التنشئة السياسية وتشكيل الهوية الوطنية في مجتمع طوائفي*
شبكة ذي قار
المحامي حسن بيان
Weiterempfehlen
تمهيد :
الكلام عن الأحزاب ودورها في الحياة السياسية هو كلام في السياسية. وإذا كانت الأحزاب السياسية حديثة التكوين، إلا أن السياسة ليست كذلك، لأنها قديمة، قدم تشكل الانتظام البشري في مجتمع، تحكمه أعراف وضوابط وقواعد وقوانين معينة. والسياسة بما هي علم يتعلق بإدارة شؤون المجتمع، فإنها بحكم طبيعتها وأهدافها، تشكل أحد فروع العلوم الاجتماعية. ولعل اول من وضع أسساً عملية لهذا العلم، عبر التزاوج بين "النظري" والعملي هو أرسطو، في كتابه "السياسة". وبالتالي يمكن القول أن نواميس العلم السياسي إنما بدأت مع أرسطو،ليس لأن السياسة لم تكن موجودة قبله، بل لأنها مع أرسطو حُددت منهجية دراسة الدولة كما هي، بعكس ما ذهب إليه أفلاطون الذي حدد رؤيته للدولة كما يجب أن تكون.
والسياسة بما هي علم، إنما ترتبط بالفعل الإنساني، وبالتالي فإنها تتطور في نواميسها في سياق التطور العام للمجتمعات على تعاقب المراحل التاريخية وآليات إدارة الشؤون العامة، سواء لجهة علاقة الأطراف فيما بينها، أو علاقة قوى بين طرفين يمارس أحدهما سلطة على الآخر، وهي سلطة الحكم بحسب ما ذهب إليه الدكتور محمد عابد الجابري.
وعلم السياسة، الذي هو فرع من فروع العلوم الاجتماعية يتلاقى و يتقاطع مع العلوم الإنسانية الأخرى، خاصة تلك المتعلقة بالانتظام البشري العام من مثل علم القانون والتاريخ والاجتماع والأخلاق والاقتصاد والجغرافيا.
علم السياسة وعلم القانون
إن القانون، بما هو مجموعة قواعد وضعت لتنظيم العلاقات في المجتمع الداخلي وفي علاقة الدول مع الخارج، إنما يفرض قواعده الآمرة على الأفراد والجماعات المنضوية في إطار مجتمع معين. وهو ينقسم إلى قسمين عام وخاص. وعلم السياسة أقرب إلى القانون العام منه إلى القانون الخاص، لأن علم السياسة وعلم القانون العام يتقاطعان وتقوم علاقة بينهما، لأن كليهما، يتناولان نظام الدولة وطبيعة النظام السياسي وآليات الحكم. وأن العلاقة القوية بين العلمين، دفعت بعض الجامعات لأن تدمج أحدهما بالآخر. ويعتبر القانون الدستوري العام القانون الأساسي الذي تدور في فلكه الحياة السياسية العامة. ويرى الدكتور أدمون رباط أن الدولة العصرية بمعنى Etat moderne ، هو المصطلح المستعمل في العلم السياسي والقانون الدستوري.
لكن هذا التقاطع والعلاقة بين العلمين، لا يعني عدم وجود فوارق بينهما. فإذا كان القانون الدستوري يحدد قواعد تنظيم السلطة، وطبيعة النظام، ديموقراطياً،كان رئاسياً أو برلمانياً، جمهورياً أم ملكياً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محاضرة في معهد العلوم الاجتماعية – الفرع الاول - دبلوم الدراسات العليا
ومبدأ الفصل بين السلطات مثلاً، فإن علم السياسة هو الذي يحدد ما إذا كانت الديموقراطية تطبق حقاً وفق ما نصت عليه أحكام الدستور، وما إذا كان المواطنون يتمتعون بكافة حقوقهم السياسية والاجتماعية على قاعدة المساواة، وما اذا كان مبدأ فصل السلطات معمولاً به.
والقانون الدستوري الذي يتحدث عن الحريات العامة لا يتناول دور الأحزاب وأدوات التعبير السياسي التي تقوم بدور فاعل في الحياة العامة، بحيث تبقى خاضعة لأحكام قوانين خاصة تنظم عملها، كقانون الأحزاب أو الجمعيات مثلاً، وعليه يمكن اعتبار علم السياسة أوسع نطاقاً من علم القانون.
علم السياسة وعلم التاريخ
إن علاقة علم السياسة بعلم التاريخ وثيقة، لأن علم التاريخ الذي يُعنى بتأريخ الأحداث في تاريخ البشرية، سابراً أغوارها ومحللاً نتائجها ،ذو صلة بعلم السياسة، لأن الأخير يعتبر أن الأحداث التاريخية تشكل المادة الأساسية التي يرتكز عليها العلم السياسي. فمن جهة أولى فإن الأحداث تشكل مصدراً لظهور نظريات سياسية، كما النظريات التي تناولت السلام العالمي وانبثاق فكرة التنظيم الدولي التي كانت سبباً لإطلاقها الحروب وما تسببه من ويلات بشرية، وعلى سبيل المثال لا للحصر، فإن عصبة الأمم ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، وهيئة الأمم بعد الحرب العالمية الثانية، وأحكام القانون الدولي والإنساني، فرضتها الحاجة الإنسانية، لوضع ضوابط سياقات الحروب وتلقي نتائجها. أما من جهة ثانية فإن النظريات السياسية غالباً ما لعبت دوراً في انضاج ظروف ومعطيات ،لحصول احداث تاريخية كبرى، كما في مقدمات الثورة الفرنسية والثورة الروسية ، وأراء المفكرين العرب ضد الحكم العثماني والاستعمار بقديمه وجديده.
إن العلاقة الوثيقة بين العلمين، لا تضعف عراها خصائص التمييز بينهما، حيث ان علم التاريخ يركز بشكل أساسي على الماضي، فيما علم السياسة يهتم بما يحدث وما هو ممكن حدوثه، أنه علم دراسة الحاضر والمستقبل.
علم السياسة وعلم الاجتماع
إن علم السياسة هو فرع من علم الاجتماع، لأن الأخير يشمل كل حالة لهاعلاقة بتنظيم الحياة الاجتماعية. فهو يتناول سلوكية الأفراد والجماعات، والحياة الأسرية، وظروف العمل، وكل ما له علاقة بالنشاط الإنساني، والفعل البشري.
أما علم السياسة فينصرف يشكل أساسي إلى دراسة التنظيم السياسي في المجتمع السياسي ، وعليه فإن علم السياسة على علاقة وثيقة بعلم الاجتماع إلا أنه أضيق نطاقاً منه.
علم السياسة وعلم الأخلاق
إن علاقة السياسية بعلم الأخلاق، ترتبط بمنظومة القيم العامة التي تضبط السلوك الإنساني على مستوى الفرد أو الجماعة. وإذا كان علم الأخلاق يتجه بصورة رئيسية نحو إرساء القواعد الأخلاقية التي تمليها القيم الاجتماعية السائدة في مجتمع بعين وفي مرحلة معينة، فعلم السياسة يلاقي علم الأخلاق في احترام القواعد الأخلاقية التي أفرزها التطور العام، والتي تحولت إلى إعراف وتقاليد شكلت ضابطاً للسلوك العام في إطار المجتمع الإنساني.
إن علم السياسة الذي يجد ميدان فعله الأساسي بين البشر، يجد نفسه محكوماً بمنظومة القيم الاجتماعية، والأخلاقية أساس فيها، والتي أصبحت بمثابة القانون الاجتماعي العام الذي يفرض قواعده الاعتبارية على العام والخاص.
علم السياسة وعلم الاقتصاد
إن العلاقة بين علم السياسة والاقتصاد، هي علاقة وثيقة ايضاً، لأن السياسة تؤثر في الاقتصاد والعكس صحيح. وكان علم الاقتصاد يسمى بالاقتصاد السياسي، حيث أن الاختلاف بين النظم السياسية كان يقوم على أساس الاختلاف بين النظم الاقتصادية القائمة. وأنه لا مبالغة القول، بأن كثيراً من الأحداث السياسية الكبرى، كانت أسبابها اقتصادية والصراع الاجتماعي في إطار الدولة، غالباً ما تكون بواعثه اقتصادية،كما ان الحروب الاستعمارية بواعثها الأساسية اقتصادية. وكما برزت تكتلات سياسية كبرى في سياق تطور التنظيم الدولي، فإنه في المقابل برزت تكتلات اقتصادية كبرى، بحيث أصبح النفوذ السياسي يقاس بمدى القدرة الاقتصادية لأصحاب من يطمح بدور سياسي.
علم السياسة وعلم الجغرافيا
إن علاقة علم السياسة بعلم الجغرافيا، تربطها عروة وثقى، لأن علم السياسة الذي يحدد قواعد إدارة العملية السياسية في مجتمع معين على النطاقين الوطني والدولي، على علاقة وثيقة بعلم الجغرافيا، ولهذا أطلقت تسمية الجغرافيا السياسية كمفهوم يحدد تأثير الجغرافيا في الشأن السياسي وفي حياة الشعوب استقراراً أو اضطراباً.
إن الموقع الجغرافي يفرض نفسه في تحديد الخيارات السياسية للدولة. ولهذا قيل أن الموقع الجغرافي لدولة ما أن يكون نعمة، وأما أن يكون نقمة.
من هذا الاستعراض السريع لعلاقة علم السياسة بالعلوم الإنسانية الأخرى نصل إلى خلاصتين، الخلاصة الأولى ،أن علم السياسة يرتبط بتطور المجتمع البشري، أي أنه علم اجتماعي متحرك. والخلاصة الثانية، أنه علم يتكيف بأحكامه وفق معطيات كل مجتمع ومستوى تطوره الاجتماعي، وهنا يصح قول أرسطو، بأنه لا يصح وصف أحد الأنظمة السياسية بأنه النظام الصالح لكل زمان ومكان، لأنه يختلف باختلاف البيئة التاريخية، وما يمكن اعتباره صالحاً لعصر قد لا يصلح لغيره، وما هو صالح في بيئة لا يصلح بيئة أخرى، والنظام الامثل هو النظام النابع من ظروف البيئة الاجتماعية المتكيف مع حاجاتها خاصة.
إذاً، أن علم السياسة على علاقة بالحياة الاجتماعية، وميدانه التطبيقي الأنشطة السياسية وإدارة الشأن العام، وقد اعتبره البعض بأنه علم الدولة، كون علم الدولة يرتبط بالمفهوم القانوني للدولة ذات السيادة، وبعض آخر اعتبره علم السلطة كونه يرتكز على مفهوم اجتماعي للدولة وقد عرفه العلامة دوفرجيه : "بأنه علم السيطرة والسلطة والحاكمين.
إن اعتبار علم السياسة علم قائم بذاته له أحكامه وقواعده، يقودنا إلى القول بأن للسياسة قوانينها، وهذه القوانين وأن لم ترتق الى ثبات واستقرار القوانين الطبيعية، إلا أنها تبقى تشكل قواعد للانتظام العام في إطار المؤسسات السياسية التي تتعاطى الشأن السياسي ضمن الحالات التي يمكن إدراجها تحت عنوان القوانين السياسية ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- الدولة التي لا تعتمد التخطيط والتنظيم لمواردها تتخبط في أزماتها السياسية والاقتصادية.
- الاحتلال لأرض وشعب، يولد نقيضه وهي المقاومة.
- السلطة التي لا تحكم تصرفاتها ضوابط القانون تجنح نحو إساءة استعمال السلطة.
- عدم وجود أحزاب سياسية عاملة في إطار مجتمعي معين، يجعل العمل السياسي خاضعاً لاهواء الأفراد والزعامات والعشائر ورؤساء الطوائف في مجتمع طوائفي وقبلي.
لذلك، فإن وجود الأحزاب يشكل ضرورة للحياة السياسية، وتقاس حيوية المجتمعات السياسية بمدى فاعلية الأحزاب الناشطة فيها ، وقد اعتبر الفقيه النمساوي هانسن كلسن ، ان وجود الاحزاب هو عماد الديمقراطية والعداء لها يخفي عداء للديمقراطية. وفي تقرير لمجلة "الايكونومست" عدد 28 شباط 2014 (افتتاحية النهار 7/3/2014) ما نصه :" ان الخوف على الديمقراطية يأتي من انخفاض نسبة الانتماء الى الاحزاب السياسية ويشير التقرير الى ان هذه النسبة 20% في بريطانيا فيما اليوم هي أقل من 5% هذا مؤشر سلبي بالنسبة للديمقراطية ".وهنا نلج إلى الكلام عن دور الحزب باعتباره القوة السياسية للتنشئة السياسية في المجتمع السياسي .
أولاً: مفهوم الحزب / القوة السياسية للتنشئة السياسية
لقد أعطي أكثر من تعريف للحزب السياسي، فمنهم من ركز في تعريفه على موضوع التنظيم، كما فعل موريس دوفرجيه في مؤلفه الأحزاب السياسية، ومنهم من عرفه بالاستناد إلى أهدافه وآليات عمله.
وبنظرنا، فإن التعريف الأكثر مقاربة لواقع الأحزاب، هو ذاك الذي يوائم بين المسألة التنظيمية والأهداف وآليات العمل. إذ أن الأحزاب لا تقوم إلا على ثلاثة ركائز، تلخصها ثلاثية الفكر والتنظيم والممارسة. وأنه من خلال هذه الثلاثية يتم تناول التركيب أو البنية التنظيمية للحزب، ومنظومته الفكرية وبرامجه السياسية وممارساته عبر الأنشطة المختلفة.
إن الحزب هو مؤسسة سياسية يطرح رؤيته لإدارة الشأن العام، وتعتبر مسألة استلام السلطة من الأهداف الأساسية للحزب، ليست باعتبارها هدفاً نهائياً وقائماً بحد ذاته، بل حتى يتمكن الحزب من إطفاء الطابع الشرعي على برنامجه الذي يشرعه عبر الهيئات ذات الصلة بالتشريع ومن ثم ضخه إلى الحياة العامة عبر قوانين ومراسيم وقرارات إدارية.
والأحزاب تختلف باختلاف بناها التنظيمية واختلاف منظوماتها الفكرية والسياسية وآليات عملها. فمنها من يرجح الآليات الديموقراطية في انتظام عملها وعلاقاتها الداخلية، ومنها من يرجح المركزية، ومنها من يجمع بين الحالتين تحت عنوان المركزية الديموقراطية.
وكما تختلف الأحزاب باختلاف تركيبها البنيوي التنظيمي، فإنها تختلف أيضاً باختلاف مناهلها الفكرية ومنظوماتها السياسية، فهناك الأحزاب العلمانية، والأحزاب الدينية بكل تفريعاتها ومشتقاتها، كما توجد أحزاب ذات تركيب عرقي في بلد متعدد القوميات. والاختلاف بين الأحزاب يتناول أيضاً طبيعة الفئات أو الطبقات الشعبية التي تعتبر الأحزاب نفسها معبرة عن أهدافها ومصالحها. فالأحزاب التي تمثل مصالح القوى الرأسمالية مثلاً غير تلك التي تمثل الفئات الشعبية بشرائحها المتوسطة والمسحوقة. كما أن أحزاب النخبة غير الأحزاب الجماهيرية، والأحزاب التي تُشكل في إطار مناطقي وتتمحور حول زعامات عائلية وعشائرية غير تلك التي تمتد على مساحة الوطن.
أما بالنسبة لآليات العمل السياسي، فالاختلاف قائم أيضاً بين الأحزاب، فمنها من يعتمد آليات النضال الجماهيري للضغط من خلال الكتل الشعبية التي تعتبر الأحزاب نفسها أنها تمثل مصالحها وتعكس أهدافها في برامجها، وهناك أحزاب تعتمد أساليب ووسائط لا تستقيم ووسائط التعبيرات الديموقراطية.
فضلاً عن كل هذا، فإن أحزاباً تمارس نشاطها علانية وأخرى تضفي الطابع السري على أنشطتها، وهذه الأخرى تندرج تحت مسمى الجمعيات السرية، التي وأن قدمت نفسها من خلال مظهرية شكلية إلا أنها تبقى تضمر أهدافاً أساسياً لا تريد الإفصاح عنها.
هذه اللوحة البانورامية للتشكل الحزبي في المجتمع السياسي، يقود إلى استنتاج سريع، هو أن وجود الأحزاب في المجتمع السياسي يضفي حيوية على الحراك المجتمعي وخاصة بجانبه السياسي. وهذه الحيوية تتجلى من خلال العملية السياسية الصراعية مع التشكل السلطوي من جهة، كما تتجلى من خلال العملية الصراعية بين القوى والأحزاب. وكلما كثرت الأحزاب كلما كان ذلك دليلاً على وجود تعددية سياسية قائمة في مجتمع سياسي معين.
إن الأحزاب يكتسب دورها أهمية في الحياة الاجتماعية، لأنها باتت من أهم الظواهر الاجتماعية التي تؤثر اليوم في تطور المجتمعات السياسية.
وتتجلى أهمية دور الحزب في الحياة السياسية، في كونه يساهم في رفع مستوى الوعي السياسي لدى الفرد المنظم أولاً، ولدى الجمع العام ثانياً، كما يمكّن اعضاءه من المشاركة في الشأن العام استناداً إلى رؤية محددة وممنهجة، وبذلك فإن الحزب يلعب دوراً أساسياً في إخراج العمل السياسي من عشوائيته وظرفيته، ويدخله الإطار المنظم حيث يؤطر الجهد الخاص في سياق المشروع العام، وهذا ما يجعل الحزب عبر فعالياته وأنشطته مساهماً رئيسياً في تشكيل رأي عام حول قضية أو قضايا معينة.
من هنا، فإن انضواء العمل السياسي في إطار حزبي، هو ظاهرة إيجابية، لأن هذا الانضواء يفعَل الحياة السياسية في المجتمع، خاصة وأن الحزب وهو مؤسسة تعليمية وتثقيفية وتوجيهية فضلاً عن كونه مؤسسة سياسية، يقدم إلى الشعب المعلومات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالطرق المبسطة والواضحة، وبما يساعد على تكوين ثقافة عامة لديه وإيقاظ الوعي السياسي في نفسه وتكوين إرادة عامة أو رأي عام.
إن دور الحزب في الحياة السياسية وفق هذه الرؤية يساهم مساهمة أساسية في التنشئة السياسية، لأنه يدخل النظام إلى عمل الجماعات ويحدد ضوابط السلوك الفردي داخل عمل الجماعة، كما انه ينمي لدى الفرد إدراكه لأهمية النقد السياسي، ويرفع من مستوى وعيه في سياق المساجلة السياسية.
على هذا الأساس، فإن مجتمعاً تنشط فيه الأحزاب السياسية، يعطي انطباعاً، بأن هذا المجتمع لا يعيش حالة فراغ سياسي، لأن الحركة الحزبية الناشطة تشكل امتلاء له، وهو بالتالي يخضع لقواعد الهيكلة. فالمجتمع التي لا تكون حياته السياسية مهيكلة يكون اقرب إلى ما يشبه حالة الموات السياسي. ولهذا يدفعنا للتأكيد بأن تفعيل النشاط السياسي انما يرتكز على آليات العمل الحزبي سواء كان هذا النشاط عبر آليات عمل المؤسسات الحزبية أو ضمن آليات الانخراط في النشاط العام، من خلال الرقابة على الأداء السلطوي أو من خلال العمل لإعادة تكوين السلطة، وتفعيل الأنشطة النقابية. وهذا أن دل على شيء، فإنما يدل أن المجتمع الذي يختلج بحياة حزبية نشطة، إنما هو مجتمع مشبع بالثقافة السياسية على مختلف منطلقاتها النظرية، وهذا يقود إلى اعتبار الحزب انما هو قوة أساسية في التنشئة السياسية في المجتمع السياسي.
هذه التنشئة السياسية إنما تتشكل بالتماهي مع مصادر إرضاعها الفكرية والسياسية، فعندما يكون الخطاب السياسي دينياً ،تغلب السمة الدينية على التنشئة السياسية، وعندما يكون الخطاب السياسي وطنياً على مستوى المضمون ومساحة الانتشار الأفقي، تغلب السمة الوطنية على التنشئة السياسية وهنا نلج إلى مفهوم الحزب كقوة سياسية للهوية الوطنية في مجتمع طوائفي..
ثانياً: مفهوم الحزب / القوة السياسية للهوية الوطنية في مجتمع طوائفي
انطلاقاً من كون الأحزاب تؤدي وظيفة أساسية في التنشئة السياسية، فإن المضمون السياسي لهذه التنشئة هو الذي يحدد طبيعته الهوية للمجتمع السياسي.
إن الهوية الوطنية لمجتمع سياسي تندرج تحت عنواين.
العنوان الأول، هو الهوية الوطنية للمكون الوطني الذي يضم أطيافاً مختلفة في العلاقة مع الخارج. وهذه الهوية تحددها الجغرافيا، والانتماء القومي للمكون المجتمع الذي يشكل المادة البشرية للمكون الوطني. وهذه الهوية تكون وطنية بالمفهوم الحقوقي للدولة، او قومية فيما لو كانت هذه الهوية من ضمن إطار قومي أشمل، كما هي حالة الهويات الوطنية العربية في إطار المكون القومي، حيث العرب يشكلون أمة واحدة وأن توزعوا بين عدة مكونات قطرية، أسقط عليها مفهوم الوطنية القطرية. وهذه الهوية الوطنية تمنح جنسيتها لكل أبناء الشعب بغض النظر عن المكونات المجتمعية، طبقية كانت في فرزها الاجتماعي، أو متعددة الانتماءات الدينية الإيمانية.
وهذه الهوية الوطنية تمنح جنسيتها لأبناء الشعب، على قاعدة المساواة دون تمييز أو تفرقة.
اما العنوان الثاني للهوية الوطنية، فهي هوية المواطنة، وهنا تكمن الإشكالية في مجتمع سياسي تحكمه الطائفية السياسية حيث لبنان نموذجاً.
ومصدر هذه الإشكالية، أن المساواة المنصوص عليها في النص الدستوري لا تطبق على واقع الحياة السياسية. ففي لبنان الملتزم حسب أحكام دستوره مواثيق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأن الدولة تجسد هذه المبادئ في جميع الحقول والمجالات، وما نصت عليه المادة (7) من الدستور بأن كل اللبنانيين سواء لدى القانون، وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم لا تجد هذه الأحكام ميدانها التطبيقي في الممارسة السياسية.
إن النظام السياسي اللبناني، الذي تحكمه قواعد الطائفية السياسية، اسقط مفهوم المواطنة عن اللبنانيين، لأن المواطنة تفترض توفر شرط المساواة في المجتمع السياسي. وعندما تنعدم المساواة، فإن المواطنة بما هي تعبير عن هوية وطنية تفقد أحد مقوماتها الأساسية.
إن توزيع مواقع السلطة وهرمية الفئة الأولى من الوظائف في الإدارة على الطوائف، أضفى كيانية سياسية على المكونات الطائفية. وهذا ما جعل من لبنان الدولة الواحدة، يقوم نظامه على فيدرالية طوائفية، بحيث أدى ذلك إلى حرمان اللبنانيين من التمتع بحق المساواة في الحقوق السياسية في إطار المكون الوطني الواحد، وأن هذه المساواة في ظل النظام القائم على الطائفية، أصبحت "مساواة" في إطار (ما يمكن تسميته)-"المواطنة الطائفية".
وهذا ما أدى إلى جعل بنيان المجتمع السياسي اللبناني مشدوداً إلى الولاءات الطائفية أكثر منه إلى الولاء الوطني.
هذه التعددية في الولاءات السياسية الطوائفية، أضعفت التماسك الوطني، وما زاد من وهن عرى هذا التماسك، أن المجتمع السياسي الطائفي، لم يكن بمنأى عن تأثيرات الخارج.
هذه الطائفية السياسية التي تعود بجذورها التي الفترة التي تشكل فيها النظام الإداري للمتصرفية، يعاد إنتاجها في كل مرة تعصف بلبنان أزمة سياسية حادة. ومعها أنتجت و"ما يمكن اعتباره وطنيات طائفية" على حساب الوطنية السياسية.
من هنا، فإن الوطنية السياسية لا تقيمها إلا قوة سياسية وطنية التركيب التنظيمي والمعتقد السياسي. والحزب العابر للطوائف والمذاهب والمناطق، هو القوة المؤهلة لبلورة مفاهيم الوطنية السياسية، كهوية وطنية جامعة. وان بلوغ هذا الهدف لجهة تشكل الهوية الوطنية، لا يتم بمجرد التمني، بل لا بد من توفر ميزان قوى سياسي وشعبي يكون قادراً على فرضه.
ان حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي(1)، يعتبر انه في ظل نظام سياسي كالنظام اللبناني القائم على اساس الطائفية السياسية، فإن المدخل الفعلي نحو تشكل الهوية الوطنية السياسية على حساب"الوطنية الطائفية"هو بإعادة تشكيل السلطة السياسية على قواعد لا طائفية بدءاً من اصدار قانون انتخابي ،يلغي القيد الطائفي عن العملية الانتخابية ترشحاً وانتخاباً،ويجعل لبنان دائرة انتخابية واحدة وعلى أساس النسبية واعتماد الترشح على اساس الكيانات الحزبية،واعطاء الجمعيات والاحزاب التي تمارس العمل السياسي على اساس طائفي فرصة لتصحيح اوضاعها لجهة اعادة النظر ببرامجها وبناها التنظيمية والا سحب تراخيصها . وهذا يجب ان يترافق بتوحيد كتابي التاريخ والتربية المدنية حتى لا يبقى تاريخ لبنان يقرأ من زوايا مختلفة، ومعه يجب وضع سياسة تربوية وطنية،تلغي ما هو مبني على اسس دينية طائفية. وعبر وضع الانشطة التربوية الخاصة تحت اشراف الدولة .
إن تراجع المشاريع السياسية الطائفية المنطلق والممارسة مرهون بتقدم المشاريع السياسية الوطنية المنطلق والممارسة، والتي تحمل لواءها الأحزاب الوطنية.
وعليه فإن الحزب الوطني كقوة سياسية، هو العامل الأكثر تأثيراً في تشكيل الهوية الوطنية، وبالتالي جعلها العنصر الجاذب في المجتمع السياسي.
فكيف تكون مساهمة الحزب في بلورة هذه الهوية وتشكيلها؟
ثالثاً: مساهمة الحزب القوة السياسية في بلورة الهوية الوطنية وتشكيلها
إن المجتمع السياسي، وهو المجتمع الذي تظهر فيه السلطة السياسية،هو كالحوض المائي، يستقبل كل ما يضخ إليه، وكل ما يصب فيه .والأحزاب العاملة في هذا المجتمع إنما هي بمثابة الروافد السياسية، وهي بالتالي تلعب دوراً أساسياً في تكوينه السياسي العضوي.
فإذا كانت غزارة الضخ السياسي الوطني قوية، ارتفع منسوب "الوطنية" في هذا المجتمع، وإذا كانت غزارة الضخ السياسي الديني والطائفي قوية، ارتفع منسوب "الدينية السياسية" اوالطائفية السياسية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ