البعــــث والـــديكتـــاتـــوريـــــة ( ح - ٧ ) 2 شبكة ذي قـار
البعــــث والـــديكتـــاتـــوريـــــة ( ح - ٧ ) 2
شبكة ذي قـارصلاح المختار
ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني
علي بن أبي طالب ( ر )
هل تسليط الاضواء على الواقع العالمي الذي ينسف الاسس المطلوبة للديمقراطية يعني التخلي عن الديمقراطية وتبني الاستبداد رسميا كما قد يستنتج من لا ياخذ الموضوع بكليته ؟ كلا طبعا فالعرب من بين اقدم شعوب الارض التي امنت بالحرية ورفض العبودية ولعل مقولة الخليفة عمر بن الخطاب ( ر ) ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا ؟ ) تمثل النزوع العربي الاصيل للحرية ولكن والى جانب هذه الحقيقة كان العرب ياجهون مشاكل الحروب البينية والحروب مع الاغراب فتتضائل معايير الحرية لديهم وقد تنعدم كما حصل لكافة الامم .
التحليل الذي قمنا به للعلاقة بين الديمقراطية والاستبداد هدفه الاساس توضيح تعقيدات وملابسات الاستبداد وجذوره وتنوع عوامل الحث نحو الغاء الاخر ، الامر الذي يفرض جهدا مضاعفا لتأكيد اهمية الديمقراطية والحريات العامة في نمو واستقرار المجتمع وامكانية تنفيذ خطط التنمية البشرية والعمرانية مع التمييز بين عوائقها الطبيعية ، كالتقاليد الاجتماعية ونمط النظام الانتاجي السائد – اقطاعي او راسمالي او هجين - ومستوى الوعي العام وحالة الشعب المادية ...الخ وبين رفض الديمقراطية وممارسة الديكتاتورية كخيار غير اجباري ، فالاول حالة عادية مطلوبة اما الثاني فنهج مرفوض لانه يقزم الانسان ويقمع حريته التي خلف معها وبدونها لا يمكنه العيش كريما .
انه واجب بالغ التعقيد لانه يتعامل مع مكونات نفسية وتاريخية واجتماعية وليس ظواهر خارجية يمكن ازالتها بقرار واحد لهذا فالتدرج في اقادمة الديمقراطية حتى في حالة السلم والاستقرار ليس خيارا بل ضرورة واقعية لا يمكن بناء ديمقراطية حقيقية من دون الاعتراف بها . اما عندما يكون المجتمع مسرحا لصراعات معقدة ومتجذرة تركت اثارها العميقة في نفوس وعقول الناس فان بناء الديمقراطية يفرض جهدا استثنائيا لبناء الثقة اولا لانها هي قاعدة كافة الخطوات اللاحقة والا فان التأمر سيكون هو النتيجة الحتمية كما حصل في العراق وغيره .
وغياب نظام المؤسسات يجعل بناء الديمقراطية الحقيقة مغامرة محفوفة بالمخاطر والتحديات ولهذا لابد من الحكمة وطول النفس والغيرية – وقهر الانانية التحزبية – وبنفس الوقت ممارسة سياسة الحذر الشديد والترقب الدائم لمنع الردة للحروب والصراعات حتى لو تطلب ذلك قمع من يشاغب . ان بناء دولة المؤسسات ليس رغبة فردية ولا قرار جماعيا وانما هو قبل كل شيء وعي عميق يجسد في ارساء قواعد دولة المؤسسات تدريجيا وبناءها وفقا لستراتيجية تحدد سلفا كافة العقبات النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية ثم تضع حلولا لها تنفذ وفقا لسياسات مرحلية متعاقبة في بيئة تعليمية وقانونية جديدة توفر شروط تفتح الوعي الديمقراطي وتناميه وترسخه .
وفي هذه المرحلة الانتقالية فان الخيار بين الاستبداد والديمقراطية يصبح خيارا مثاليا ولابد من الوصول الى صيغة مرحلية تضمن تواصل الاستقرار الاجتماعي والسلام بقدر الامكان مع تواصل بناء دولة المؤسسات القائمة اساسا على مبدأ المواطنة المتساوية فعليا وقانونيا . فما هي الصيغة الانتقالية بين الاستبداد والديمقراطية ؟ وهل طبقت في عراق البعث ؟ وكيف ؟
هل مارس البعث الاستبداد والديكتاتورية حقا ؟
الانسان ليس محصنا ضد التهديدات بل هو ضعيف بأزاءها ولهذا فانه ما ان يواجه اي تهديد حتى يعود الى اهم دوافعه : غريزة البقاء وقاعدتها الاهم حق الدفاع عن النفس . هل تجاوز البعث المعايير السائدة في العالم كله ؟ الحقيقة الاساسية التي يجب تذكرها دائما عندما نريد تقييم طبيعة نظام البعث هي البعث لم يبادر بالهجوم على اي حزب سياسي او جماعة عراقية على الاطلاق وكان هو ضحية اضطهاد الاخرين له والوقائح حية وشهودها احياء .
لكن البعث قام بالهجوم الكاسح وبلا تردد ضد الاحتكارات العالمية التي نهبت ثروات العراق فاعادها بتاميم النفط ثم بتطبيق سياسة استقلال اقتصادي فعلية وتنمية بشرية ضخمة ادت الى نهوض غير مسبوق للعراق في كافة المجالات وقد اثبتت كافة الاحداث اللاحقة بان ذلك الهجوم الكاسح على الاحتكارات الرأسمالية كان الحافز الاول لكافة اشكال التأمر الخارجية على البعث وقسما كبيرا من عمليات التأمر الداخلية . ومن يشكك بهذه الحقيقة عليه تقديم دليل واحد على ان البعث هاجم غيره ، ونكرر التذكير بان العنف والاقصاء المتطرف في العراق بدء في عامي 1958 و1959 وكان البعث اول ضحايا الديكتاتورية والاستبداد والعنف المتطرف ولم يستلم الحكم الا في عام 1963 . هذه ملاحظة جوهرية تذكرها يفتح الابواب امام فهم موضوعي لما حصل في العراق .
اما الملاحظة الجوهرية الاخرى فهي ان البعث لم يمارس الديكتاتورية بمعناها الاصلي المعروف وهي تركيز القرار العام بيد شخص او عصبة ، والشخص او العصبة تتخذ القرارات بدون تشاور او اعتماد على اراء الاخرين سواء كانوا برلمانا او راي عام او هيئة استشارية متخصصة ، فتكون سلطة صنع القرار جهة واحدة تستبد ولا تهتم باراء الاخرين سواء كانوا اكثرية او اقلية . فهل كان البعث يمارس عملية اتخاد القرارات فرديا او بواسطة عصبة وهي هنا قيادة حزب ؟ الجواب هو كلا لم يكن صنع القرارا بصفة عامة قرار فرد واحد او عصبة صغيرة فقط بل كان يتخذ اشكالا من المشاركة منها :
1- قيادة الحزب التي كانت تناقش جماعيا القضايا العامة وتقرر الموقف منها .
2- قيادة الحزب كانت ملتزمة بقرارات المؤتمر القطري للحزب وما يقره من خطط او ستراتيجيات ، وهو مؤتمر انتخابي يعقد دوريا كل اربعة سنوات تتم فيه عملية مناقشة ونقد المرحلة الماضية وتحديد الاخطاء والصواب والفشل والنجاح ، في تنفيذ ستراتيجية وضعها المؤتمر في دورته السابقة ، بالاضافة لمناقشة اخطاء او انجازات كل عضو قيادي قبل تقرير هل يعاد انتخابه ام لا . هذه تقاليد حزبية يحكمها نظام داخلي صارم وعبر عن نزعة للديمقراطية .
3- مجلس قيادة الثورة الذي كان عبارة اعضاء قيادة الحزب مضافا اليهم قادة اخرين وكانت صلاحياته في الفترة الانتقالية تشريعية وهو ليس فردا وانما نخبة .
4- مجلس الشعب اي البرلمان والذي كان يناقش القوانين والظواهر العامة ويتخذ قرارات مشاركا مجلس قيادة الثورة مهمة التشريع . وهذه الحالة تشبه وجود هيئتين في الكثير من البرلمانات ومنها البريطاني احدها منتخبة والاخرى معينة وتمثل نخب متميزة بقدرات معينة .
5- الانتخابات النقابية لم تتوقف ابدا منذ عام 1968 وكانت تعبر عن مصالح واراء الملايين من العراقيين المنظمين في نقابات مهنية وهم الاغلبية الساحقة .
6- الاستفتاءات الجماهيرية حول قرارات او اختيار قائد .
7- انتخاب رئيس الجمهورية .
هذه ابرز اوجه المشاركة في اتخاذ القرارات العامة وهي لا تخلو طبعا من قرارات يتخذها رئيس الجمهورية شخصيا في حالات طارئة وفي ظل وضع طوارئ خطير وهي مسألة مشروعة لسببين :
السبب الاول ان الحالة طارئة وتنطوي على مخاطر كبيرة على امن العراق وسلامة شعبه لذلك لابد من قرار حازم وسريع لمعالجة الوضع الجديد يتجاوز الجدل والنقاش الطويل في البرلمانات ويختصرها ، وطبعا هذه حالة كل العالم بما في ذلك اعرق ما يسمى ب ( الديمقراطيات الغربية ) التي يلجأ فيها الرئيس كما في امريكا او رئيس الوزراء كما في بريطانيا لاتخاذ قرارات حاسمة لمواجهة الخطر المحدق بالبلد ، وهذا مافعله بوش الصغير وتوني بلير عندما شنا الحرب على افغانستان والعراق بعد اخذ موافقة شكلية من الجهاز التشريعي .
السبب الثاني ان القرارات الفردية او العصبوية ليست منفصلة عن ستراتيجية عامة مقررة سلفا سواء كانت ستراتيجية امنية او ستراتيجية عامة لتحقيق اهداف الدولة في مرحلة ما . فالقرار الفردي لا يخرج عن قواعد العمل المقررة ولكن من يتخذه رئيس مخول . والمثال هو رد العراق على اسرائيل الشرقية التي بدات الحرب على العراق في 4-9-1980 فتقرر الرد يوم 22-9-1980 اي بعد مرور 18 يوما على بدا اسرائيل الشرقية القتال الفعلي في جبهات الحرب ، باعلان الرئيس الشهيد صدام حسين الغاء اتفاقية الجزائر لان الطرف الاخر قد رفض التقيد بها ولم عد قائمة عمليا خصوصا وانها تقوم على بندين رئيسيين الاول هو عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدين والثاني هو تقاسم شط العرب في نقطة التالوج ، ومنذ اسقط الشاه اخذ خميني علنا ورسميا يؤكد رفض اتفاقية الجزائر لان الشاه هو من وقعها ويدعو لاسقاط النظام الوطني في العراق ويدعم عمليات ارهابية واسعة النطاق ضد امن واستقرار العراق .
فالقرار هنا ليس قرارا فرديا خالصا وانما هو محكوم بموافقة هيئات شرعية ويستند الى ستراتيجيات مقررة سلفا وما قام به الرئيس فرديا هو تطبيق ما اتفق عليه او انه جزء من صلاحياته الدستورية . فهل هذا استبداد بمعناه المعروف والقائم على انفراد قائد باتخاد القرارات المصيرية بدون اي قيود ستراتيجية او تشاورية او دستورية ؟ الجواب هو كلا فقرارات الرئيس والقيادة كانت محكومة بسلسلة ضوابط مقررة وقواعد عمل ثابتة .
هنا ننتقل الى تصحيح مفهوم سائد وهو الخلط المتعمد بين الاستبداد والمركزية في اتخاذ القرار الستراتيجي ، فالاستبداد غالبا يخلو من اي نقاش او مشاورة او تقيد بمبدأ او قاعدة ويستطيع بموجبه الرأس القيام باي عمل ، بينما المركزية تقوم على اتخاذ قرارات فردية او نخبوية ولكنها محكومة بضوابط سابقة وضعتها الجماعة سواء كانت برلمانا او هيئات متخصصة وفي اطار ستراتيجية مقررة سلفا . وهذ الفرق جوهري ولابد من الانتباه اليه عند تقويم القرارات وتحديد طبيعتها . وما قامت به الاجهزة المخابراتية المعادية للعراق هو الخلط المتعمد بين الاستبداد وبين قرارات اتخذت بناء على منهج عام مقرر وفي ظروف بالغة التعقيد والخطورة وليست عادية باي شكل من الاشكال ، والهدف هو اظهار القرارات الفردية كأنها بلا ضوابط وقواعد عمل وستراتيجيات مقررة سلفا ، والمقصود طبعا شيطنة قيادة العراق بنظر ليس العالم الخارجي فقط بل بنظر العرب والعراقيين ايضا .
اما الديكتاتورية فهي نظام استبدادي يتخذ فيه الرئيس او العصبة القرارات دون ضوابط مقررة سلفا تحدد الاهداف الستراتيجية ، فالديكتاتور هو من يصنع القرار طبقا لاجتهاده الفردي فقط وبدون اي قيود مسبقة . بهذا المعنى فنحن بأزاء نظام خاص لا هو ديمقراطي خالص ولا هو استبدادي تام هو المركزية القوية القائمة على ستراتيجية اقرتها مؤتمرات انتخابية ( المؤتمر القطري ) ومجالس منتخبة ( البرلمان والنقابات ) والهيئات الاستشارية المتعددة . هل المركزية نظام ضروري ؟ وهل هو بديل مؤقت ام دائم عن الديمقراطية ؟
يتبــــــــــــــــــــع ...Almukhtar44@gmail.com
٥ / تمــوز / ٢٠١٥