العراق الجريح ينزف فنانيه في صمت فنانون ومبدعون يرحلون والعراق في أعمالهم يتألق ويسمو ويبقى ولا يزال يزخر بهم رغم ما يشهده من أحداث وصراعات. العرب
محمد ناصر المولهي [نُشر في 22/12/2014، العدد: 9776، ص(15)]
رسمة لرافع الناصري الذي توفي هذه السنة
من منا لا يصاب بالوجد، وهو يسمع اسم العراق، بلد الثقافة والعلم والفن وأرض المغامرة الأولى للإنسان؟، على مرّ العصور قدّم هذا البلد العريق للثقافة العربية والإنسانية الكثير، بلد زاخر بشعرائه وكتابه، بفنانيه وموسيقاه العذبة، بلد يتدفق في عقولنا وعواطفنا كدجلة والفرات. لكن العراق راح يخفت بعد عقود مريرة من الحرب وبعد أكثر من عقد على الغزو الأميركي وتبدّل أحوال السلطة واستشراء الطائفية والإرهاب اللذين يمزقانه، عن أيّة ثقافة يمكننا أن نتحدّث في العراق اليوم في ظل ما يشهده من انقسام وموت يومي وأحداث دموية مؤلمة، لعل أبرزها هذه السنة سيطرة تنظيم إرهابي على جزء كبير من أراضيه. العراق مازال زاخرا بشعرائه وفنانيه رغم آلات القتل التي لم تترك بشرا أو حتى عشبة على حالها، لكن ما زاد من حرقة هذا البلد العريق رحيل عدد من أبنائه الفنانين والكتاب الذين ترجلوا عن صهوة الحياة هذه السنة، مخلفين وراءهم لوعة في قلوب العراقيين وفي تربة العراق التي تحاول نفض البارود عنها بجماليات الفن.
لعل الثقافة وحدها هي القادرة على انتشال هذا البلد العزيز من براثن التقاتل والطائفية والقتل والإرهاب الدامي، وحدها الثقافة قادرة على ذلك، لذلك كان لزاما علينا أن نكرم المثقفين والفنانين العراقيين الذين رحلوا هذا العام، في تذكير بهؤلاء وبأدوارهم في الثقافة العراقية التي تعاني هي الأخرى من الوضع العام للبلد المجروح. “العرب” اللندنية ترصد أهمّ الأسماء الثقافية التي تركت مشعل الحياة إلى من بعدها، وتبرز أدوار هؤلاء الذين كانوا آخر سدّ أمام استفحال لغة الدم في سماء وتربة العراق.
رحيل صامت غيب الموت هذه السنة الفنان التشكيلي العراقي نوري الراوي. الراوي ولد في مدينة راوة (إحدى مدن محافظة الأنبار غرب العراق) سنة 1925. وهو أول من رسم الجدارية في العراق، في عام 1945 حين كان معلما في مدرسة راوة.
أسس الراوي المتحف الوطني للفن الحديث وكان أول مدير له (1962- 1974). كما أنه أصدر أكثر من كتاب بين الشعر والتشكيل والسينما والمسرح، منها “تأملات في الفن العراقي الحديث” 1962، و”المدخل إلى الفلكلور العراقي” 1962، “جواد سليم” 1963، “الفن الألماني الحديث” 1965، “العراق في كرافيك” 1966، “منعم فرات نحات فطري” 1975، “اللون في العلم والفن والحياة” 1986، “تأملات في الفن العراقي الحديث” 1999، وغيرها الكثير. يتحدث الكاتب رشيد الخيون عن سيرة الراوي قائلا: “إن محنة نوري الراوي أنه لم يغادر العراق، ولم يعمل في السِّياسة، فحاول البقاء مهادنا وساكتا، ومَن يسكتُ يسلم آنذاك، والرجل لم يُقدم نفسه مناضلا ضد العهد السَّابق، مثلما كَذِبَ الآخرون. على أية حال نوري الرَّاوي في الزَّمن السَّابق والحالي لا يقوى على مغادرة العِراق، والعيش في المهاجر، وإذا أخذ وسام الاستحقاق في العهد السَّابق، فليس لنا إلغاء ذلك العهد برمته، فكانت فيه ثقافة وعلوم وشوارع نظيفة وكوادر علمية، لكن الآن انتهى ذلك العهد فعلينا أن نتحدث بمنطق آخر، نذكر السلبي مهما عظم والإيجابي مهما صغر”.
- اقتباس :
- الناصري استلهم من المدرسة الواقعية في الرسم والحفر ليؤسس بذلك لنفسه رؤية فنية متفردة
كذلك من أبرز من رحلوا عن الساحة الثقافية والشعرية العراقية هذه السنة الشاعر حسين عبداللطيف (1945-2014)، مخلفا وراءه رصيدا من المجموعات الشعريّة: “على الطرقات أرقب المارّة” (دار الشؤون الثقافيّة في بغداد 1977)، و”نار القطرب” (الشؤون الثقافيّة ـ 1995)، و”لم يعد يجدي النظر” (دار الجمل ـ 2003) إضافة إلى كتابه الشعريّ الأخير “بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميتة – متوالية هايكو” (سلسلة كتب بصريّة ـ وزارة الثقافة في بغداد 2012). شعر هذا الرجل يمثل عصارة لما تشهده الثقافة العراقية، علاوة على أنه مجدد ومتجاوز لنفسه باستمرار.
لقد عاش هذا الشاعر حياة قاسية بحق، بين عذاب المرض وألم رحيل ابنه البكر حازم. لكنه على الرغم من كل صعوبات حياته، قفز على آلامه، ليكون حاضرا بإضافته في قلب الحياة الثقافية العراقية بشكل دائم. ولعل أهم ما يميزه هو دعمه الدائم لكل تجارب الكتاب الشباب ومساعدتهم في نشر أعمالهم والأخذ بأيديهم لمواصلة طريقهم في درب الكتابة.
كما توفي في العاصمة الفرنسية باريس هذه السنة الخطاط والشاعر العراقي محمد سعيد الصكّار عن عمر ناهز الثمانين عاما، مخلفا وراءه إرثا من الأعمال الشعرية والفنية التي جعلت منه أحد أهمّ فناني الخط العربي والزخرفة في العصر الحديث.
ولد الصكّار عام 1934 في بلدة المقدادية، شرقي بغداد، لكنه نشأ في مدينة البصرة جنوبي العراق. وظلت البصرة ظاهرة في أعماله سواء منها الشعرية أم أعماله في فن الخط العربي، نذكر من أعماله مجموعة شعرية صدرت له بعنوان “أمطار” سنة 1962، مرورا بمجموعة “برتقالة في سورة الماء” عام 1968، وانتهاء بلوحاته الحروفية الكثيرة، التي تمثل تجربة فارقة في فن الخط العربي والزخرفة في العصر الحديث، وجعلته أحد أهمّ رموزه.
أقام الصكّار في فرنسا منذ عام 1978 حيث اختارها لتكون منفاه الإجباري، وقد تفرغ من وقتها لعمله الفني في مرسمه. خلال مسيرته المهنية والفنية الطويلة، مارس الصكّار العمل الصحفي محررا وخطاطا ومصمما منذ عام 1955.
وقد حصل على جوائز عدّة، من أبرزها جائزة دار التراث المعماري تقديرا لتصميمه جداريات بوابة مكة. وحظي بتكريم معهد العالم العربي.
وقال جاك لانغ رئيس المعهد، ووزير الثقافة الفرنسي السابق، إن الصكّار “يعدّ بجدارة أحد أبرز ممثلي الخط العربي المعاصر”.
إذن رفع هذا الفنان الخط العربي وبيئة العراق والبصرة تحديدا لتكون كلها رموزا فنية عالمية، ومن غير الفنان يحمل بلدا بأكمله معه في ريشة أو كتاب ليقدم ندرته إلى العالم؟ صدمت الأوساط التشكيلية العراقية هذه السنة بخبر رحيل الفنان العراقي رافع الناصري في عمان عن عمر يناهز الـ73 عاما. ويعتبر الناصري أحد رموز الفن التشكيلي العراقي والعربي خاصة فيما يتعلق بالغرافيك.
- اقتباس :
- الثقافة وحدها هي القادرة على انتشال العراق من براثن التقاتل والطائفية والقتل والإرهاب الدامي
ولد الفنان الراحل في تكريت عام 1940 ليتخرج من معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1956، ويسافر فيما بعد إلى الأكاديمية المركزية في بكين عام 1959، ويتخصص في فن الغرافيك، مؤسسا في تاريخ الفن العراقي الحديث تجربة فنية رائدة بحيث لا يذكر الغرافيك إلا ويذكر معه رافع الناصري.
الناصري استلهم من المدرسة الواقعية في الرسم والحفر ليؤسس بذلك لنفسه رؤية فنية متفردة، بذلها دفاعا عن وطنه العراق ودرءا لأشباح الحرب التي كان يندّد بها على الدوام ويسعى من خلال أعماله التشكيلية إلى مقاومتها، أعماله نفسها التي صدر بها العراق إلى العالم وفضح الحرب والدمار، وكشطهما عن بلده بريشته. ليدفع بكامل سنواته وجهده بلده ناحية الجمال وينقيه من غمامات الدم والدخان.
موسيقار البصرة الموت غيب كذلك الملحن البصري الرائد طارق الشبلي عن عمر ناهز الخامسة والسبعين عاما إثر صراعه مع المرض. بدأ طارق الشبلي مشواره الفني عازفا على آلة الكمان ضمن الفرق البصرية منذ العام 1956 وعمل في فرقة الموانئ 1971 وفي فرقة التلفزيون في البصرة، وكان له طريق الشهرة مع الفنان سعدون جابر في أغنية “الصفصاف”.
لحن لعدد من مشاهير الغناء أمثال سعدون جابر الذي لحن له أغنية “يلومون يالمبتلي”، ومحمود أنور الذي لحن له “لو تحب لو ما تحب”، ورياض أحمد الذي لحن له أغاني “أكول الله على العايل” و”واجب بالروح أشريك يحبيب واجب”، وغيرهم من الفنانين الذين لحن لهم الشلبي.
وقد شغل الملحن عدة مناصب إدارية في البصرة، منها منصب نقيب الفنانين في البصرة، ومدير بيت المقام العراقي، ورئيس اتحاد الموسيقيين في البصرة. وقد عانى آخر سنوات حياته من الشلل النصفي الذي أصابه نتيجة جلطة دماغية أقعدته طريح الفراش وآخر أعماله كان برنامج “الميكروفون الذهبي”، حيث شغل فيه أحد أعضاء لجنة التحكيم.
أعلن في أربيل عن وفاة رسام الكاريكاتير العراقي أحمد الربيعي، إثر نوبة قلبية مفاجئة، عن عمر ناهز الرابعة والأربعين عاما. والراحل عضو رابطة رسامي الكاريكاتير العراقية، ويعمل في جريدة الصباح الجديد العراقية.
وقد أصدر الربيعي كتابين ضمّا أعماله الفنية، فصدرت مجموعته الأولى التي نشرها في مصر، والتي ضمت 150 رسما كاريكاتيريا، أعدّت بين عامي 1993 و2003، والإصدار الثاني يضم أعماله التي أنجزها بين عامي 2003 و2011. وللربيعي العديد من المشاركات والمعارض داخل وخارج العراق وفي دول عربية وأجنبية مختلفة، منها معرضه الشخصي في القاهرة 2005 دار الأوبرا ومعارض جماعية وثنائية، ومنها معرض ثنائي في المركز الثقافي الفرنسي ببغداد 2002، ومشاركات في صالون الكاريكاتير الفرنسي 1999، والمكسيك 1998، وكابروفر بلغاريا 1994.
- اقتباس :
- الفنان التشكيلي نوري الراوي في الزمن السابق والحالي لم يقو على مغادرة العراق، والعيش في المهجر
الفنان كان وجه العراق في الخارج وكلنا يعرف الرسالة السياسية والاجتماعية التي يحملها فن الكاريكاتير والتي ينقلها بسلاسة إلى أيّ متلق في العالم.
الملحن العراقي محمد جواد أموري توفي هذه السنة، إثر معاناة طويلة مع المرض، عن عمر يناهز التاسعة والسبعين عاما.
ويعتبر أموري أحد أجمل أوتار الموسيقى العراقية، وقد ترك بصماته الخاصة في الأغنية العراقية، حيث قدّم الكثير من الألحان لعدة فنانين عراقيين، منهم ياس خضر وحسين نعمة وسعدي الحلي وستار جبار وحميد منصور وأمل خضير وأنوار عبدالوهاب، وغيرهم الكثيرون.
محمد جواد أموري من مواليد 1935 في كربلاء، أجاد العزف على عدة آلات موسيقية منذ طفولته، ليلتحق فيما بعد بالفرقة السيمفونية العراقية، وقد تميّز بعزفه على الكمان، حتى أصبح لاحقا عازف الكمان الأول في الفرقة على مدى ستة عشر عاما. قدم أموري ألحانا لمطربين عرب، مثل الكويتي المعروف عوض دوخي، والفنانة المصرية إلهام بديع، وسجل الكثير من أغاني الموروث العراقي بصوته بمرافقة آلة العود. وقد مثل الراحل إضافة كبيرة للموسيقى العراقية والعربية عامة لما تميزت به ألحانه من روح مختلفة مشحونة بتربة العراق وماء النهرين وسمائهما.