إعادة تشكيل المشهد العراقي في سوريا خطة غربية فاشلة الباحث بشير زين العابدين يؤكد أن ضعف المعالجة للأزمة السورية وإجهاد القوى الداعمة للنظام يمكن لهما تحريك مسار الأزمة نحو تحقيق أهداف الثورة. العرب
[نُشر في 11/12/2014، العدد: 9765، ص(6)]
جبهة النصرة في سوريا تمر بأصعب اختبار لها منذ تأسيسها
لندن- يرى الباحث السوري بشير زين العابدين أن ضعف المعالجة الدولية للأزمة السورية وإجهاد القوى الداعمة لنظام الأسد يصبّان في صالح الثورة الشعبية السورية. ويضيف زين العابدين في دراسة صدرت عن “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية” بعنوان “سوريا: تأزم المهد السياسي والفرص الكامنة” أن فشل تجربة الصحوات العراقية يؤكد عقم السياسة التفتيتية التي تسعى واشنطن إلى اتباعها في سوريا عن طريق تغذية النزعة الانفصالية عند العشائر السورية.تتسم المعادلة الأمنية في سوريا بتداخل كبير بين مفهومي الأمن الإقليمي والأمن الدولي، حيث تتجاوز أهميتها الاستراتيجية حدود المنطقة العريية، ويتزايد الإدراك العالمي بأن الأزمة قد تحولت من ثورة شعبية إلى صراع إقليمي تتفاعل مكوناته في عملية إعادة فرز سياسي شامل. بناء على ذلك التداخل؛ فإن أنظار المجتمع الدولي تتجه نحو الثورة السورية باعتبارها عنصر الحسم في معارك متعددة تخاض على الجبهة ذاتها، متمثلة في: الصراع الطائفي الذي تذكّيه طهران والميليشيات التابعة لها، وصراع الهوية السياسية بين التيارات الإسلامية والعلمانية، والصراع الدولي بين قوى الشرق الصاعدة والنفوذ الأميركي المتداعي، وصراع النظم بين السلطة المركزية ومفاهيم الحكم الفيدرالي والصراع الإنساني بين قوى التحضر وقوى الهمجية في أبشع صورها.
ومع امتداد الأزمة وتداخل مكوناتها؛ تعاني القوى الفاعلة من حالة استنزاف توفر بدورها حزمة من الفرص الكامنة، إذ أن معركة التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” قد أنتجت مشهدا قتاليا رديفا لمعركة التحرر التي يخوضها الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد.
كيف تم استنزاف أطراف الصراع؟ستيفان دي ميستورا: التوصل إلى خطة سلام مازال بعيد المنال لتداخل أطراف الصراع
عكست مبادرة ستيفان دي ميستورا، مبعوث الأمم المتحدة لحل النزاع السوري، حالة الإجهاد التي تعاني منها الدبلوماسية الأممية إزاء الصراع في سوريا، فقد جاء الدبلوماسي السويدي بمشروع مكرّر يقوم على فكرة عقد هدن متفرّقة وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، معترفا في الوقت ذاته، بأن “التوصل إلى خطة سلام مازال بعيد المنال”. أما الجديد الذي أتى به دي ميستورا، فيتمثل في الضغط على المعارضة للتخلي عن إسقاط بشار الأسد مقابل تشكيل حكومة انتقالية وتأسيس نظم إدارة محلية في المناطق المحررة.
لكن طرح المبعوث الدولي في حقيقته يعكس رغبة الأطراف الفاعلة في التوصل إلى موقف مشترك إثر تهاوي المشروع الأميركي لفرض المحاصصة الطائفية في الشرق العربي، حيث تقف الإدارة الأميركية مذهولة أمام انهيار الجيش العراقي الضامن لمشروعها، والذي كان يتكون من 193 ألف جندي ونحو 500 ألف من الشرطة والقوات شبه العسكرية التي تم تجنيدها من كوادر الميليشيات الطائفية بتكلفة قدرت بنحو 25 مليار دولار.
وفي دراسة نشرها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن (نهاية شهر نوفمبر 2014) أشار المحلل الاستراتيجي أنتوني كوردسمان إلى أنه على الرغم من إنفاق 1.8 تريليون دولار للحرب على الإرهاب إلا أن واشنطن قد فشلت في السيطرة على العمليات الإرهابية التي ارتفعت وتيرتها من 1500 عملية عام 2010 إلى 4650 عملية عام 2013، في حين تشكل عمليات التحالف الدولي ضد “داعش” عبئا اقتصاديا على الإدارة الأميركية التي تعاني من إخفاقات دبلوماسية وعسكرية. وتحتدم في الأروقة الدبلوماسية خلافات عميقة حول معالجة الأزمة السورية؛ إذ تتحدث المصادر عن خلاف تركي أميركي حول دعم الجماعات الكردية وإنشاء مناطق عازلة، وعن تحالف عربي أميركي حول طبيعة الدور الإيراني وأولويات الحملة على الإرهاب، فضلا عن الخلاف الروسي حول تحديد مصير بشار الأسد وإمكانية عقد “جنيف3″.
لكن الخلاف الأبرز في هذه المرحلة هو الذي يحتدم بين طهران وموسكو على خلفية التقارب الإيراني الأميركي، وما نتج عنه من تنسيق عسكري وتعاون استخباراتي، حيث تخشى موسكو من فقدان أوراق أساسية في الملف السوري نتيجة التنازلات التي قدمتها حكومات بغداد ودمشق بإيعاز من طهران، وذلك في الوقت الذي تعاني فيه روسيا من تبعات الأزمة الأوكرانية وتأثير انخفاض أسعار النفط على عملتها واضمحلال دورها العسكري، مما دفع الكرملين إلى التذكير بعدم شرعية غارات التحالف وبوجوب العمل عبر مجلس الأمن. بدورها، تعاني طهران من الكلفة الاقتصادية الباهظة لامتداد الأزمة السورية وانخفاض أسعار النفط، مما دفع وزير المالية الإيراني علي طيب نيا (في 1 ديسمبر 2014) إلى التحذير مما أسماه: “الاضطراب الجنوني” في سوق العملة إثر إقبال الإيرانيين على شراء العملات الأجنبية وسط مخاوف من أزمة اقتصادية قد تتسبب في انهيار الريال الإيراني.
تشكل عمليات التحالف الدولي ضد "داعش" عبئا اقتصاديا على الإدارة الأميركية
وينعكس تدهور الأوضاع في طهران على “حزب الله” اللبناني الذي يمر بأسوأ مراحله منذ أحداث عام 2006؛ إذ أن دخول قواته في الصراع السوري قد عاد عليه بخسائر بشرية أرغمته على وقف عملياته في القلمون، إضافة إلى تقهقر مقاتليه في نبل والزهراء بعد مقتل عدد كبير منهم، مما ضاعف الضغوط على قيادته للخروج من مستنقع الصراع الذي أجج الاحتقان الطائفي في المنطقة وزج بالجيش اللبناني في أتون معركة غير متكافئة ورهن مصير بيروت بتطورات المشهد المروّع في دمشق. أما في العاصمة السورية، فإن مشاعر القلق تنبعث من القصر الجمهوري إثر تسرب تفاصيل مفاوضات الإيرانيين والروس على مصير بشار الذي يعاني من عزلة رسخها انضمام حافظ مخلوف إلى أقرباء بشار الساخطين. وتتحدث مصادر محلية عن انتشار روح التمرد في القيادة العسكرية نتيجة لانهيار دفاعات الرقة وضعف حاميات النظام في نبل والزهراء وكذلك في مطار دير الزور العسكري، وكانت ملامح الغضب في صفوف العلويين قد ظهرت في مواقع التواصل الاجتماعي ثم تجسّدت في عدة مظاهرات بدمشق وحمص واللاذقية وطرطوس.
من ناحية أخرى، يعاني “داعش” من تراجع قدراته القتالية وتقلص موارده، حيث مني التنظيم بهزائم متعددة في محافظة صالح الدين، وعمدت قيادته إلى المزج بين عمليات النقل القسري والإعدام الميداني للسيطرة على حالة التذمر في صفوف مقاتليه حديثي التجنيد.
على الصعيد نفسه، تمر جبهة النصرة بأصعب اختبار لها منذ تأسيسها إثر التحاق عدد كبير من مقاتليها بتنظيم “داعش”، وتسرب آخرين من صفوفها. وتعاني الجبهة من تحديات خطيرة إثر تلاشي دور الجولاني لصالح عناصر أردنية وعراقية مثيرة للجدل، وتوجه بعض القادة نحو إعلان “إمارة إسلامية” على خطى “داعش”. في حين يحتدم الخلاف الداخلي حول مناورة أيمن الظواهري للمصالحة مع تنظيم “داعش”.
ما هو دور الشيعة والأكراد والعشائر؟ على الرغم من إخفاقاتها المتكررة، إلا أن الإدارة الأميركية لا تزال ماضية في مشروع “تمكين الأقليات” عبر تعزيز النظم الفيدرالية وتمكين المجموعات الإثنية والطائفية من إدارة شؤونها في منأى عن الأغلبية السنية ومؤسسات الحكم المركزي. وقد لخّصت دراسة نشرها معهد الأمن الأميركي الجديد (نهاية شهر نوفمبر 2014) رؤية واشنطن لمعالجة الوضع في: التوصل إلى اتفاقيات وقف قتال غير مشروطة، والمحافظة على المؤسسات الأمنية والعسكرية، وتأسيس نظام إدارة تعددية لامركزية في مناطق الأقليات، وتعزيز الوضع الأمني في الحدود لحماية دول الجوار. ولتحقيق هذه الرؤية؛ فإنه يتعين على الأميركيين الاستفادة من الدور الذي باتت تضطلع به الميليشيات الإثنية والطائفية كقوات برية رديفة لعمليات القصف الجوي في مواجهة تنظيم “داعش”.
ولا يمكن التغاضي عن الدور المحوري لـ”حزب الله” في القطاع الغربي من المعادلة الجيوسياسية؛ ففي مقابل التعاون القائم بين اللواء قاسم سليماني قائد فيلق القدس وجنرالات القيادة المركزية الأميركية في أربيل، يقوم تعاون رديف بين القيادة الأميركية و”حزب الله” لدعم عمليات الحزب في المناطق الحدودية مع سوريا؛ وكان علي شمخاني، أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني، قد زار بيروت وعرض على القيادة اللبنانية تقديم سلاح ودعم أمني إيراني.
وأشارت مجلة “نيوزويك” إلى أن “حزب الله” تولى عملية نقل الأسلحة الأميركية عبر مطار بيوت الدولي الذي يقع تحت سيطرته، وتولى اللواء عباس إبراهيم، مدير الأمن العام والذي يعد من كوادر الحزب، مهمّة التنسيق نظرا لما يتمتّع به من علاقات وثيقة مع جيمس وولسي ومايكل هايدن من الاستخبارات المركزية الأميركية. يأتي ذلك التعاون ضمن نشاط المنظومة الاستخباراتية الممتدة عبر محور: طهران-بغداد-دمشق-بيروت، والتي تزوّد القيادة العسكرية الأميركية بالمعلومات، حيث أكد معهد “ستراتفور” للدراسات الاستراتيجية والإثنية أن الاستخبارات الأميركية تحصل على إحداثيات دقيقة حول مواقع تنظيم “داعش”من دمشق عبر حكومة بغداد، وأكد المعهد أن العراقيين يبذلون جهودا مضنية للجمع بين السوريين والأميركيين في غرفة عمليات موحدة لتبادل المعلومات وتنسيقها.
أما الجزء الثاني من المعادلة، فيكمن في إنشاء قوة كردية تتمتع بحكم ذاتي شمال شرق البلاد، إذ تشير المصادر إلى اجتماع عقدته الاستخبارات الأميركية مع قادة الاتحاد الديمقراطي الكردي في باريس يومي 11 و12 أكتوبر لتنسيق العمليات وبحث تفاصيل الحملة ضد تنظيم “داعش”.
وفي خطوة تهدف إلى تعزيز فكرة استقلالية المناطق الكردية في سوريا؛ توجه وزير الخارجية الفرنسي الأسبق برنار كوشنير في نهاية شهر الماضي إلى المناطق الكردية في شمال سوريا للاستعلام عن الخبرات المتوفرة في مجال الإدارة المحلية في هذه المناطق، والتقى بشخصيات كردية في القامشلي وناقش معها سبل تأسيس نظام حكم محلي في المحافظة. وفي مقابل هيمنة التيارات الإسلامية على الكتائب المقاتلة؛ تعتزم الإدارة الأميركية حلّ هذه التشكيلات وتعويضها بقوات بديلة يتم تدريبها من قبل الاستخبارات المركزية وحلفائها في المنطقة، ففي مطلع شهر ديسمبر 2014 زار زعماء عشائر عراقيين واشنطن وتم إبلاغهم بتوجه الإدارة الأميركية لتشكيل قوة عشائرية قوامها مئة ألف مقاتل في محافظات الأنبار ونينوى وصالح الدين لمحاربة تنظيم”داعش” وحماية المناطق بعد طرد التنظيم منها.
كيف تصنع الأزمة الفرص؟تدهور الأوضاع في طهران ينعكس على "حزب الله" اللبناني
يخلص الباحث بشير زين العابدين، بعد تقديمه المعمّق لمختلف التحولات والمؤثرات الفاعلة في الأزمة السورية، إلى أنه من خلال ضعف المعالجة الغربية للأزمة السورية وإجهاد القوى الداعمة للنظام؛ يمكن القول إن مسار الأزمة يتحرّك نحو تحقيق أهداف الثورة وانهيار حكم بشار الأسد، وذلك لأن:
الإدارة الأميركية تكرر أخطاء الانتداب الفرنسي عبر تعزيز اللامركزية وفرض الإدارة الذاتية في الأقاليم، إلا أن مشروعها قد مني بنكسة كبيرة إثر انهيار الجيش العراقي المكون من ائتلاف ميليشيات طائفية، ولا شك في أن تعويل واشنطن على الانفصاليين الأكراد سيعود عليها بالمزيد من الفشل.
وبخلاف الدور الذي تمارسه القيادة التاريخية للعشائر الكردية في العراق؛ لم ينجح أكراد سوريا في التوافق على مرجعية قيادية يمكن الارتكاز عليها لتشكيل موقف موحد أو تأسيس نظام إدارة محلي.
ويغيب عن الاستراتيجيين الغربيين فهم مخاطر العبث بالتكوين الديمغرافي للمجتمع السوري عبر محاولة توظيف العشائر ضد مكونات أخرى من المجتمع، وعلى الرغم من محاولة مراكز الفكر الغربية تصوير العشائر على أنها جماعات من المرتزقة يمكن تطويعها بالمال؛ إلا أن فشل تجربة الصحوات العراقية تؤكد عقم هذه السياسة التفتيتية، في حين يشكل العنصر العشائري مكونا أساسيا للثورة السورية منذ اندلاعها.
بناء على ما سبق، يشير الباحث السوري إلى أن غياب الاستراتيجية الدولية الناجعة هي الفرصة بعينها؛ إذ أن الثورة السورية لا تزال تمتلك قدرة عالية على التموضع وإعادة التشكيل. وعلى الرغم من الإخفاقات السياسية والعسكرية إلا أن القوة الكامنة لدى الشعب السوري لا تزال قادرة على رفد الساحة بأطروحات جديدة في مقابل ترهل الدبلوماسية الدولية، وما تحتاج إليه الثورة هو تقدم العقلاء بمبادرة تقوم على التخطيط السليم والتشكيل البنيوي المتوافق مع متطلبات المرحلة.