العراق: عودة الأب الضال
د. مثنى عبدالله
Aug 22, 2017
في تصريحات صحافية، وصف رجل الدين العراقي السعودية بأنها بمثابة أب للجميع. فأين كان هذا الأب الضال غائبا عن العراق طوال أربعة عشر عاما؟ فجأة تقاطر الخليجيون على بغداد من أبواب ونوافذ السياسة، في زيارات علنية وسرية، وكأنهم اكتشفوه لأول مرة وباتوا يطمحون لتثبيت هذا الاكتشاف حقا حصريا لهم. حتى الصحافة والمراقبين السياسيين من المنطقة ومن خارجها أصابتهم الدهشة لهذا الانفتاح الذي لم تتوفر أية مؤشرات عنه سابقا. فكل شيء جاء فجأة من دون مقدمات ومن دون تطور تدريجي، وهذا السلوك السياسي ليس غريبا بين العرب، فالقطيعة كذلك تحصل دائما فجأة ومن دون مقدمات، كما حصل مع الشقيقة قطر.
دعوات رسمية توجه الى السيد مقتدى الصدر فيزور السعودية والإمارات، وربما زيارت محتملة أخرى لغيرهما. زيارة وزير الداخلية العراقي الى الرياض وتوقيع اتفاقيات أمنية. لقاء رئيس الأركان السعودي بنظيره العراقي. تواجد وزير الخارجية البحريني في بغداد، الذي لم تجف تصريحاته بعد التي هاجم فيها من زارهم لأنهم تدخلوا في الازمة البحرينية. افتتاح منفذ جديدة عرعر الحدودي بين العراق والسعودية. طلب سعودي عاجل بافتتاح قنصلية لهم في مدينة النجف. إعلان مجلس الوزراء السعودي عن تشكيل مجلس تنسيقي مع العراق لتنسيق السياسيات الامنية والاقتصادية والعسكرية. إعادة تشغيل خط الطيران الواصل بين البلدين. تبرعات للنازحين وما بعد النازحين. وقد يقول قائل بأنكم ذممتم الرياض حين ابتعدت، واليوم حين اقتربت ها أنتم تشككون في هذا الاقتراب. أليس الاعتراف بالخطأ بداية صحيحة؟ لكن هل حقا أن الموضوع يمكن النظر اليه بهذه البساطة؟
إن من يراقب تاريخ العلاقات الرسمية العربية ـ العربية على مدى عقود من الزمن يصاب باليأس، وتنعدم لديه صفة النظر بحسن نية الى أية خطوة يخطوها شقيق تجاه شقيقه. فقد ساهمت المملكة مساهمة فاعلة في حصار العراق في تسعينيات القرن المنصرم، واشترت ذمم دول بالمال كي يستمر الحصار، وتحركت بصورة فاعلة في تجميع عراقيين كُثر وقدمتهم إلى أجهزة المخابرات الامريكية والبريطانية لتشكيل المعارضة ودعمتهم بالمال. كما كان لها دور سياسي ودبلوماسي واستخباراتي وعسكري ومالي في غزو واحتلال العراق. وعندما حصلت الكارثة فيه بنت سياجا على حدودها معنا، وألقت في السجون كل من تبرع بريال الى المقاومة العراقية، وانصاعت إلى أوامر جورج بوش الابن بالابتعاد عن الساحة العراقية تماما. ولان مناطق الضغط الواطئ تجلب الاعاصير، ولأن الفراغ فرصة لاصحاب الاجندات، فقد اجتاح العراق من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه الإعصار الإيراني، وباتت طهران تُصرّح علنا بأن بغداد عاصمة امبراطوريتها. فدفع صانع القرار السعودي ثمن ذلك اضطرابا أمنيا داخليا وخارجيا لم يسبق له مثيل، واستنزافا ماليا كبيرا على التسليح وشراء الولاءات الدولية لحمايتها، كان آخرها المليارات الاربعمئة التي حصل عليها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. فما هي الدوافع وراء الخطوة التي أقدمت عليها الرياض تجاه العراق، والتي كرّت مواقف دول الخليج بعدها في الاتجاه نفسه؟
حتى قبل وصول ترامب الى البيت الابيض فتحت الرياض قنوات كثيرة مع مستشاريه والمسؤولين عن حملاته الانتخابية. وعندما تبوء السلطة فتحت كل القنوات الرسمية وغير الرسمية معه، لانها كانت تنوء بثقل الإحباط الذي عانته من أوباما، الرئيس السابق الذي وضع إيران في صدارة علاقاته الدولية، وركنها على الرف. ولان الرياض لا تستطيع العيش بدون ضامن أمريكي حصرا، ولأن الصراع بينها وبين إيران وصل الى مرحلة الاستنزاف المُكلف، فقد حصلت تفاهمات بينها وبين إدارة ترامب بهذا الشأن، وأن الانفتاح الحالي على العراق هو أحد بنوده. فالامريكان لديهم تواجد عسكري وأمني واستخباراتي واسع في العراق، وأن هذا التواجد بحاجة الى غطاء سياسي عربي، يمد علاقاته مع الاطراف العراقية والشخصيات، التي تعتقد واشنطن بأنهم ليسوا انغماسيين في القرار الايراني، منهم رئيس الوزراء الحالي ورجل الدين مقتدى الصدر وآخرون ستكشف عنهم الايام المقبلة.
كما أن الادارة الجديدة تعتقد أن قوة الفك الايراني في المنطقة، ساهم بصنع أنيابه الخمود السياسي للرياض وحليفاتها الخليجيات، واتكالها في كل شيء على صانع القرار الامريكي، من دون مشروع خاص بهم يواجهون به المشروع الايراني. وبالتالي هم يعتقدون بأن الدخول السعودي والخليجي وعرب أمريكا الاخرين الى العراق، سيؤدي الى حصر الصراع مع الاذرع الايرانية المباشرة في الساحة العراقية، من دون الغلو في وضع الآخرين بالكفة نفسها، وهذا سيسهل المواجهة مع إيران ويبتعد عن تشتيت الجهود. وبهذا الطريق جاءت الدعوة السعودية والإماراتية الى مقتدى الصدر لزيارتهم، وبالطريقة نفسها تم الايعاز الى بعض من يطلق عليهم شيوخ عشائر من العراقيين المحسوبين على الامارات وغيرها بالعودة الى العراق للمشاركة في العملية السياسية، وتسقيط خلافاتهم مع الحكم في بغداد. وبذلك نكون أمام علاقات سياسة سعودية وخليجية مع العراق هي بالنسخة نفسها من علاقاتهم مع لبنان، لكنها أهم وأكبر تبعا لما يمثله العراق من عمق وموارد وإمكانيات، حيث تكون الساحة العراقية ساحة منافسة تحاول فيها الرياض جمع أوراق بغية تحسين شروطها في اللعبة الاقليمية مع إيران، والسعي لتوسيع مساحة الارض الحرام بين الطرفين بعد أن تقلصت كثيرا وباتت تضغط على نظرية الامن القومي السعودي والخليجي لصالح الامن القومي الايراني، مع الابتعاد عن تأزيم الوضع الى أبعد من الحد المسموح به كي لا تصل الى حالة الاشتباك. وقد شرعت الرياض وحليفتها الامارات، في رسم إجراءات على الارض لتشكيل تحالفات جديدة يكون فيها من يُسمون أنفسهم زعامات سنية – معارضة وموالات – تابعين لجناح من البيت السياسي الشيعي.
إن تغريدات بعض المسؤولين الخليجيين مؤخرا التي تتحدث عن أن أمن العراق هو جزء من أمن الخليج والعرب، وأن مرحلة (بناء الجسور والعمل الجماعي المخلص) قد بدأت، كما يقول وزير الدولة لشؤون الخارجية الاماراتي، كلها جاءت متأخرة جدا بعد الاستثمار الايراني الكبير في البلد. وإذا كانوا يعتقدون أن تواجدهم في العراق جنبا الى جنب التواجد الايراني، سوف يُجبر الحكم في بغداد على تحقيق توازن في علاقاته بينهم وبين إيران، ويهيئ فرصة مستقبلية للحكومة للتخلص من الهيمنة الايرانية، فهم واهمون كثيرا، لان العراق دولة عازلة. والدول العازلة لا تستطيع تحقيق الموازنة في العلاقات مع الدول المجاورة لها دون وجود حكم وطني خالص، وإرادة وطنية وقرار سياسي مستقل تماما عن الاخرين. وهذه كلها غير متوفرة اليوم في العراق للاسف، لانه الساحة الاهم لايران من كل الساحات الاخرى. وأن التعويل على استنساخ تجربة التواجد السعودي في لبنان وتطبيقها في العراق غير ممكن. صحيح إن لبنان يعني حزب الله لايران، لكن العراق بالنسبة لايران يعني أشياء أهم. فهو يعني مرجعية النجف التي تقود الشيعة في العالم، ويعني النفط، ويعني كذلك الطريق البري الايراني الواصل الى البحر المتوسط عبر سوريا الجاري العمل به حاليا.
ماهو دور الطبقة السياسية الحاكمة في بغداد في ظل المعادلة الجديدة للتواجد السعودي الخليجي – الايراني في العراق حديثا؟ ببساطة سيكونون مجرد دمى يتحركون وفق مقتضيات اللعبة الاستخباراتية الجديدة لتحقيق مصالح الطرفين.
باحث سياسي عراقي