محاولة لفهم لماذا العراق وليست سوريا
د. مثنى عبدالله
September 22, 2014
■ في السياسة يُطلق مصطلح (البجعة السوداء) على الحدث المفاجئ الذي يُغيّر المفاهيم الاساسية، في إشارة الى الاعتقاد الذي كان سائدا لدى الانكليز بوجود بجعة بيضاء فقط، لكن احتلالهم لاستراليا جعلهم يتفاجئون بوجود بجعة سوداء أيضا. واذا كانت سيطرة الدولة الاسلامية على محافظة نينوى بجعة سوداء بالمفهوم السياسي للحدث المفاجئ، وذات مفاعيل كبيرة وخطرة على العالم والنظام العالمي والاقليمي، حسب مراكز البحوث والدراسات الامريكية، التي ساوت بينه وبين أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وكذلك سقوط الاتحاد السوفييتي، فإن التحرك الامريكي والغربي عموما تجاه مواجهة الحدث تثير الريبة والاشمئزاز والاستغراب، بل توجّه الكثير من علامات الاستفهام أيضا.
لقد برزت أسئلة رئيسية ومحددة لدى العامة والمراقبين والباحثين عن سر هذا التوجه الموحد بين واشنطن والدول الاوروبية، للاصطفاف وتشكيل جبهة حرب وسياسة واقتصاد وإعلام وفكر، للقضاء على تنظيم الدولة في
العراق، بينما لم يحصل مثل ذلك على الجبهة السورية رغم الفارق الزمني؟ لماذا حتى اليوم تبقى الاستراتيجية الامريكية هي (سنُدمّر الدولة الاسلامية في
العراق ونقلص نفوذها في
سوريا)، كما قال الجنرال ديمبسي رئيس هيئة الاركان المشتركة في الجيش الامريكي، في شهادته امام الكونغرس مؤخرا؟ لماذا هطلت المساعدات الاوروبية بالطائرات على جبل سنجار ومناطق أخرى في شمال
العراق، ومُنح مواطنو هذه المناطق اللجوء الانساني في
فرنسا وهم لازالوا في أرض
العراق، بينما لم يرف جفن أحد لكل الذين يواجهون المصير نفسه منذ أكثر من ثلاث سنوات في سوريا؟ الاجابة على هذه التساؤلات سنجدها في قراءتنا للوقائع على الارض.
في سوريا سمع الجميع صراخ الطوائف والمذاهب والقبائل والعشائر، وفيها أيضا نكّلت الدولة الاسلامية بالمسيحيين في الرقة وقتلتهم ولم تتحرك أمريكا ولا
الغرب، لانهم كانوا يريدون إضعاف الثورة السورية وتحويلها من ثورة الى حرب أهلية تأكل الجميع. كانوا يعتقدون بأن الساحة السورية هي محرقة لكل خصومهم، من دون جهد من قبلهم لصب الزيت على النار، لذلك باعت برلماناتهم شرفها وعارضت التدخل.
وفي الوقت الذي كان فيه اصطفاف قوي بين نظام الحكم في سوريا وايران وروسيا، لم يكن الغرب مع المعارضة السورية، على الرغم من أنها كانت مع الغرب وتهرول خلفه، ولم يقدم لها سوى المؤتمرات ونادي أصدقاء سوريا، لان
اسرائيل كانت تعارض الحلّين السياسي والعسكري فيها، يدفعها هاجس أن أياً من الحلّين سيُقرّب المسافات بين
ايران وأمريكا، وهي لا تريد أن ترى المندوبين الايراني والامريكي على طاولة واحدة الا في موضوع الملف النووي الايراني فقط.
أما في العراق فالوقائع على الارض مختلفة تماما. في الفكر الغربي والاستراتيجية الامريكية هو أهم من سوريا بكثير، لذلك اختاروا إسقاط جدار بغداد كي يعيدوا تشكيل الخريطة السياسية للشرق الاوسط والوطن العربي على وجه الخصوص، أن لم تكن الخريطة الجغرافية أيضا، لان العراق مع احتياط أكثر من 143 مليار برميل نفط، وموقع جيوسياسي متميز، يشكل مركز ثقل يؤثر على الاردن وسوريا والسعودية وإيران، لذلك فإنهم لحد الآن، رغم الخراب الذي أصابه والقتل والدمار يعتقدون بان ارتدادات حدث الغزو عام 2003 لم تكتمل بعد، لانه أُسس لاعادة صياغة البنية السياسية في العراق، التي في ضوئها سيُعاد تشكيل البنية السياسية في الوطن العربي كله، لذلك نظروا الى تهديد الدولة الاسلامية على أنه تهديد حقيقي وجدي لمشروعهم في العراق. واذا كانت اسرائيل تقول للامريكان دعوهم يذبحوا بعضهم بعضا في
سورية، وتجنبوا تقديم أي مساعدات انسانية أو حربية لهم، فإنها أول من دفعت الغرب الى فعل ذلك، بعد أن سقطت حصون الاكراد بيد الدولة الاسلامية، وباتوا على مسافة 25 كم من أربيل. هل يمكن أن تسمح اسرائيل بأي تهديد لمعاقل الاكراد حلفاء الامس وربما اليوم أيضا؟
واذا كانت شركات نفط عالمية قد تخلت عن عقودها مع الحكومة المركزية في بغداد وفضّلت العمل في المناطق التي يقطنها الاكراد في الشمال، فهل يمكن السماح بمرور تهديد الدولة الاسلامية لمصالحها بدون عقاب وحملة شعواء كما نراها اليوم؟ لقد كانت سيطرة الدولة الاسلامية على الموصل، وإهانتها للجيش الذي صنعته أمريكا وقالت انه قادر على حماية العراق بعد الانسحاب، وسيطرتها على كافة الاسلحة الامريكية الحديثة التي كانت بحوزته، كان كل ذلك أهانة وتحدياً جدياً للولايات المتحدة، لكن التهديد والتحدي الحقيقي الاكبر لها وللوبيات النفط واسرائيل، كان تعرّي ظهر الحليف الامريكي المدلل، وهو الزعامات السياسية الكردية، عندما هرب الجيش العراقي من الارض فباتت مفتوحة أمام عناصر الدولة، وباتوا وجها لوجه مع الاكراد، بعد أن هرب حرس الاقليم كذلك من أرض المعركة.
كان لابد من مواجهة الحدث سياسيا وعسكريا، ولكونه اعتُبر تهديداً لمصالح أمريكا، ظهر الحل العسكري سريعا بالضربات الجوية، ثم لحق به العقاب السياسي بعزل المالكي من السلطة في محاولة لتغيير الوقائع. ما يقلق الدول الكبرى في النزاعات حالتان، الاولى عندما تكون هنالك منطقة نزاع وتتدخل بها قوى كثيرة، والثانية عندما تكون منطقة نزاع ويتطاير الشرر منها على الاخرين. نعم سوريا منطقة نزاع لكنها وفق الاستراتيجية الامريكية لا تخضع للمنطقين المذكورين، بل هي تدخل في خانة النزاع المطلوب أو المسيطر عليه، الذي قد ينتهي بإعادة تـأهيل النظام والابقاء عليه في صفقة ما، فهم لا يريدون إسقاط النظام وتدمير مؤسسات الدولة الذي عانوه في التجربة العراقية، كما أنهم لا يريدون صعود الاسلام السياسي الراديكالي، كما يسمونه، لان المعارضة السورية للنظام يسمونها معارضة إسلامية سنية، وهم ينظرون اليها على أنها راديكالية معادية لهم، عكس الاسلام السياسي الشيعي، الذي ينظرون اليه على أنه أقوال وشعارات وزعيق علني ضدهم، لكن يمكنهم أن يدخلوا معه في لعبة السياسة، ولا يصبحون شيطانا أكبر، لذلك يراهن الامريكان على الاسد في سوريا، وهم مستعدون لأن ينسوا حتى الخطوط الحمراء التي يضعونها له، وقد حصل ذلك من قبل. أما العراق فهو تجربتهم ومشروعهم، فلابد من الهرع اليه فورا.
ان الحقيقة التي يعرفها الامريكان والغربيون ومن يتعلق بأذيالهم من العرب، هو أينما وجدت أمريكا يتعزز وجود المسلحين المناهضين لها، لانها تعتمد سياسة مزدوجة في كل العالم وتكيل بمكيالين. هي بوجودها تنتج الامن الكاذب المؤقت عندما تسوي الخلافات المحلية بين أعوانها، كما يحدث في العراق في كل مشكلة سياسية، وتنتج انعدام الامن الذي يأتي بسبب الاف المتطوعين الذين يتقاطرون من كل العالم لمقاتلها. فمتى يُعلن العرب التوبة من التحالفات والحروب التي تستخدم أرضهم وأموالهم ودماء أبنائهم ضدهم؟
٭ باحث سياسي عراقي
د.
مثنى عبدالله