«داعش» و«الحشد»: الفلوجة نموذج للعراق
عبد الوهاب بدرخان
قبيل بدء معركة الفلوجة رُميت مناشير فوق المدينة والقرى المحيطة بها تدعو السكان إلى المغادرة من أجل سلامتهم، ولم يستطع هؤلاء التحرك لأن تنظيم «داعش» فرض منع التجوّل وعمد إلى تلغيم المنافذ، ولأنهم لا يعرفون أي معاملة سيلقون بعدما استبقت ميليشيات «الحشد الشعبي» خروجهم بالتهديد والوعيد.
الآن باتوا يعرفون أنهم كانوا محاصرين من جهتَين متشابهتَين في عدائهما لهم، الأولى «داعش» الذي حكمهم نحو عامين بالترهيب والقتل وقد خالوا يوماً أن «إسلاميته» يمكن أن تكون مرادفة لأخلاقيته، والثانية «الحشد» الذي لا يختلف في تركيبته عن ذلك التنظيم إلا بكونه انتزع «شرعية» بهيمنته على الحكم والقرار في بغداد، ويريد أن يخرج مما يسمّى «الحرب على الإرهاب»، وقد كرّس نفسه حاكماً فعلياً ممثّلاً للهيمنة الإيرانية على العراق.
المعلن رسمياً أن الجيش العراقي، الحكومي، هو من يخوض معركة الفلوجة، وكانت تقارير وتحليلات تبرّعت قبل بضعة شهور بأن الأميركيين تمكنوا – أخيراً – من إعادة تأهيل هذا الجيش وإخراجه من الحال التي كان عليها منتصف عام 2014 لدى انهياره المريب في الموصل، بالأحرى هروبه أمام جحافل «داعش». ولتأكيد ذلك أُفيد بأن أداءه في عملية تحرير الرمادي (أواخر 2015) اتسم بانضباطية وقتالية ومهنية كانت مفتقدة سابقاً، وفقاً لتقويم الخبراء الأميركيين. والأكيد أن فرقاً من الجيش، خصوصاً تلك التي تلقت تدريباً لمكافحة الإرهاب، يعوّل عليها في تحرير الفلوجة، إلا أن ما تبذله وتتحمّل فيه أعداداً مرتفعة من القتلى والمصابين لا تلبث زمر «الحشد» أن تحصد ثماره. على طريقتها التي تنافس «داعش» بهمجيتها. إذ تعدّدت المصادر التي تؤكد وقائع تراوح بين التنكيل بالمدنيين الفارّين واحتجازهم قسراً وتعذيب المئات منهم والإعدامات الميدانية، عدا نهب البيوت ودور العبادة والممتلكات وحرقها.
ويبدو أن «خصوصية» موقع الفلوجة القريب من بغداد ومعركتها ورموزها، المختلفة كليّاً عن الرمادي، كشفت مجدّداً أن ما قيل عن نجاح إعادة تأهيل الجيش كان إمّا متسرّعاً أو دعائياً. ويضطر ضباط أميركيون اليوم للاعتراف بأن الأسس التي أنشئ عليها هذا الجيش (بإشراف أميركي) حمّلته بذور ضعفه، ولم تستطع أن تجعل منه قوة مسلحة محترفة يعتمد عليها الحكم العراقي لفرض النظام والقانون. ففيما كان الأميركيون يعدّونه ليقوم بحماية الدولة والحدود، متجاوزاً الطوائف والزعامات المحلية وميليشياتها، كان الإيرانيون يعزّزون تدريب الميليشيات وتسليحها لجعلها عصابات مذهبية تهمّش الدولة والجيش، وتستعدي كل الطوائف والعشائر عاملة على إخضاعها لسلطة طهران. وقد ظهر الوجه «العصاباتي» في أعمال النهب، إذ روى مسؤولون أميركيون وعراقيون لـ «رويترز» أن الجيش نجح بعد محاولات عديدة في تحرير مصفاة بيجي (منتصف أكتوبر 2015)، ليأتي مقاتلو «الحشد» وينهبون كل المعدات المتبقية في المصفاة.
أما الوجه المذهبي، فكان أعلن عن نفسه قبل 2014 مراراً، لكنه تأكد أكثر مع «حروب التحرير» بدءاً من ديالى ثم في تكريت ومحاولات التدخل في الرمادي إلى التدخّل عنوةً في الفلوجة.
الخلاص من الإرهاب هدفٌ عالمي، وضرب «داعش» وهزمه هو بالأخص هدفٌ عربي وإسلامي. ومن حق الجميع أن يعرفوا من سينتصر، في العراق وسوريا وليبيا وفي سواها، أهي القوى التي تريد إحياء الدولة وإنهاض الاقتصاد وتوطيد الوئام الاجتماعي، أم تلك التي تعمل على تدمير الدولة وتمزيق المجتمعات واستخدام الإسلام لإهانته؟
لا شك أن أحد أهم العوامل للانتهاء من «داعش»، وما يشابهه أن تُعرَف أسباب ولادته وظروف انتشاره، ومَن استفاد ويستفيد من وجوده، والأهمّ أن تُدرَك وتُستدرك الممارسات التي تهيّئ لظهور «داعش» آخر أشدّ إجراماً. لم يبدُ الاعتماد على الولايات المتحدة مفيداً وفاعلاً، فـ «القاعدة» كان ثمرة أخطائها في أفغانستان و«داعش» ثمرة أخطائها ثم أخطاء إيران في العراق، و«ما بعد داعش» سيكون نتاج أخطائهما أيضاً مع جهات أخرى، سواء عبر جرائم «الحشد» في الفلوجة وغيرها، أو عبر استباحات قوات النظام وإيران والميليشيات في سوريا.
بين حكومة مفككة وجيش ضعيف وميليشيات فوق القانون وتنظيم إرهابي منفلت، ضاعت المقاييس في العراق، واكتملت الصورة أخيراً بانكفاء أميركي لمصلحة اندفاع إيراني. فلأي هدف تجازف الحكومة بإذلال مناطق عراقية ومواطنين عراقيين؟ وبماذا يختلف حيدر العبادي عن سلفه نوري المالكي، إذ حوّل لحظة إثبات نفسه كرجل دولة لجميع مواطنيه إلى فرصة لنيل رضا طهران؟ ولماذا الإصرار على توحّش «الحشد» إذا لم تكن إيران مستفيدة من إبقاء العراق أجزاء متنافرة؟ أسئلة وغيرها قد تبدو ساذجة لكنها برسم العراقيين الذين يهجسون بمستقبل بلدهم.