نهض مدحت من فراشه بعد أن عانده النوم وأنهكه الأرق... فتح باب غرفة نومه بهدوء لئلا يزعج زوجته الغارقة في نوم عميق ....نزل بهدوء على الدرجات المفروشة بالسجاد الأحمر واتجه نحو المطبخ كما في كل ليله ليتناول كوبا من القهوة رغم أرقه ....إنها القهوة العربية بالهيل التي تكرهها زوجته الأمريكية وترفض حتى تذوقها وتمتعض وتتأفف من رائحة الهيل فيها ولا ترتضيها بالإكسبريس بدلا ....دخل المطبخ ففوجئ بابنه عادل جالسا يحتسي الكوبتشينو ويدخن ....سأله مدحت : مابك يابني ...لم لم تنم بعد؟ الوقت بات متأخرا جدا ....هز عادل رأسه وقال دون أن ينظر لأبيه : أعاني أرقا شديدا منعي حتى من الاستلقاء في الفراش .....سحب مدحت كرسي وجلس بقرب ابنه وقال : أخبرني يابني ...خيرا إن شاء الله ...مالذي أصابك بهذا الأرق الشديد؟ ...نظر عادل لأبيه بنزق وقال : إنها أمي ...قال مدحت : ومابها أمك يابني؟ ....قال عادل : أمي تعارض بشدة زواجي من ماريا بل تهددني بأشياء كثيرة إن أنا تزوجتها ....تبسم مدحت قائلا : يابني هذا من شدة حبها لك ....هي تعلم أنك إن تزوجت ماريا ستسافر معها لإسبانيا وتقيم هناك حيث أهلها .....أنت تعلم يابني شدة تعلق أمك بك أنت وحيدها وبعادك عنها سيكسر قلبها ....تنهد عادل وقال : غريب جدا يا أبي ....لو كنت أنت من يعارض لتفهمت الأمر فأنت عربي ولازلت رغم سنواتك الثلاثين التي قضيتها في أمريكا وبشكل متواصل متعلقا بعروبتك وعاداتك وحتى بقهوتك ....أما أمي فهي أمريكية ومن الطبيعي في أمريكا أن يترك الأبناء أهلهم ويرحلوا بحثا عن مستقبلهم ....رد مدحت : إنها متعلقة بك يا بني وليس بوسعها أن تتخيل حياتها بعيدة عنك ....وقف عادل بعصبية وقال بصوت مرتفع : ولكني يا أبي أحب ماريا .....هل تفهمني أنا أحب ماريا ولا أستطيع أن أعيش بدونها ....أمسك مدحت ابنه من ذراعه وأجلسه برفق قائلا : اجلس يابني ...اجلس واهدأ قليلا ....إن كنت تتحدث عن الحب .....فإنه ما ساقني لأمريكا إلا هو ....رد عادل : الآن ستحكي لي قصة حبك لأمي ....لا بأس أعرفها لا تتعب نفسك يا أبي ...قال مدحت : لا يا بني ... حبي قصة مختلفة جدا عما ظننته ....نظر عادل لأبيه بدهشة : ماذا أتحب امرأة أخرى ....أتخون والدتي!!! ....تبسم مدحت بحزن : لا أنا لا أخون والدتك هي زوجتي التي أحترمها وأقدرها ...ولكن سأخبرك وللمرة الأولى أن في حياتي حب قديم جدا ....تبسم عادل بخبث وقال : حسنا يا أبي..... هيا أخبرني عن مغامرات الشباب.....كنت تحب واحدة ما ....هيا ما اسمها ....قال مدحت : في الحقيقة يابني هن اثنتان ....ذهل عادل : ماذا يا أبي اثنتان ...وأنا الذي كنت أظنك قديسا لم تعرف النساء في حياتك ....تبسم مدحت وقال : تأدب يا ولد ....أنت تحدث والدك ...ضحك عادل بخبث : أعتذر يا أبي هيا أخبرني شوقتني لمعرفة القصة ....تنهد مدحت وقال : كانت بنت جيراننا ...اسمها لمياء ....سواد عيونها قصة دمشقية مبهمة لا يجيد قراءتها إلا من عاش دمشق وعشق دمشق ...شعرها شلال حرير يتماوج فيه الليل ويختبئ ....يتعمد الياسمين كلما مرّت من تحت أغصانه أن يسقط زهراته فوق موج شعرها الداكن ....وتتعمد زهرات الياسمين أن تتعلق بشعرها ليحكيا معا قصة الليل والنهار ....بياض وجهها ثلج دافئ وبسمتها شمس تضيء الليالي الحالكة ....قضينا طفولتنا معا ....أحببنا بعضنا حبا لا تكاد تتسع مفردات أي لغة من لغات العالم لوصفه .....كان حبا برئيا وطاهرا وصادقا ....وكبرت وكبرت لمياء ولم نعد نتمكن من رؤية بعضنا البعض كما في الطفولة .... ولكن حبنا كان يكبر يوما بعد يوم .....كم كتبت لها من القصائد ورميتها لها إلى نافذتها المطلة على الحارة والقريبة من نافذتي ....وهي كانت كل يوم تلقي فوق رأسي زهرات الياسمين وأنا مار من تحت نافذتها ....ولم أكن أستطيع أن أرفع رأسي لرؤيتها فذلك في قاموسنا عيب كبير ياولدي .....لقد كنا أصحاب مروءة في ذاك الزمان الجميل ....كنت ألملم زهرات الياسمين وأظل أتنشق عبيرها في طريقي لدكان والدي في البزورية ....فقد كان والدي من كبار تجار البهارت والتوابل في دمشق وكنت أعمل معه ...فكنت أتنشق أريج الياسمين طوال الطريق من القيمرية إلى البزورية ....ومع أن المسافة قريبة جدا إلا أنني كنت أتعمد أن أطيل طريقي من خلال مروري بالحارات القديمة الجميلة التي تعانق جدرانها الأقواس وترسم نوافذ البيوت المطلة على الحارة والمغطاة بالخشب المزخرف والمشبك لوحة التاريخ العريق ....وتتسلل من خلال أسطح المنازل أغصان الياسمين لتذكرك أنك لازلت في دمشق حيث التاريخ يرفض أن يمضي والجمال لا يقوى على مغادرتها .... إن عشت يابني في دمشق ستعشقها حتما ....تخال نفسك تسكن فيها ثم تكتشف إن ابتعدت عنها أنها تسكن فيك....وتكتشف أنها الحب الأول في حياتك مهما عرفت بعدها من نساء .....في أحد الأيام تشاجر والدي مع والد لمياء ...لم أعد أتذكر سبب الشجار ولكن الذي أذكره أن الشجار كان حادا والخلاف بينهما كان كبيرا لم يستطع أحد من أكابر الحي الذين توسطوا بينهما فيما بعد أن يحلوه أو يصلحوا ما فسد بين أبي ووالد حبيبتي .....منذ ذلك الحين لم تعد لمياء تجرؤ على فتح نافذتها ولم تظهر أبدا بعدها ....تجرأت مرة وصارحت أبي بحبي للمياء ورجوته أن يزوجني إياها فانتفض غاضبا وقال : مستحيل ....اختر أية فتاة في دمشق كلها أو في العالم كله وأنا مستعد لأبذل كل ما استطيع لأزوجك إياها إلا بنت جارنا هذا ....سأقطع يدي قبل أن أضعها في يده ....وإياك أن تخالفني وتحاول أن تتقرب منه أو أن تتجرأ وتخطبها منه دون علمي حينها سأتبرأ منك ..... كم كان صعبا علي الخيار ....لن تعرف ياولدي مهما شرحت لك معنى أن تخالف كلمة أبيك في ذاك الزمان وفي دمشق بالذات .....كان علي أن أتخير بين كسر قلبي أو كسر كلمة والدي .....مخالفة أبي ستجعله يحزن حزنا قد يودي بحياته كلمة الرجال يابني في دمشق وفي ذاك الوقت كان لها معنى وأثرا كبيرا.... ثم أن والدها لن يقبل بي دون أن تصطلح الأمور بينه وبين أبي ....وأنا لم تكن لدي الشجاعة لأناضل من أجل قلبي .....في الحقيقة كنت جبانا حينها ....لذا قررت الهروب ..... هربت لأمريكا تاركا ورائي دمشق التي أموت بها عشقا ولمياء التي أحيا بها عشقا لا أدري أيهما أحب أكثر لمياء أم دمشق .... لا أدري أيهما أذوب به ولهاً ....عيناها أم زهرات الياسمين ....لا أدري أيهما يجعلني أتوه في تضاريسه هياما شعرها أم حارات دمشق .....في كل يوم يابني عندما أنام أحلم بدمشق وأحلم أني طفل صغير ألعب في بيتنا الدمشقي مع لمياء حول البحرة ثم أخرج من البيت وأذهب لدكان أبي في البزورية واستنشق رائحة التوابل والبهارات ......ثم استيقظ في منتصف الليل والحنين لدمشق ولمياء يكاد يخنقني ....أقوم من فراشي وأعد كوبا من قهوة الشام وأتنشق رائحة الهيل وأنا أتخيل أنني أحتسي القهوة مع لمياء في بيتنا الدمشقي بقرب البحرة ....ثلاثون عاما مضت يا بني ولازالت رائحة دمشق في أنفي ...لازالت رائحة البهارت والتوابل في ذاكرتي.... لازال طعم ماء نبع الفيجة في فمي .....لازالت حارات دمشق وأزقتها في مخيلتي ولازالت لمياء بوجهها الطفولي يلاحقني أينما ذهبت ..... كم بحثت عنها في كل العيون السود فلم أجدها ولم أجد شبيهة لها ....وكم بحثت في المدن والشوارع باحثا عن رائحة دمشق ولم أجدها ...... يابني الحب وطن والوطن حب لا يمكنك التفريق بينهما.... إن كنت تحب فعليك أن تناضل في سبيل حبك مهما كان الثمن.... أو تتحول مثلي لعجوز خرف لازال يبحث عن طفولة العشق والياسمين.