الأوبئة والطواعين في فلسطين (القرن 1-10هـ/ 7-16م)
د. خالد الخالدي
نشرتُ بحثاً علمياً عنوانه: الكوارث الطبيعية في فلسطين من (القرن 1-10هـ/ 7-16م)، أجد من المفيد أن أقتطف جزءاً منه فأضعه ملخصاً بين أيدي المهتمين. تعرضت فلسطين خلال مدة الدراسة إلى أوبئة وطواعين مروعة أثرت في المجتمع الفلسطيني، وكانت على النحو التالي: أولاً: أول طاعون حدث في فلسطين، حسب مصادرنا الإسلامية هو طاعون عمواس(سنة 18هـ =638م )، وقد أدى إلى موت عدد كبير من الصحابة الأجلاء الفاتحين لفلسطين، كان على رأسهم أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل والفضل بن العباس والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو، وشرحبيل بن حسَنَةَ ويزيدُ بن أبي سفيان رضي الله عنهم، وتذكر المصادر أن عدد الموتى الإجمالي بلغ ما يقارب 25 ألف نسمة، وقيل إنه بلغ 30 ألفاً.
وقد أشار عمرو بن العاص على المسلمين بطريقة يمكن أن تقيهم شره، فقال: هذا الطاعون رجز ففروا منه في الأودية والشعاب، وقد أحسن عمرو عندما نصح الناس بذلك، لأن هذه هي الطريقة الأفضل لمنع انتقال المرض بالعدوى، فالمصاب لا ينقل المرض إذا بعد عن الناس، والمعافى البعيد عن المرضى يبقى في عافيته.
وقد نجحت فكرة عمرو في وقف انتشار أكبر للطاعون. وهذا الفهم يؤكده قول النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بها فَلاَ تَخْرُجُوا منها وإذا وَقَعَ وَلَسْتُمْ بها فَلاَ تَقْدَمُوا عليه". ثانياً: أصاب فلسطين في أول عهد الخليفة هارون الرشيد ( 170- 190هـ =786-805م) طاعون وصفته المصادر بأنه " جارف ربما أتى على جميع أهل البيت، فخربت أرضوهم وتعطلت". وانقطعت الطواعين عن فلسطين نحو أربعة قرون، ثم رجعت في سنة (586هـ =1190م)، حيث وقع فيها وباء عظيم، خاصة في المناطق المجاورة لمدينة عكا، وقد أصاب هذا الوباء جيش المسلمين الذي جاء لفك الحصار عن عكا، وجيش الصليبيين المحاصر لها، ومات العديد منهم، كان أبرزهم قائد الحملة الألمانية وجماعة كبيرة من فرسان الحملة.
ثالثاً: في سنة (672هـ =1273) انتشرت الأمراض والحميات في الرملة والقدس، ويبدو أن سبب انتشار هذه الأمراض هو شرب السكان من مياه الآبار الملوثة، وقامت السلطة الحاكمة بمحاولة إيجاد حلول لمعالجة آثار هذه الأمراض، فقامت بتجديد مياه الآبار. رابعاً: في سنة (749هـ=1348م) وقع وباء عظيم شمل كل العالم القديم، واستمر هذا الوباء إلى بداية سنة (750هـ=1349م)، وقد عرف هذا الوباء في أوروبا باسم الطاعون الأسود.
وقد أسهب المؤرخون في وصف مدى انتشاره وتأثيره في العالم، فقال المقريزي:"عم أقاليم الأرض شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، جميع أجناس بني آدم وغيرهم، حتى حيتان البحر، وطير السماء، ووحش البر". وقال ابن خلدون:" هذا إلى ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيّف الأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها، وفلّ من حدها وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها". وقال السخاوي: "ولم يُعهد نظيره فيما مضى، فإنه طبق شرق الأرض وغربها، ووصل حتى مكة المشرفة، وما سلم منه سوى طيبة". وقد أصاب هذا الوباء فلسطين كغيرها من البلدان، وكان أول ظهوره في مدينة غزة.
ويذكر ابن شاهين أن الوباء لم يدخل" ثغر أسوان ولا بغرناطة من بلاد الأندلس ولا بغزة وحماة". وقوله بأن هذا الوباء لم يحدث بغزة ؛ مناقض لما ذكره المؤرخون من قبله، والراجح هو صحة رواياتهم، يؤكد ذلك أن منهم مؤرخين عاصروا تلك الأحداث، كابن الوردي وابن كثير، والصفدي، وابن بطوطة، بينما وُلد ابن شاهين عام 844هـ، أي بعد حدوث الوباء بنحو 95 سنة. وقد نتج عن هذا الوباء بفلسطين خسائر بشرية كبيرة، ففي مدينة غزة وحدها مات في شهر واحد- من (10 محرم/9 إبريل)، إلى (10 صفر/9 مايو) أكثر من10 آلاف نسمة، معظمهم من الفلاحين، مما كان له أثر كبير على انخفاض الإنتاج الزراعي، ولا تقدم لنا المصادر أرقاماً محددة لعدد الضحايا في بقية الأشهر التي مكث فيها الوباء منتشراً، وإن كان يغلب على الظن أن يكون عدداً كبيراً، استناداً لهذه الإحصائية. وسجلت المصادر وصفاً لحجم الخسائر بالأرواح في بقية المدن الفلسطينية، يدل على أن أغلب سكان هذه المدن قد بادوا، قال المقريزي:" ولم يبق في بلدة جنين، سوى عجوز واحدة خرجت منها فارة، ولم يبق بمدينة لُدّ أحد، ولا بالرملة، وصارت الخانات وغيرها ملآنة بجيف الموتى".
وقال أيضاً:" وباد أهل الغور، وسواحل عكا وصفد، وبلاد القدس ونابلس". ولم تسلم الحيوانات البرية من هذا الوباء فقد ذكر المقريزي أنه:" تواترت الأخبار من الغور وبيسان وغير ذلك من النواحي أنهم كانوا يجدون الأسود والذئاب والأرانب والإبل وحمر الوحش والخنازير وغيرها من الوحوش ميتة، وفيها أثر الكُبة". إن هذه الخسائر الفادحة في الأرواح التي تسبب بها ذلك الوباء، والتي أدت إلى إبادة شبه كاملة لسكان عدد من المدن الفلسطينية لدليل على أن الكوارث الطبيعية قد أثرت في حياة الإنسان الفلسطيني أكبر بكثير مما أثرت فيه الحروب، ومن الواضح أن الدولة المملوكية التي كانت تحكم فلسطين في ذلك الوقت قد وقفت عاجزة عن فعل شيء لمنع انتشاره، أو معالجة آثاره، خصوصاً أنه بلاء قد عم وأثر في كل البلدان الواقعة تحت حكمها، ولا غرابة في ذلك، فنحن نرى في زماننا كيف تقف الدول المتقدمة عاجزة حائرة أمام أوبئة وأمراض أقل خطورة بالرغم من تقدمها العلمي والمادي الكبير.
خامساً: في (رجب 790هـ/ يونيو 1388م) حدث طاعون في فلسطين، واستمر إلى شهر (رمضان790هـ/سبتمبر1388م)، وقد تفشى في القدس وغزة والمناطق الساحلية، ولم تذكر المصادر حجم الخسائر في الأرواح. سادساً: في سنة (795هـ/ 1393م) تفشى الطاعون في فلسطين، وقد استمر منتشراً إلى نهاية هذه السنة، وتركز تفشيه في فلسطين بمدينتي غزة والرملة، ولا تمدنا المصادر بمعلومات كافية عن حجم الخسائر البشرية الناجمة عنه.
ويمكننا القول بأن النصف الثاني من القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي كان حقبة صعبة على الفلسطينيين، إذ فتك بهم خلالها ثلاثة طواعين فتاكة. سابعاً: في (محرم 813 هـ/مايو-أيار1410م) تفشى الطاعون بفلسطين، وقد استمر إلى شهر (صفر 814هـ/ مايو 1411م)، وتركز تفشيه في مدينة نابلس، ولا تذكر المصادر مدى ما أحدثه فيها من فتك بالأرواح. ثامناً: في سنة (819هـ/ 1416م) انتشر الوباء في القدس وصفد، لكن مصادرنا لم تحدد الشهر الذي بدأ فيه الوباء، كما لم تعطِ تفاصيل عن قوة تأثيره فيها، ولا يستبعد أن تكون الخسائر فادحة في الأرواح كما حدث في دمشق، فقد ذكرت المصادر إشارة تدل على ذلك، ومنها أن هذا الوباء مكث عدة أشهر، وأنه كان "كثيرًا".
تاسعاً: في شهر (ربيع الأول 826هـ/إبريل1433م) تفشى الوباء في دمشق، وفي (جمادى الثاني 826هـ / مايو-أيار1423م) "عَظُم الوباء بدمشق، وفشا في البلاد إلى غزة، ولم يتناقص هذا الوباء إلا في أواخر شهر (رجب/ يونيو)، "وكان يموت من غزة في كل يوم مائة إنسان وأزيد، وكان معظم من مات الصغار والخدم والنساء، فخلت الدور منهم إلا قليلاً "، وفي الوقت الذي تناقص فيه الوباء في دمشق وغزة، تفشى في القدس والخليل والرملة، ويذكر العيني أن عدد من كان يموت في القدس يومياً ثلاثون شخصاً، وبلغ عدد من يموت يومياً في الرملة مائة شخص، ولم يقدم لنا تفاصيل أكثر عن مدى تأثير هذا الوباء في مدينة الخليل، وقد ارتفع الوباء بالكلية عن فلسطين في مستهل شهر (رمضان826هـ = أغسطس-1423م).
عاشراً: في شهر ربيع الأول من سنة (830هـ= 1426م) انتشر الوباء في صفد، ولم تحدد المصادر مدى فتكه بالأرواح.
أحد عشر: في شهر (شعبان832هـ = مايو1429م) " كثر الوباء بغزة والرملة من أرض فلسطين"، وكذلك وقع في " القدس وصفد ودمشق وحمص وحماة وحلب "، واستمر هذا الوباء إلى شهر (ربيع الأول 833هـ= نوفمبر-تشرين ثاني1429م)، ولم تكشف لنا المصادر عن عدد ضحايا هذا الوباء، لكن المقريزي ذكر أنه "هلك فيه خلائق لا يحصي عددها إلا الله تعالى".
اثنا عشر: في سنة (841هـ/ 1437م) تفشى طاعون عظيم في بلاد الشام ومصر والعراق، وغيرها من البلاد، وكانت غزة أكثر المدن الفلسطينية تعرضاً لفتكه بالأرواح، فقد اشتد فيها الطاعون خصوصاً في شهر رمضان841هـ/مارس-آذار1438م)، إذ أحصي من مات فيها خلال هذا الشهر فبلغوا 12 ألف نسمة، وقد استمر هذا الوباء منتشراً إلى أواخر هذه السنة تقريباً.
ثلاثة عشر: في سنة (864هـ/1459م) تفشى الطاعون في مصر والشام، وكان أشده في فلسطين ما حدث في مدينتي غزة والقدس، قال ابن تغري بردي:" عظم الطاعون بمدينة غزة، وأباد الموت أهلها، حتى تجاوز عدد الموتى بها في اليوم سبعمائة، وقيل أكثر وأقل", وقال ابن العماد: " فيها كان الطاعون العظيم بغزة، ثم الشام والقدس، ومات فيه من لا يحصى"، ولم تذكر المصادر متى توقف هذا الطاعون.
أربعة عشر: في سنة (873هـ/1468م)، تفشى الطاعون في مصر والشام، واستمر في بلاد الشام إلى بداية سنة (874هـ/1469م)، وكان أشده في فلسطين ما حدث في القدس، فقد حدث الطاعون فيها في شهر (ذي القعدة 873 /مايو 1469م )، واستمر إلى شهر (ذي الحجة/يونيو1469م )، ولا تذكر المصادر مدى فتكه بالأرواح.
خمسة عشر: في سنة (881هـ/1476م) تفشى الطاعون في بلاد الشام ومصر واستمر هذا الطاعون إلى سنة (882هـ /1477م)، وكان أشده فتكاً في فلسطين ما حدث في بيت المقدس وغزة والرملة، وقد بدأ الطاعون بالانتشار بدايةً في مدينة القدس في أوائل شهر (رجب =أكتوبر 1476م)، وتفشى في غزة والرملة في شهر (رمضان=ديسمبر1476م). أما عن مدى فتكه بالأرواح في هذه المدن الفلسطينية، فقد ذكر العليمي أنه" أفنى خلقاً من الشباب والنساء وأهل الذمة".
ستة عشر: في سنة (897هـ /1492م) تفشى الطاعون في فلسطين وغيرها من البلاد، وقد وصفه ابن العماد بقوله: " الطاعون العام العجيب الذي لم يسمع بمثله حتى قيل إن ربع أهل الأرض ماتوا به". وقد تركز تفشي هذا الطاعون في فلسطين بالقدس والخليل وغزة والرملة. ويذكر السيوطي أن هذا الطاعون لم يدخل القدس والرملة وغزة، وهذا مخالف لإجماع المؤرخين، الذين أوردوا تفاصيل دقيقة عن مدى فتكه بالأرواح في هذه المدن الثلاث، ولذلك نرجح صحة رواياتهم على رواية السيوطي. ابتدأ تفشي هذا الطاعون في مدينة القدس والخليل في شهر (جمادى الثاني= إبريل)، واشتد أمره في شهر (رجب/ مايو) حيث بلغ عدد الموتى في القدس يومياً حوالي خمسين شخصاً، ثم ازدادت حدته في شهر )شعبان=يونيو) حيث بلغ عدد الموتى يومياً ما يزيد عن 100 شخص، وقد استمر هذا الطاعون في القدس إلى أواخر شهر (شوال/ أغسطس-آب). وقد وصف العليمي مدى فتك الوباء في مدينة القدس بقوله:" وأفنى خلقاً من الأطفال والشباب وأفنى طائفة الهنود عن آخرهم، وكذلك الحبش، ومات جماعة من الأخيار الصالحين ".
أما في مدينة الخليل فأكثر عدد سُجل للموتى يومياً فيها حوالي خمسين نفساً، وبلغ عدد الموتى فيها طوال مدة بقاء الوباء حوالي 1400 نسمة. وفي مدينة الرملة مات ما لا يقل عن 9 آلاف نسمة وذلك استناداً للإحصائيات التي أوردها المؤرخون، أما في مدينة غزة فلم تذكر المصادر معلومات كافية حول حجم الخسائر بالأرواح فيها. ولم تذكر المصادر متى توقف هذا الطاعون في هذه المدن، ونرجح أن يكون قد توقف في شهر (شوال/ أغسطس-آب )، مثلما حدث في مدينة دمشق. والمتأمل في الطواعين التي أصابت أهل فلسطين في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي يلاحظ أن هذا القرن هو قرن الطواعين في فلسطين بلا منازع، فقد فتك بالفلسطينيين خلاله أحد عشر طاعوناً، كما يلاحظ أن الطواعين قد تركزت في المدن الفلسطينية الجنوبية، وخصوصاً مدينة غزة التي نالها من الطواعين النصيب الأعلى. ويبدو أن ذلك يرجع إلى موقعها الجغرافي والتجاري، فهي البوابة التي تربط آسيا بأفريقيا، ويمر بها التجار والمسافرون بين القارتين، وبالتالي فهي معرضة لوصول الطواعين المعدية مع المسافرين الذين يقدمون إليها من مختلف البقاع والأصقاع، وهذا ينطبق إلى حد كبير على القدس التي فتكت الطواعين كثيراً بسكانها، إذ يفد لزيارة أماكنها المقدسة المسلمون والنصارى من مختلف بقاع العالم، ويمكن أن يحملوا معهم الأمراض المعدية، فتنتقل إليها، وتنتشر بين أهلها.
سبعة عشر: في سنة (902هـ/1496م ) تفشى الطاعون في مدينة غزة، وبعدها امتد إلى مصر، ولم تحدد المصادر مدى تأثيره في مدينة غزة.
ثمانية عشر: في سنة (919هـ/1513م ) تفشى طاعون في بلاد الشام ومصر، واستمر هذا الطاعون في بلاد الشام إلى شهر (ذي الحجة/يناير1514م). وقد بدأ تفشيه في فلسطين في شهر ( جمادى الأولى/يوليو) وانتشر في غزة والرملة وبيت المقدس، ولا تقدم المصادر أية معلومات حول مدى فتكه بالأرواح في هذه المدن الفلسطينية. حفظ الله فلسطين وأهلها من الأمراض والأوبئة والطواعين إلى يوم الدين.