الإجرام اللامحدود تحت راية أفضل الشرائع والحدود
د. مثنى عبدالله
February 9, 2015
مخرز أدمى قلوب الكثيرين، خاصة نحن العرب، ذلك الذي حصل للطيار الأردني، حتى أنه أعاد ذاكرة العراقيين إلى ما يقرب من ثلاثة عقود مضت من الزمن، حينما قامت إيران، أثناء الحرب العراقية الإيرانية، بقتل بعض أسرانا بطريقة مبتكرة لم تعرف البشرية مثلها من قبل، حيث تم ربط الأطراف السفلى لعدد منهم بعجلات تمشي باتجاهين متعاكسين فشطرت كل واحد منهم إلى نصفين.
كان ذلك الحدث قد تم بأيد إيرانية، بينما قتل الأسير الطيار الاردني تم بأيد عربية، لكن الغريب أن الحدثين حصلا في عهدين يطلق القائمون عليهما مصطلح دولتين إسلاميتين، بينما جبلتنا تعاليم الإسلام منذ الصغر على أن الاسير بمنزلة اليتيم والمسكين في التعامل، بل حتى تراث جاهلية العرب كان يعيب قتال من سقط سيفه من يده. وإذا كان الحدث الأخير قد قض مضاجعنا بمأساويته، فإنه يقينا فرض متغيرات مفصلية في السياسة الأردنية خاصة والعربية عامة، لا سيما في ساحات الأقطار العربية التي سبق وأعلنت انضمامها إلى التحالف الدولي الذي يقاتل «تنظيم الدولة».
لقد تغيرت قواعد اللعبة باتجاه معاكس تماما لاتجاه التغيير، الذي كان محتملا حدوثه في حالة إطلاق سراح الطيار. فعلى المستوى الشعبي كانت هنالك شعارات مرفوعة تقول بأن الحرب ليست حربنا، وكانت هنالك اتهامات موجهة الى السلطة السياسية فيه، تعزو اشتراك الأردن في التحالف إلى أسباب التبعية الاقتصادية وليس لسبب مبدئي، بينما بات التوحد اليوم مشهودا على الرغم من أنه رد فعل عاطفي قد لا يكون في حالة استمرارية في المستقبل البعيد. أما الموقف السياسي الأردني الرسمي فلن يكون موقفا عاطفيا لرد الاعتبار، فالأردن كان حتى وقت قريب يعتقد بأن «تنظيم الدولة» لن يجرؤ على إغضابه، لانه قادر على القصاص من التنظيم كما فعل بالزرقاوي، ولان الإغضاب حصل بفعل جرمي غير مسبوق، فقد بات على صانع القرار السياسي الأردني التعامل مع الحالة الجديدة وفق حالة بعيدة تماما عن الفعل ورد الفعل، حيث يرتبط هذا القطر العربي بحدود واسعة مع العراق وسوريا، وكلاهما يفقدان جزءا كبيرا من السيادة على أراضيهما لصالح «تنظيم الدولة» الذي بات جوارا للأردن، كما أنه بلد لا يتحمل الهزات السياسية والأمنية، التي يمكن أن يكون لها تأثير سلبي كبير على اقتصاده، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار العدد الكبير من اللاجئين العراقيين والسوريين على أراضيه، وحدوده مع إسرائيل، فإن صانع القرار السياسي الأردني سيجد أن هامش الاستقلالية في التحرك لديه محدود جدا، وأن الخيارات ضيقة إلى الحد الذي لم يعد لديه سوى الخيار العسكري، لكن هذا الأخير في حالة اقتصاره على الضربات الجوية فهو فعل لن ينهي معركة، بل قد ينقل ثأر الطرف المقابل إلى الأراضي الأردنية، وهو ما لا تقبل به السلطات إطلاقا. ولأن الاردن وعى مؤخرا حقيقة هشاشة التحالف الذي انضم إليه، وأنه تحالف سياسي وليس عسكريا، وأن الولايات المتحدة ليست لديها نية واستراتيجية حقيقية لمحاربة «تنظيم الدولة»، بل هي تسعى فقط لإبعاده عن حدود أهدافها الجيوسياسية ومصالحها الاستراتيجية، ولأنه لا يستطيع التحرك بمفرده لتطوير فعله العسكري ضد التنظيم، فقد بات الأردن اليوم يسعى إلى إيجاد اصطفاف إقليمي في الحرب ضد «تنظيم الدولة»، خاصة مع الطرف العربي. لذلك كان التحرك الأول باتجاه العراق، الذي فتح أجواءه للطيران الأردني لقصف مواقع التنظيم، على الرغم من أنه رفض المشاركة العربية في الحرب ضد «تنظيم الدولة» على الأراضي العراقية.
وعندما نقرأ تصريحات وزير المالية العراقي الذي أكد بأنه لم يتم تمويل الضربات الجوية الأخيرة في العراق من الخزينة العراقية، نستطيع أن نفهم أنها جاءت في سياق بعض التسريبات التي قالت بأن العراق مول الضربات الجوية الأردنية الأخيرة من ديونه المستحقة للأردن. كما حصل تحرك أردني باتجاه دولة الإمارات العربية أيضا، التي حركت سربا من طائراتها المقاتلة لتكون تحت إمرة القيادة العسكرية الأردنية، حيث كانت قد أوقفت مشاركتها هي والمغرب في الجهد الجوي ضد «تنظيم الدولة» بعد أسر الطيار الأردني، كما أن هنالك تحركا أردنيا باتجاه مصر. لكن التحرك الأكبر المحتمل حدوثه هو باتجاه النظام السوري، على الرغم من أن الملف السياسي بين البلدين لم يكن في يوم ما وديا، على مدى عقود من الزمن وعهود مختلفة، لكن المصلحة السياسية المشتركة والعدو اللدود المشترك للقطرين، تدعم المقولة السياسة أنه «لا توجد عداوات وصداقات دائمة بل مصالح دائمة»، كما أن الموقف من النظام السوري قد تغير لدى بعض الدول العربية الخليجية، وهو الذي سيدفع الأردن الى تعديل موقفه أيضا نظرا لطبيعة علاقته مع هذه الأقطار.
السؤال المطروح الآن هو ما هي انعكاسات هذا الحدث على الجوار العربي للأردن؟ يمكننا القول بأن الحادثة ستكون بمثابة فك الاطواق عن النظامين في العراق وسوريا، فكلاهما كانا ينتظران هذا الحلم بفارغ الصبر، لانهما يعتقدان بأن هذه الحادثة ستدفع الطبقة السياسية العربية والدولية إلى وضعهما في موضع المقارنة مع «تنظيم الدولة»، وبالتالي سيكون الآخرون مجبرين على التعامل معهما، خاصة النظام السوري، وقد بدأت ملامح هذا التعامل تظهر في الأفق. السؤال الآخر هو ما الذي أراده «تنظيم الدولة» من هذا الفعل؟ يقينا أن هذا التنظيم لا يبحث عن شعبية ولا يؤمن بالسلوك السياسي. هو فقط يؤمن بأن الرعب الذي ليس له نهايات هو وسيلته الوحيدة لتحقيق أهدافه. وما هو الحل؟ الحل الحقيقي هو بإنصاف كل المظلومين، خاصة من العراقيين والسوريين، وعدم إعادة تأهيل الأنظمة التي تلطخت أيديها بدماء الابرياء، لان الولادة كانت في هذه الاوساط التي عانت من الاغضاب اللامحدود، وهدر الكرامة، والعيش في الدرك الاسفل من الحياة، لذلك لم يعد لديهم ما يخسرونه إن مارسوا العنف المضاد تحت أي راية، فالوسائل العسكرية لن تجدي نفعا في إيقاف الثأر المجنون. أنظروا الى الجهد العسكري والمادي والاقتصادي والاستخباراتي المحشود في محاربة هذا الفكر، منذ ما قبل الحادي عشر من سبتمبر إلى اليوم، وقارنوا النتائج، ستجدون التنظيم الواحد قد تفرع إلى مئات الفروع، والمتطوعون باتوا من كل حدب وصوب. كما لن ينفع الحكام أن يتحولوا إلى وعاظ يلقون على المظلومين مواعظ دينية، لأن الآخر هو أيضا يحمل راية الدين ويمارس إجرام ولي الامر نفسه؟ العدالة هي الحل.
٭ باحث سياسي عراقي
د. مثنى عبدالله