ضمير تركيا ليس للبيع بعد الحادي والثلاثين من أيار
أ . د . علي الهيل
7/13/2010
لقد غدا يوم الحادي والثلاثين من أيار (مايو)، يوما مفصليا في التاريخ الجيو إنساني؛ الملخص لوحدة المشاعر الآدمية وتأكيد مقولة الأديان السماوية كلها بالإجماع: 'إننا جميعاً لآدم وآدمُ من تراب'. إنه بجدارة يوم من أيام الله. والحق سبحانه يقول: 'وذكرهم بأيامِ اللهَّ'. وهو أي (الحادي والثلاثون من أيار) ليس فحسب يوماً مفصلياً فارقاً وحاسماً في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، أو بالنسبة لحلحلةِ قضية 'غزة' الراكدة في المياه الآسنة إقليميا ودوليا منذ العام 2006، أو في إعادة النظر في 'حل الدولتين' المتآكل، (والذي ما تفتأُ حكومات الكيان الصهيوني المتتالية تجعله مستحيلا بقضم وهضم وبلع أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية) أو في تاريخ العلاقات التركية الصهيونية والتركية الغربية عموما (باعتبار أن الصهيونية العالمية ومن خلال الإِيباك بالتحديد، هي التي تملي على السياسات الغربية، وخصوصا فيما يتعلق بالشرق الأوسط، كما أكدنا ذلك في مقالات سابقة من واقع شهادات موثقة لمفكرين وقادة رأي أمريكيين وأوروبيين) أو في إعادة شكل ومضمون ترتيب التحالفات الإقليمية والدولية بين الدول.
دعكَ طبعاً عن مناشط المجتمع المدني الدولي من كل حدبٍ وصوب، وجهود منظمات حقوق الإنسان الرسمية وغير الرسمية وناشطي السلام في العالم من أحرار (أسطول الحرية) وغيرهم (حتى في داخل الكيان الصهيوني من اليهود المعارضين للصهيونية) في مجال ملاحقة المجرمين الصهاينة المسؤولين عن أحداث الحادي والثلاثين من أيار/ مايو الدامية، ومطالبهم التي لا تتوقف بضرورة إجراء تحقيق دولي مستقل وشفاف لا تكون إسرائيل طرفا فيه، إذ لا يُعقل أن يحققَ القاتل مع نفسه، وبالتالي استسخاف فكرة لجنة (تيركل) الصهيونية المعينة من الحكومة ذاتها، صاحبة قرار شن الحرب الدموية وإرهاب الدولة (كما وصفه رجب طيب إردوغان) على (أسطول الحرية) وسفينة 'مرمرة' التركية بالتحديد، واستهداف ناشطي السلام الأتراك وقتل تسعة منهم بدم بارد، وجرح العشرات من الأتراك ومن جنسيات أخرى، بصورة متعمَّدة، كما أفادت شهادات الكثير ممن كانوا على متن السفينة، كالروائي والمؤلف السويدي العالمي الحاصل على جائزة 'نوبل' Henning Mankell البالغ من العمر 62 عاما، الذي كان ضمن أحد عشر سويديا على متن إحدى سفن أسطول الحرية، وقد أدلى بإفادته ومعاينته يوم الثاني من حزيران (يونيو) في مؤتمر صحافي باستوكهولم.
وهو أي (يوم الحادي والثلاثين من أيار/مايو) في ضوء ذلك كله، يُعتبر توديعاًَ لمرحلة سياسية واستقبالاً لمرحلة سياسية أخرى، ولِما ولِمن يرتبط بِهما.
ذلك اليوم المفصلي المشهود، هو المحطة الأولى في المرحلة الأخرى أو الجديدة في تاريخ العلاقات الإنسانية. وكما خلقته أسباب قوية هزت ضمير العالم الجمعي من أقصاهُ إلى أدناهُ، ترتـــــبت عليه بالمـــقابل نتائج ضخمة وتداعيات أضخم. وفرضت تلك النتائج والتداعيات مسؤولياتٍ على مستويات شتى. وهي لَمّاَ تزَل في حالة تفاعل وفوران وغليان.
وإنْ بدت في الظاهر غير ذلك، نظراً لخمود مُلاحَظٍ طرأ على الاهتمام بأحداث الحادي والثلاثين من أيار/مايو، نتيجة لتعتيم إعلامي مقصود تقوده كبريات وسائط الإعلام العالمية التي تُديرها الصهيونية، أو تلك التي تشترك في المصالح نفسها مع الصهيونية. ونأسف للقول: إن أطرافا عربية بما فيها ما يُسمى بالسلطة الفلسطينية قد ساهمت في (تبريد) نتائج الحادي والثلاثين من أيار وفي (تبرير) أسبابه داخل الغرف المغلقة.
إلا أنه رغم ذلك كله فإن أسباب ونتائج وتفاعلات الحدث الجلل من وراء الكواليس وخلف الأبواب المغلقة السياسية وعلى أعلى مستوى، إقليميا وعالميا لم يَخمُدْ أوارُها، ولكن... يتمُّ التعاطي معها في سرية تكاد تكون مطلقة، غير أن تسريباتٍ صحفيةً من دوائر صنع القرار العالمي بدأت تَترى؛ تؤكد مجمل هذه الفرضيات (لِنُطْلِقَ عليها ذلك مؤقتا، وإلى حين) كما سيتبين لاحقا من هذا المقال. وتكاد تكون مُفضِياتُ الحادي والثلاثين من أيار (مايو) شبيهة ً بالحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، من حيث الخطورة مع اختلاف الأسباب والمسببات والنتائج.
وبالفعل اعتبر أحمد داوود أوغلو وزير خارجية تركيا الحادي والثلاثين من أيار، بأنه الحادي عشر من أيلول بالنسبة لتركيا (ورقميا الحادي هو القاسم الأعظم المشترك بين اليومين). وهو تصريح ينطوي على (غَيبيَّاتٍ) سياسية، بدأت تُطلُّ برأسها شيئاً فشيئاً . بيْدَ أن الكثير منها ما يفتأُ يُحضَّرُ غيابيا ويُطبخ على نار هادئة، كما تفيدنا تسريبات من تركيا نفسها ومن غيرها من الدول، وسنأتي على بعضها في هذه العُُجالة. ولعل من ضمن ما انطوى عليه تصريح اوغلو، هو أنه كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية ما فعلته، وما تزال تفعله في أفغانستان والعراق والسجون التي نصبتها في مختلف بلاد الأرض، وعلى رأسها Guantanamo و(باغرام) و(أبو غريِب)، وملأتها بالمسلمين والعرب وحتى بالأمريكيين والأوروبيين المتعاطفين معهم، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، التي ما تزال تقشعر منها الأبدان، وتشكل وصمة عار على جبين تمثال الحرية الفرنسي المشرئب عنقُهُ في نيويورك، ونقطة سوداء على ضمير ما يوصف بالمجتمع الدولي، فإن تركيا ستصيغ ردة فعلها بطريقتها، وما حدث حتى الآن من ردود أفعال ليس سوى 'بداية بروز الجبل الجليدي The Tip Of The Iceberg'.
إنَّ أحد أهم التسريبات التي أشرنا إليها يفيد ناقلوها بأنَّ الإيباك واللوبي الصهيوني المتفرع عنه في الولايات المتحدة الأمركية وكندا، واللوبيات الصهيونية في دول الاتحاد الأوروبي، أحسوا بخطأ وخطل التقدير الصهيوني السيئthe Zionist miscalculation الصادر عن الكيان الصهيوني في أحداث الحادي والثلاثين من أيار، وأثره السلبي والخطير على التحالفات في الشرق الأوسط بالتحديد، والخوف من خسارة تركيا للأبد أو على الأقل طالما بقيَ حزب العدالة والتنمية على رأس صناعة القرار في أنقرة. ووفقا للتسريب المذكور فقد بدأ الضغط على الرئيس الأمريكي في اتجاه ليس فقط الطلب (كما نُشر في الإعلام) بل إلزام (وهو ما لم يُنشر وإنما سُرِّب) دول الاتحاد الأوروبي على قبول تركيا في المنظومة الأوروبية بأسرع وقت. ولقد فعل الرئيس أوباما ذلك. وبرره الرئيس الأمريكي بقوله (وهو ما أُذيع في الإعلام صراحةً): 'حتى لا تبحث تركيا عن تحالفات أخرى'. غير أن العارفين بالأخلاق السياسية لأهل 'العدالة والتنمية' يؤكدون أن ذلك وإن كان يبدو حلما تركيا، لن يشتري ضمير تركيا، فضميرها ليس للبيع من بعد الحادي والثلاثين من أيار. والمتتبع للشأن التركي، ربما لاحظ أنَّ رد عبد الله غُلْ الرئيس التركي على توبيخ (وهو ما لم ينشر في الإعلام) الخارجية الأمريكية على قرار تركيا بالتصويت ضد قرار العقوبات على إيران في مجلس الأمن الدولي، بأن صرح الرئيس غُلْ وبديبلوماسية حرفية عالية قائلاً: 'إن تركيا تشترط أن تعتذر إسرائيل عن أحداث الحادي والثلاثين من أيار/مايو، وتقبل بنتائج لجنة التحقيق الدولية المزمع تشكيلها، كشرط لإعادة العلاقات بين البلدين'.
وتجاهل الحديث عن موضوع الخارجية الأمريكية، لأنه يبدو أن الرئيس غُلْ اعتبر الحادي والثلاثين من أيار/مايو هو الذي يستحق التركيز والاهتمام، وأنَّ طرح أي موضوع آخر هو محاولة لتهميش الحدث الرئيسي. لأن تركيا أبلغت العالم كله بما فيه الإدارة الأمريكية بأن الاتفاق الإيراني التركي البرازيلي يشكل أرضية مُثلى لتسوية ملف إيران النووي. وعليه، فربما فهم الرئيس غُلْ مغزى الخارجية الأمريكية، فكان رده متعلقا بإسرائيل (ربيبة) أمريكا والغرب، وافترض الرئيس غُلْ أنَّ 'كل لبيبٍ بالإشارة يفهم' وأن 'العبدَ يُقرع بالعصا والحُرُّ تكفيهِ المقالة'.
' كاتب قطري