تركيا وإيران في الميزان السياسي العراقي
د. مثنى عبدالله
December 14, 2015
فجأة اكتشفت الحكومة العراقية أن هناك تدخلا عسكريا تركيا في العراق، حين أرسلت الحكومة التركية، قبل أسبوعين من الآن، 150 جنديا عن طريق البر إلى ناحية بعشيقة، التي تقع شرق الموصل نحو 30 كم، وكانت القوة الجديدة معززة بحوالي 20 دبابة.
الموقف التركي على لسان الكثير من المسؤولين يقول بأن وجودهم العسكري قديم وليس جديدا. نائب رئيس الوزراء التركي صرح بأن هذا الوجود قائم منذ السابع والعشرين من سبتمبر 2014، وأن ما جرى مؤخرا لم يكن سوى استبدال للقوة الموجودة بقوة جديدة. المتحدث باسم الخارجية التركية طانجو بيلغيج يقول، بأن القوة موجودة في هذا المكان لتدريب قوات الحشد الوطني التي تتهيأ لتحرير الموصل، وهي تقوم بهذه المهمة منذ مارس الماضي وبعلم الحكومة العراقية.
أما على الصعيد العراقي فقد كانت المواقف والتصريحات مثيرة للاشمئزاز حقا، فهي تُعبّر أبلغ تعبير عن التشظي الواسع والعميق في البنية السياسية، وعن استعداد جميع الأطراف لبيع العراق لكل من يرفع سقف مزاده، كي يكون ضامنا لهم. فعلى الرغم من عدم وجود تدخل حميد وآخر خبيث في العلاقات بين الدول، ودخول محمود وثان مذموم، نجد أن هنالك فريقين دائما ما يكون موقف أحدهما نقيضا للآخر، على الرغم من أن الوطن هو وطن الجميع، وصيانة أمنه واستقلاله يجب أن تكون أولوية لا يتقدمها شيء آخر.
في الانتهاك الأخير كان الصوت السياسي الشيعي عاليا، بينما كان الصوت السياسي السني خامدا إلى درجة الموت، وفي تدخلات قاسم سليماني، وإملاءات قادة الحرس الثوري الإيراني، يكون الصوت السياسي السني جهوريا، بينما الصوت السياسي الشيعي مدافعا وبضراوة عن شقيقهم الايراني. وإذا بحثنا عن مفهوم الوطنية في كلا الموقفين فإنها براء منهما، لأن الطرفين ارتضيا أن يكونا حصان طروادة يدخل من خلالهما الاخرين إلى الوطن. هل هي شطارة من يبيع أرخص وأكثر، أم هي غباء سياسي إلى حد الخيانة؟ أم هو خوف سياسي شيعي من حالة مقبلة ترسمها دول كبرى، وقررت فرضها على العراق، يقابله رضى سياسي سني بالمقبل لأنه يرسم لهم طريقا آخر، كما يظنون؟
إن مراجعة بعض الحقائق التي طفت على السطح خلال الأشهر الأخيرة، يمكن أن تعطي بعض ملامح الصورة التي خافها البعض واستبشر بها البعض الآخر. فلقد سبق للإدارة الأمريكية أن طرحت موضوع تزويد الأكراد والسنة بالسلاح مباشرة بدون المرور بحكومة بغداد، وفي عُرف التصريحات الامريكية لا يوجد هُراء، فهم يصرحون علنا في بعض الأحيان لقياس ردود الأفعال لا أكثر، ثم ينفذون ما يريدون سرا، وقد حصل الفعل في العراق، حيث تم تزويد بعض الأطراف العشائرية، وكذلك الأكراد وبعض عناصر القوات الخاصة بالسلاح، وتفاجأت بغداد بدخولهم إلى تلعفر لضرب خلية تابعة لتنظيم الدولة. كما دخل الامريكان في موضوع المصالحة التي عُقدت اجتماعاتها في بعض العواصم علنا وسرا. ثم أعلنت الولايات المتحدة عزمها إرسال قوات من النخبة إلى العراق لقتال تنظيم الدولة.
يجب الإشارة هنا إلى أن كل هذه الافعال والنيات تمّت الموافقة عليها، من قبل الحكومة العراقية ممثلة برئيس الوزراء، وهو ما أكدته الحكومة الامريكية علنا، لكن تنصّل رئيس الوزراء منها لم يكن بإرادته، بل بإرادات أطراف سياسية شيعية نافذة ومرتبطة كليا بالاجندة الايرانية، وقد توصلت هذه الاطراف إلى أن رئيس الوزراء فعلا كان على علم وموافقة، لذلك فاتحت أطراف أخرى مشاركة بالعملية السياسية بأنها بصدد تغييره، وهي مازالت في طور الانتظار مخافة تعزيز الانقسام في البيت السياسي الشيعي. الأهم في الموضوع هو أن صانع القرار السياسي الإيراني، قرأ التحركات الأمريكية آنفة الذكر على أنها محاولة لتقسيم العراق على الثلاثة الكبار، ما تسمى المكونات، أو تعزيز موقع الاكراد والسنة كأضعف الايمان، وكلاهما مرفوض إيرانيا.
دخول العراق في الحلف العسكري والاستخباراتي الروسي الايراني السوري، زائدا انفراد الروس بالعمل العسكري في سوريا، دفع الامريكان للرد من خلال الحليف التركي. الرد الاول جاء بإسقاط الطائرة الروسية التي خرقت المجال الجوي التركي، والرد الثاني بتعزيز القوة العسكرية التركية الموجودة منذ عام تقريبا في شرق الموصل، بدماء جديدة وقوات مدرعة. الرد الايراني جاء بسيناريو استخدام الحشود لاقتحام الحدود العراقية، ودخولهم بدون تأشيرات ولا جوازات سفر، وهو ما جعل البعض من المسؤولين يقولها علنا بأنه تصرف غريب، لكنه لم يكن غريبا على صانع القرار السياسي في إيران.
كانت الإشارة واضحة من خلال هذا الفعل ولسان حالهم يقول، إننا قادرون على جعل الساحتين العراقية والايرانية ساحة واحدة، وإننا لسنا معنيين بالحدود لانها ليست موجودة في نظرنا، وأن أي تحرك لتغيير الخريطة السياسية القائمة الان في العراق مرفوض ونقاومه بضراوة. قد يكون الذهاب إلى مجلس الامن، وحرق بعض المصالح التركية، والمسيرات التي ظهر فيها ساسة لا يخفون ولاءهم لايران، هو أول الغيث، لكن المقبل قد يكون أكبر، لأن المعركة في الموضوع التركي طائفية بامتياز وليست عراقية. فالميزان السياسي العراقي لا يقوم على أساس كفتي، الامن والمصالح، للدولة العراقية، بل أن كفتيه قائمتان على أساس من هم حواضن الشيعة، ومن هم حواضن السنة. قد يكون الانتهاك الايراني للاراضي العراقية نصرا مباركا لطرف، وقد يكون الانتهاك التركي فتحا مبينا لطرف اخر. وحدهم العراقيون هم الخاسرون.
الرئيس التركي يقول إن هنالك اتفاقية بين العراق وتركيا سمحت بدخول القوات للتدريب، وتارة أخرى يقول إن تركيا تحمي مصالحها في العراق ولن تنسحب، مما يسمح للتحليل بالذهاب إلى القول بأن هنالك دعما أمريكيا لتركيا في الذهاب بعيدا في هذا الاتجاه. رئيس الوزراء العراقي يركز في القول على رفض العراق وجود قوات مدرعة، ضمنيا هو يكاد يؤيد الرئيس التركي من أن هنالك اتفاقية لوجود تركي لكن ليس مدرعا، ربما خوفا من أي يقدم دعما للسنة في مشروع مقبل لازال مجهولا له. رئيس لجنة الأمن والدفاع البرلمانية يقول إن السفير التركي زار البرلمان وقدم وثائق عن الوجود التركي، وأردف بالقول إنهم بعثوا بها إلى رئاسة الوزراء للتحقق من صحتها، ومن الجهة التي أعطت الموافقة، كذلك وزير النفط السابق قال بأن اتفاقية الوجود التركي منذ عام 2014. محافظ نينوى السابق والاكراد جميعهم قالوا بوجود اتفاقية دخول القوات التركية. المفارقة أن الاكراد اختلفوا حول الموقف من هذا الموضوع، واختلف الشيعة ايضا، وصمت السنة. السؤال المهم لماذا لا يوجد رفض عراقي لقضية كهذه؟ لماذا يوجد رفض طائفي اثني، وقبول طائفي اثني أيضا؟ ببساطة لأن العراق غير موجود في أجندة الجميع. وهذا الحال هو الذي توصل اليه الدوليون الكبار الذين يصنعون الحدود ويغيرونها كذلك.
يجب الإشارة هنا إلى أن رئيس الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه أعلن خلال مؤتمر حول الاستخبارات في جامعة جورج واشنطن، أن الشرق الاوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة، مؤكدا أن دولا مثل العراق وسوريا لن تستعيد ابدا حدودها السابقة، وقد أبدى رئيس المخابرات المركزية الامريكية وجهة نظر قريبة أيضا.
٭ باحث سياسي عراقي
د. مثنى عبدالله