لماذا انتحر عبد المحسن السعدون؟
جاء انتحار عبد المحسن السعدون يوم الثاني عشر من تشرين الثاني سنة 1929 في ظروف مفاجئة هزت البلاد من اقصاها الى اقصاها وكان له وقع أليم صادق على الشعب العراقي حديث العهد بالاستقلال المتطلع الى مستقبله السياسي بامال جسام والذي كان ينظر الى رئيس الوزراء وكفاحه الدؤوب الهادئ باحترام عظيم قد لايدانيه لأي زعيم من زعمائه السياسيين في ذلك الوقت.
وكان الشعب العراقي بسبب الظروف ونظام المجتمع وطبيعة تكوين الدولة الجديدة وازدواجية الحكم وبدائية وسائل الاعلام يجهل ما يدور وراء الستار من مناورات بين رجال السياسة وسلطة الانتداب التي كان يعز عليها ان ترى خيوط السلطة تفلت من يديها واحدا تلو الاخر فازداد تمسكها بها حينا ثم لاتلبث ان ترخيها قليلا لتعود الى شدها من جديد ..
وكانت الدولة الفتية تتجاذب مصيرها قوى متعددة فهنالك سلطة الانتداب و(الانتداب ) صيغة جديدة ذكية توصل اليها دهاقنة الاستعمار في مؤتمر الصلح بباريس لتبرير استيلائهم على غنائم الحرب العالمية الاولى واقتسامها و صيغة مؤادها ان الاقطار المنسلخة عن الدولة العثمانية بقيت لفترة طويلة مهملة ومتاخرة وان شعوبها اصبحت غير قادرة على حكم نفسها بنفسها ولذلك لابد من ان تعهد عصبة الامم بادارتها الى احدى الدول الراقية المتمدنة لترعاها وتاخذ بيدها الى المستوى الذي يؤهلها للاستقلال وياله من شعور انساني نبيل وحرص على مصالح هذه الشعوب المسكينة وادراك للمسؤولية الدولية! .. ويالها من كلمة حق اريد بها باطل ..فقد صيغت صكوك الانتداب بطريقة توحي بانها تهدف الى خدمة مصالح الدول التي رضخت تحت الانتداب ولم تتطرق الى الهدف الاصلي وهو مصالح الدول التي سيعهد اليها بهذه المهمة الانسانية ولا الى اتفاقية سايكس بيكو اللااخلاقية التي تم بموجبها اقتسام الغنائم سرا يوم كانت اطرافها تتلمظ ازاء ممتلكات الدولة العثمانية وتتطلع الى اليوم الذي تضع فيها ايديها على هذه البلاد ذات الموقع الجغرافي والستراتيجي الفريد على طريق الهند وروائح النفط العبقة التي كانت تفوح من اراضيه الغنية بشدة
وهنالك الملك فيصل الاول الذي كان يعمل على ترسيخ عرشه في العراق بعد ان خسر عرشه في سوريا ويحاول ان يتفادى مع الانكليز تكرار اخطائه مع الفرنسيين وان يستفيد من تجاربه السابقة ويقول المثل (من لدغته افعى يرتعد لرؤية الحبل) فلعل أي احد يستيطع الوقوف بوجه سلطات الانتداب وكم يستطيع الانتزاع منها ليستيطع الوقوف امام تيارات الراي العام وبين هذا وذاك كيف يستطيع تحقيق التوازن مع مناورات رجال السياسة ؟.
وهنالك ايضا رجال السياسة والزعماء الشعبيون والوجهاء اصحاب النفوذ التقليدي في البلد وشيوخ العشائر بانتمائاتهم المتنوعة ومصالحهم المتضاربة فمنهم الوطني الصادق الذي تعوزه الخبرة ومنهم المتمرس الذي ينقصه الاخلاص والانتهازي الذي يتاجر بالوطنية ومنهم المثقف والجاهل والكفوء والذي هو مؤهل للحكم والساذج الذي دفعته الظروف الى الامام في هذا الجو وفي خضم هذه الظروف الابتدائية الحساسة المتضاربة ظهرت شخصية عبد المحسن السعدون فريدة صافية متالقة وكان بحكم نشأته وخلفيته يختلف عن غيره من رجالات العراق في ذلك العهد من الذين كانوا يتصدرون المسرح السياسي في الدولة الفتية . فهو عربي المحتد صافي الارومة تركي الثقافة عصري النزعة نشأ في اسرة عريقة ومحترمة كانت لها الرئاسة بين عشائرها ودرس في المدرسة الحربية التركية التي كانت تحتذي الاساليب الالمانية وتستعين باساتذة من القادة الالمان...
وعمل ياورا او مرافقا للسلطان عبد الحميد وشهد عن كثب الاعيب السياسة وما يدور في قصر يلدزر من مناورات وما يحاك فيه من دسائس .. ثم انتمى الى جمعية الاتحاد والترقي التي كانت في بداية عهدها حزبا عثمانيا يهدف الى صيانة الدستور وحماية الخلافة ولم تكتشف النوايا العنصرية الا بعد حين .. وبذلك خبر الحياة الحزبية وشهد جوانب شتى منها ثم اصبح عضوا في مجلس (المبعوثان) يمثل منطقة المنتفك يصغي الى مناقشاته وبمجالس اقطاب الدولة وساساتها ومندوبي ولاياتها بينهم نائب شاب من اشراف الحجاز يمثل ولايته اسمه فيصل وبذلك خبر الحياة البريطانية واطلع على مناوراتها ومداوراتها وهذه كلها تجارب لم تتح لغيره من الرجال الذين كانوا يحيطون بالملك فيصل امثال:
السيد عبد الرحمن النقيب وياسين الهاشمي وجعفر العسكري ونوري السعيد وغيرهم كما انه لم يلتحق بالثورة العربية كما فعل بعضهم ولم تكن له بالانكليز صلة سابقة كالتي كانت لهم وكان الملك فيصل بالمناسبة لايرتاح الى اية علاقة لاحدهم بالانكليز لاتكون على طريقه وبعمله والى جانب ذلك كان الرجل نزيها فوق الشبهات تتمثل فيه السجايا العربية الاصيلة ..
كريم الطبع مترفعا شديد الاعتزاز بسمعته وكرامته الشخصية والوطنية .. ويبدو انه كان قليل الكلام عزوفا عن الدعاية لنفسه معتدلا في ارائه ومواقفه .. وقد وصل الى الحكم بسهولة بسبب خلفيته العائلية والشخصية فواجه سلطة انتداب اجنبية متصلبة وملكا متحذرا وشكوكا وساسة من كل صنف ولون وشعبا فرحا بدولته الجديدة متطلعا الى الاستقلال الكامل سريع المحبة سريع الغضب .. فلما طعن في وطنيته اعتباطا واتهم في اخلاصه تجنيا .. كان الامر عنده كارثة لاتحتمل فعمد الى انهاء حياته بهذه الصورة الدراماتيكية التي حافظ بها على سمعته وكرامته ولكنه دفع حياته ثمنا لها.. ولاشك ان انتحار عبد المحسن السعدون وهو في رئاسة الوزراء كان له اثاره المختلفة على كل من الشعب والملك وسلطة الانتداب .. فقد هز هذا الانتحار ضمير الشعب واثار نقمته على الانكليز والمتعاونين معه وهو قد احرج الملك واضعف موقفه امام الشعب وقواه امام الانكليز . اما الانكليز فقد احرجهم الامر ايضا واوقعهم في حيرة من امرهم . وقد اهتم المندوب السامي البريطاني على نشر نص رسالته او وصيته التي تركها لولده علي قائلا فيها (( الشعب يريد الخدمة والانكليز لايوافقون )) فاثارت الرأي العام العراقي عليهم وخرجت الجماهير تهتف وتهوس (عبد المحسن ناخذ ثاره وساعة يالندن مرهونة ). وبين يدي ساعة كتابة هذه السطور قصاصة من جريدة التايمز البريطانية الصادرة في 15 تشرين الثاني 1929 أي بعد ثلاثة ايام من انتحار السعدون تحتوي على رسالة لمكتبها الخاص في بغداد نشرت بعنوان ( انتحار رئيس وزراء العراق) المح فيها الى وجود اسباب اخرى غير سياسية للانتحار . وقد نقل الكاتب نص رسالة السعدون او بالاصح ترجمها ثم علق عليها يقول (ان هنالك محاولات يبذلها بعض المتطرفين لاستغلال انتحار السيد عبد المحسن السعدون لصالح سياستهم الاان هنالك ايضا من اسباب ما يدعو الى الاعتقاد بما كان يقلق السيد عبد المحسن مؤخرا لم يكن قاصرا على السياسة فقط فمن عادة رؤساء الوزراء في العراق ان يتظاهروا بمستوى من الرخاء المادي وان يقيموا من الولائم ما هو على نطاق باذخ لايمكن ان تسمح به رواتبهم .. ويمضي الكاتب قائلا في مزاعمه ( ان معظم العراقيين لايميلون الى تصديق ما يقال من ان انتحار السعدون كان نتيجة للكابة التي شعر بها بسبب مستقبل العراق السياسي وخاصة في وقت كالحاضر حين تبدي الحكومة البريطانية ميلا لاتباع السياسة اكثر من تحرر اتجاه العراق .. وهذا ما نشرته جريدة التايمز .
واهم من ذلك البرقية السرية التي بعث بها المندوب السامي البريطاني في العراق الى حكومته يخبرها فيها بالحادث وهذه ترجمته الحرفية .. على الفور (يؤسفني كثيرا ان اخبركم ان السيد عبد المحسن السعدون رئيس الوزراء في العراق قد اطلق الرصاص على نفسه في الليلة الماضية وقد قيل لي انه كان منذ مدة نتيجة للمطالب الموجهة اليه من زملائه ومؤيديه والتي كانت تتضارب مع وجهات نظره في واجباته نحو البلاد وولائه لزملائه البريطانيين .. ان وفاته خسارة عظيمة للبلاد ولنا.
يقترح الملك ان يطلب الى ناجي بيك السويدي الاستمرار مع الوزارة نفسها . اما الناس في بغداد فقد تناقلوا على اثر الحادث اقوالا واشاعات مفادها ان انتحار السعدون كان بسبب حالة غير طبيعية من الكابة والمرض النفسي الذي كان كامنا لديه وان الامر كله لم يكن يستوجب الانتحار ولم ينج أي سياسي من اتهامات عنيفة يكيلها له خصومه بالحق او بالباطل وقال اخرون : فتش عن المراة وذهبوا الى ان زوجة عبد المحسن السعدون كانت تزعجه بدرجة لاتطاق وتنغص عليه حياته مما سود الدنيا في عينه وجعله يكره الحياة فعمد الى التخلص منها في لحظة ياس قاتل ولكن اذا صح هذا التاويل فما معنى رسالته الى ولده اذن ؟.
المرحوم السعدو ونجله(علي) من اليمين
ولماذا جاءت قاصرة على الامور السياسية فقط ولم ترد فيها اشارة لو غير مباشرة الى حياته العائلية وحالته النفسية ؟.
ان الدراسات التي صدرت عن حياة عبد المحسن السعدون حتى الان – وهي معدودة – لم تتناول هذه النواحي ولم تلق عليها ضوءا كافيا ( وذلك ربما باستثناء دراسة الاستاذ خيري العمري في كتاباته (حكايات سياسية من تاريخ العراق الحديث ) فهي عبارة عن سرد لوقائع حياة الرجل منذ ولادته الى وفاته يحتوي على كثير من المعلومات والتفاصيل دون أي تحليل لشخصية عبد المحسن السعدون ونفسيته وحياته اليومية وعاداته الشخصية وارائه في الناس والحياة وظروف انتحاره وملابساته المعقدة وبواعثه الانية والكامنة ولذلك فان معظم تلك الدراسات ليست اكثر من سيرة (رسمية) تكاد تكون خالية من الجوانب الانسانية .
عن كتاب (خواطر في التاريخ) للاستاذ نجدة فتحي صفوة