مسيحيو الموصل والاحتفال بالأعياد والتذكارات والمواسم السنوية /١
ت بهنام سليم حبابه
مسيحيو الموصل والاحتفال بالأعياد والتذكارات والمواسم السنوية
القسم (1)
مدينة الموصل عريقة بتاريخها وآثارها وتقاليدها، والمسيحيون (النصارى) فيها منذ الأجيال المسيحية الأولى، يشهد بذلك التاريخ والمؤرخون كما تشهد الآثار، القائمة منها والمندرسة، وقد امتلأت منها كتب التاريخ عبر العصور، ولا مجال لتفصيل ذلك في هذا الموضوع الذي أدرج تفاصيله تلبية لرغبة أصدقاء ومعارف من الموصل وسواها، ذكرى، بل ذكريات، عن الحالة الاجتماعية للمسيحيين في المدينة في أربعينيات القرن المنصرم، وإن موضوعا كهذا هو جزء من تاريخ هذه المدينة العريقة المعروفة بعاداتها وتقاليد أهلها لكي يبقى هذا الحديث ذكرى خالدة لأولادنا وأحفادنا، وبخاصة بعد أن ترك المسيحيون (النصارى) مدينتهم العزيزة هربا من القوات المجرمة الغازية المعروفة باسم (داعش)، ولم يعد إليها حتى الآن، رغم تحريرها منهم منذ زمن غير بعيد، إلا نزر يسير.
أشرع بالكلام في هذا الموضوع عن الذكريات التاريخية الجميلة، مبتدئا بعيد الميلاد المجيد، وهو أعذب ذكرى لميلاد السيد المسيح رسول المحبة والسلام للعالم. وما أجمل الأبيات الشعرية التي تغنى بها أمير الشعراء أحمد شوقي يقول فيها فيما يقول:
ولد الرفقُ يوم مولد عيــسى والمروءاتُ والهدى والحياءُ
وازدهى الكونُ بالوليد وضاءتْ بِسناهُ من الثرى الأرجــاءُ
وسَرتْ آيةُ المسيحِ كما يَسري منِ الفجرِ في الوجودِ، الضياءُ
تملأُ الأرضَ والعــوالمَ نورًا فالثرى مائجٌ بها وضـــّاءُ
لا وعيدٌ، لا صولةٌ، لا انتقـامٌ لا حسامٌ، لا غزوةٌ، لا دمـاءُ
ملكٌ جاورَ الترابَ فلمّــــا ملَّ، نابَتْ عن الترابِ السمـاءُ
وأطاعِتْهُ في الإله شُيـــوخٌ خُشَّعٌ، خُضِّعٌ لهُ، ضُعَفـــاءُ
أَذْعَنَ الناسُ والملوكُ إلى مـا رَسَموا، والعقولُ والعُقــلاءُ
فلَهُمْ وقفــةٌ في كل أرضٍ وعلى كلِّ شاطئِ إِرْســــاءُ
يقع عيد الميلاد المجيد في الخامس والعشرين من كانون الأول وهو عيد عالمي ينتظره الجميع بشوق وترقب لما فيه من المعاني والآمال للبشرية. يُسبق هذا العيد بصيام يمارسه جميع المسيحيين حسب قدراتهم المادية والمعنوية، والكتاب المقدس لم يفرض صياما واحدا معينا موقوتا..
كان المسيحيون في أواسط القرن المنصرم، يتهيئون لاستقبال عيد الميلاد، كلٌ من جانبه، فالنساء منهمكات بترتيب البيت وتهيئة ملابس العيد لهن وللأولاد، إلى جانب تحضير (الكليجا) وما يلزم لذلك من جوز وسكر وطحين وسمن، وهي على أنواع كما هو معروف: منها (جوز وشكر) ومنها (شكر) فقط أما (حافة السلة فلا حشوَ لها) وهناك كذلك أم التمر!! و هنا تبدو مهارات بنات البيت في تصنيف الأنواع المختلفة من (الكليجا) بأشكالها ورصفها في الصواني. هذا وتحتفظ بعض الأسر بأختام خشبية بها نقوش مختلفة لختم (الكليجا) بالمنقاش لتمييزها، قبل دهنها بالبيض، ليحملها أحد الرجال إلى الفرن في السوق ليخبزها، والبعض يستدعي الخبّازة لخبزها في تنور البيت!!
وبعد أن تفوح رائحة (الكليجا) الذكية تحتفظ بها أم البيت إذ لا يجوز الأكل منها قبل العيد بسبب الصوم القطعي عن الزفرين، لاحتوائها على البيض والدهن الحر.
هذا وكنت أرافق والدي إلى الحمام (في شارع غازي)، اسمها حمام العلا والسعر (10) فلوس للشخص الواحد! عدا الشاي أو الحامض بفلسين طبعا.
وفي فجر العيد كنا نتبع عمنا (الخوري روفائيل حبابه) إلى كنيسة مار يوسف قرب قنطرة الميدان في زقاق غير مبلط، مثل بقية أزقة الموصل الداخلية، ولذلك كان رحمه الله، يحمل عصا معقوفة (جاكون) لأن الطريق مظلم طبعا، إذ لم تعرف الموصل وقتها إنارة الأزقة بالمصابيح، فالكهرباء التي دخلت الموصل في عشرينيات القرن المنصرم، على ما أذكر، ولم تكن واسعة الانتشار.
أما الماء فهناك السقّاء يحمله من النهر على ظهر دابته ويفرغه في (المزمّلة) أو الزير (الحب) والأجرة أربعة فلوس يقبضها (سموعي السقّا/سقاء محلة الميدان وحوش الخان)، ولكل محلة سقّاء أو أكثر، على أن بعض البيوت فيها آبار يستقي منها أهل الدار حاجتهم من الماء، ولكن كما يقول المثل (ماي البيغ بالتدبير).
وفي الكنيسة يكون الاحتفال الذي يبدأ بشعلة الميلاد ثم يُقرأ الإنجيل وفي نهاية القداس يزدحم الناس في فناء الكنيسة ويهنئ بعضهم بعضا بالعيد: ولد المسيح.. حقا صحيح.. عيدكم مبارك.. عيدكم مبارك.
ثم نسرع إلى البيت لتناول الفطور، فالشاي جاهز مع (الكليجا) وأحيانا الباسطرمة بالبيض.. إنه فطور دسم بعد صيام تسعة أيام كما كان سابقا، واليوم هو يوم واحد فقط ليلة العيد نظرا للظروف الراهنة، ثم الانتظار بشوق غداء (اليخني) اللذيذ المعروف بمناسبة العيد السعيد! ويكون الإعداد له قبل يوم أو يومين، إذ لا تتوفر أماكن أو أجهزة للحفظ فترات طويلة كحال هذه الأيام. واليوم الثاني من العيد هو (عيد تهنئة مريم العذراء بميلاد السيد المسيح نور العالم) كما ورد في نبوءات العهد القديم عن الميلاد العجيب من عذراء بتول.. تستمر فيه الزيارات والمعايدات بين الأهل والجيران. وكذا اليوم الثالث فهو ذكرى قتل أطفال بيت لحم حسب أوامر هيرودس الملك الظالم، كما ورد ذلك في الإنجيل المقدس أيضا. هذا وتذكر التواريخ المقدسة والمعطيات التاريخية أن ولادة السيد المسيح حدثت سنة 750الرومانية وهي 4004 للخليقة وفقا للدراسات التاريخية المتداولة.
وبعد انتهاء أيام العيد الثلاثة المعروفة يبدأ التحضير لعيد رأس السنة الميلادية وهي ذكرى ختان السيد المسيح حسب شريعة موسى، وللمعلومات التاريخية أذكر أن بدء السنة الميلادية قد تغير موعده في التاريخ من تشرين الأول إلى نيسان (ومن هنا جاءت كذبة نيسان) كما يجدر القول إن حسابات التواريخ قد تغيرت عبر العصور إلى أن استقرت على الحساب الغريغوري في التقويم منذ سنة 1582 وهو التقويم المعتمد لدى دول العالم وشعوبها إلى اليوم.
هذا وإن غداء يوم عيد رأس السنة هو (القيسي/القرةزنكي) الحلوة بمذاقها وما في (المرق) من طيبات (الكبب) الخاصة بالمناسبة مع اللحم والقيسي (المشمش المجفف) والزبيب والتين و... ولا عجب في ذلك فهو (دست القيسي.. ما يكفينا!). والدست هو القدر.
أما في السادس من شهر كانون الثاني فيُحتفل بعيد عماذ السيد المسيح في نهر الأردن ويسمى (عيد الظهور (الإشراق) للعالم/الدنح) وما يزال معظم الأرمن الأرثوذكس يحتفلون بميلاد السيد المسيح وظهوره في هذا اليوم موعدا موحدا. أما طعام الغداء في عيد الدنح فكان يسمى (حامض حلو) وهي مرق اللحم مع الشلغم والكبب ويكون مذاقه حامضا، وهناك من يفضل طبخ (الكشك) في هذه المناسبة، مع (كبة الموصل المعروفة) وهي أكلة موصلية بامتياز، طالبين الدفء في المرق الساخن إذ (بين الميليد والدنح يقع شي مثل الملح).
وبعد نحو شهر يكون موعد الباعوثا ومعناها بالآرامية (الطِلبة) وهي صوم ثلاثة أيام تسبق الصوم الكبير بعشرين يوما، إنها ذكرى صوم أهل نينوى كما ورد ذلك في سفر يونان النبي في العهد القديم وغير ذلك من الثوابت التاريخية في المسيحية.
ويقع هذا الصوم سنويا أيام الإثنين والثلاثاء والأربعاء يكون فيه الانقطاع عن أكل اللحم والدسم وسائر المشتقات الحيوانية مع الصوم الطبيعي إلى المساء أو إلى الظهر، كلٌ حسب طاقته، وهناك من يطوي الأيام الثلاثة صائما إلى صباح الخميس التالي.
وفي هذه المناسبة الدينية تتوالى الصلوات والعبادات في كنائس وطننا العراق بصورة خاصة في ذكرى نينوى، جارتنا العزيزة، وتوبة أهلها بإنذار وكرازة يونان النبي.
وفي اليوم الثالث من الباعوثا يتم تحضير الحلويات وتهيئتها لهذه المناسبة (حلاوة السمسم والبقلاوة ومن السما واللوزينة) وغير ذلك، كلٌ حسب اقتداره، والتلذذ بتناولها في صباح الخميس بعد الباعوثا، كما يتبادلها مع الأقارب والجيران بالمناسبة المذكورة.
أما جمعة الموتى فهي التي تسبق الصوم الكبير، إنها ذكرى الموتى المنتقلين إلى الحياة الأبدية، تقام فيها الصلوات في جميع الكنائس من أجلهم، وكأن المناسبة عيد وذكرى عزيزة على قلوب الجميع (يقوم البعض بزيارة المقابر وقضاء النهار في ذكر الموتى والترحم عليهم ( وذلك في القرى والأرياف بصورة خاصة).
ثم يأتي بدء الصوم الكبير ويصادف كل عام يوم الإثنين (وفي ذلك حسابات ومداولات قديمة وحديثة فيما يخص العيد الكبير ليس لها اليوم معنى فالمناسبة "تذكارية" وجميع المسيحيين متفقون عليها فعلامَ الاختلاف على المواعيد؟! وما معنى هذا التاريخ أو ذاك؟ وأمامنا الكتاب المقدس يقول "ليكونوا واحدا"...) لا مجال لكلام كثير في هذا الموضوع بعد اليوم فقد ملَّه الجميع والكل يطالبون بتوحيد الأعياد وتجاوز الاختلاف على الحسابات.
أعود إلى مناسبة اليوم الأول من الصوم (الإثنين) وما ورد عن ذلك في كتاب البحاثة الموصلي المعروف (د.داؤد الجلبي) في كتابه (الآثار الآرامية في لغة الموصل العامية)، فيقول رحمه الله: "إثنين الجكّير أسم أول يوم من صوم المسيحيين الكبير، ويكون دائما يوم الاثنين عند الشرقيين، وفي أوائل الربيع، تخرج فيه النصارى للنزهة خارج المدينة ومعهم طعام الصوم للغداء بلا لحم ودسم وبلا بيض، ويخرج المسلمون ومعهم أطعمة بلحوم ودسم وبيض وكأنهم يباهون النصارى بطعامهم ويحركون اشتهاءهم بما قد أصبحوا ممتنعين عن تناوله وكانوا يقولون لهم: (أصبح القس حزين.. وي على بيض المدحدح.. وي على اللحم السمين.. فيقابلهم هؤلاء بقولهم: أصبح الملا فرحان.. كأن خش بيته الرحمن.. غدا يجيكم رمضان.. يطلّع صرمكم طويل" ((عن الكتاب المذكور ص31راجع الصورة المرفقة.)).
هذا وإن أيام آحاد الصوم فيها مناسبات ومواسم معروفة في الموصل، الأحد الرابع هو عيد (الطهرة) وهي كنيسة الدير الأعلى المعروف في التاريخ، يتوافد المسيحيون من كل مكان لزيارة مقام العذراء الطاهرة، وقضاء النهار في ربوع تلك الرياض الخضراء الفسيحة، إذ لم تكن هناك أبنية مشيدة إلى بدايات 1940، أما لاحقا فقد امتد البناء والعمار هنا وهناك وتوسعت المدينة جدا بحيث أصبحت كنيسة الطهرة داخل البلد.
أما الأحد الذي يليه، فهو موسم دير (مار كوركيس)، وهو لا يبعد عن المدينة سوى نحو ساعتين مشيا على الأقدام والطريق إليه كانت غير مبلطة في أربعينيات القرن المنصرم، تجاورها مياه نهر دجلة عند فيضانه (وذلك قبل أن يتحول مجرى النهر إلى ما هو عليه اليوم). ويشاهد في جنبات الدير وأرجائه مئات الزائرين القادمين من الموصل ومن تلكيف للصلاة وتقديم النذور، فالموسم ربيع والهواء عليل، والحقول الخضراء المزروعة تبشر بموسم خير وفير.
وتمضي أيام الصوم الكبير وهذا هو الأحد التابع فيه عيد دير (مار ميخائيل) وموقعه في نهاية (حاوي الكنيسة)، السهل الممتد على ضفة دجلة اليمنى المؤدي إلى الدير ولا يبعد عن الموصل يومذاك إلا ساعةً مشيا، هذا الدير عريق يعود تاريخه إلى الجيل الرابع الميلادي، ذو موقع رائع مشرف على النهر والسهول أمامه خضراء يانعة لابسة حلّة الربيع البهية.
يقصد المسيحيون هذا الدير للصلاة وتقديم النذور والتنزه في تلك الأرجاء الفسيحة المجاورة، على ضفاف النهر، الذي يلامس جدار الدير عند فيضانه ربيعا في تلك الأيام، وهناك آثار دير آخر بعده بقليل ما تزال حجارته متراكمة. وإن دير مار ميخائيل هذا يقابل دير مار كوركيس الواقع على الضفة اليسرى. ولا ينسى القادمون للزيارة أن يعودوا عصرا مسرعين خشية مزنة مطر ربيعية تبللهم وتروي المزروعات العطشى.
[size=32]يتبعبهنام سليم حبابهأربيل/عنكاواإثنين الصوم 12/2/2018[/size]