دعوة الشيطان الأكبر للعشاء!
هيفاء زنگنة
يبدو ان هناك تحولا تدريجيا في الدعاء الموجه إلى القوة العليا – أمريكا، في صفوف نظام «العراق الجديد»، برمته، لايستثني طائفة او عرقا. فنمو هذه الطبقة التي تأسست مع الاحتلال وتربت على يديه، سواء كانت من خارج أو داخل البلد، أصابها اليتم المفاجىء حين غادرها الأب الذي تعهدها ووفر لها الحماية، ولو كان رحيله غير كامل.
انعكست حالة اليتم المستدامة على سلوك وتصريحات ابناء حكومات الاحتلال بالنيابة، خاصة، وانهم لم يتمكنوا من كسب الناس، وتأسيس قاعدة شعبية توفر لهم الاستقرار والطمأنينة، على الرغم من لجوئهم، بداية، إلى اطلاق تصريحات مضللة للشعب عن السيادة والديمقراطية وحقوق الانسان، والأدهى من ذلك عن التحرر والتخلص من المحتل/الأب، بدون استبداله بأحد. ولأن هناك تفاوت، بين المنخرطين في النظام، في درجة الاحساس باليتم لاسباب ترتبط بالحاجة الآنية، والتاريخية الأسطورية، والمصلحة الشخصية، ومستوى الانغماس بالفساد، وضعف الوازع الاخلاقي، بالاضافة إلى تصاعد الطائفية والعرقية المؤسسة لما يطلق عليه د. سعد محيو «مشاريع الدويلات الأقوامية»، مقابل خفوت الولاء الوطني، طرحت في الاسواق الشعبية للاستهلاك المحلي، شعارات تبين حالة الشيزوفرينيا بين المحتمين بالمنطقة الخضراء، أنفسهم، من جهة وبينهم وبين من يدعون تمثيلهم من سنة وشيعة، من جهة ثانية. شعارات، على غرار «كلا.. كلا للمحتل»، تنثر مثل «حامض حلو» الاحتفالات على رؤوس المواطنين، في ذات الوقت الذي ينام فيه مطلقو الشعارات في سرير المحتل، بحثا عن دفء الأبوة.
في مستوى آخر للنيات المبيتة لمستقبل العراق، استنادا إلى واقع الحال اليومي، يواجهنا سيل تصريحات مضللة، بحاجة إلى الرصد، يطلقها الساسة عبر مختلف اجهزة الاعلام، بعد تغليفها بملابس الامبراطور العاري، أي محاربة الارهاب أو القاعدة أو داعش أو… أي مسمى آخر يتم استنباطه لتمديد أجل الفساد، والاحتلال، والاستيلاء على النفط بعد تفتيت البلد، وهو الأمر السائر نحو التنفيذ.
هناك من يحاجج من بين قيادة المليشيات، لتبرير الترحيب بالمحتل، ايا كانت جنسيته، بأنهم يرحبون بأية مساعدة كانت من أي بلد كان، لحماية بغداد. مما يعيد إلى الأذهان اصواتهم وهم يستنجدون بمن هدم ودمر بغداد في عام 2003. فهل تكرار الاستجداء، تحت غطاء مغاير، أمر يشكل صلب هذه القوى أم انه مرض الزهايمر الذي محا من الذاكرة قصف « الصدمة والترويع» لبغداد وأهلها؟ واذا كانت مساعدة أمريكا لداعش، كما يؤكد أحد قادة المليشيات «ليست موضع شك»، فلم الاستنجاد بها إلى حد انزال القوات العسكرية على الارض كما حدث أخيرا؟
أما في داخل البرلمان، فأن الاصوات المؤيدة للاستنجاد باية قوة خارجية تساوي اصوات دعاة الانفصال والتقسيم لحماية هذه الفئة من تلك، وتلك من هذه، والديمقراطية من الارهاب. وتسارع وفود الساسة والاحزاب، بشكل علني وسري – علني، إلى الحج اما إلى أمريكا أو السعودية أو إيران. هاهو تحالف القوى العراقية ( تكتل سني)، يرحب ( 23 كانون الثاني)، بنشر قوات أمريكية برية لأنه « سيعجل من عمليات تحرير المدن السنية المغتصبة»، حسب عضو المكتب السياسي للتحالف النائب محمد الكربولي، الذي حاول تدارك الطائفية والاستنجاد بالمحتل، قائلا: «إن ترحيبنا بنشر قوات برية أمريكية ليس قبولا بنمط جديد من الاحتلال». ما هو أذن؟ الا يقودنا هذا التبرير المبتذل إلى من حاولوا بيع الاحتلال باعتباره تحريرا، متسترين بالمظلومية، أم ان عمالة 2003 صارت تحريرا في 2016؟
هل ترون الصورة معقدة؟ استمعوا، اذن، إلى رأي علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى الاسلامي الإيراني (24 كانون الثاني/يناير)، محاججا، اثناء وجوده ببغداد: «كانوا يقولون إننا نحارب لأنه ليس هناك ديمقراطية في سوريا، ولكن هل الديمقراطية مفقودة هنا؟»، يعني ان العراق يعيش الديمقراطية بأبهى صورها، مؤكدا، لمن قد ينتابه الشك، ان «المشكلة ليست مشكلة ديمقراطية» وأن العراق طلب المساعدة لمحاربة الارهاب فاستجابت إيران. ولن أدخل في تفاصيل المشكلة، حسب لاريجاني، لأنها ستجرنا إلى متاهة من الذي خلق أولا البيضة أم الدجاجة، الا ان متابعة جرائم المليشيات التي وصلت أعدادها الأربعين، المدعومة إيرانيا، أكبرها مليشيا بدر عصائب أهل الحق، وهي مليشيا لا تجد حرجا في توجيه التهديدات وارتكاب الجرائم يمينا ويسارا، تحت عباءة حركة المقاومة الاسلامية، سيرينا نوعية وكيفية «استجابة» إيران لنجدة النظام العراقي، ولمصلحة من.
ما الذي يعنيه اطلاق نداء الترحيب بعودة قوات الغزو؟ هل اندملت جروح الاغتصاب في معتقلات المحتل ومرتزقته؟ أم أن الاستهانة بالمظلومين باتت مألوفة ومقبولة، في زمن اصبح الولاء فيه لغيرالعراق عاديا، وتهمة الداعشية جاهزة لأخراس وتخويف أي صوت مغاير، ومفهوم الوطنية اجتهاد في الرطانة، ومقاومة المحتل عمل غير حضاري؟
يقول الشيوعي المخضرم آرا خاجادور، في كتابه الرائع «نبض السنين- حول الصراعات داخل الحركة اليسارية والوطنية العراقية»، ردا على ما يسميه الفهم اليساري المسطح للتحضر، الذي يطرح حاليا، ويرى فيه نموذجا للذين يزرعون ويوزعون الأوهام: «كأن الاحتلال ليس ذروة اللاحضارة، وما علينا الا ان نتوسل إلى الاحتلال لكي يخرج من بلادنا، وهو سوف لن يتوانى عن فعل ذلك». متوصلا إلى خلاصة مفادها: «ان اي تجاهل لوجود الاحتلال الجاثم على انفاس شعبنا هو سقطة أخلاقية مروعة قبل مئات التوصيفات المروعة الأخرى». وهذا هو، بالضبط، اساس البلاء الذي يمر به عراقنا، اليوم، ولن يتمكن شعبنا من الصمود امام أعاصير الطائفية واللاوطنية، ما لم يتم الاعتراف بهذا الاساس وضرورة التخلص منه، لا استدعائه والترحيب به كلما ارتدى قناعا جديدا.