفكرة إستشهاد الحسين كرمز في الصراع ضد الطغيان. فالأمر هنا يتعلق بتضخيم الطقوس والمزايدة فيها الى جانب تشويه الحياة الإقتصادية والإجتماعية للبلد ومستقبله، وبما يمكن فعله لتفادي هذه التشويهات. وهذا موضوع يجدر التمعن فيه.
ان تضخم التشغيل الأمني والحكومي والديني يجعل من الاقتصاد العراقي إقتصادا طفيليا يستهلك نفسه بالاضافة الى ثروة الأجيال المقبلة . لكن مهمته السياسية هي التعويض عن الفشل الواضح في بناء الدولة وتغليب الفساد على البناء وتغييب السياسة الوطنية ومشاريع التنمية لصالح طائفية المحاصصة.