«صفقة القرن» تطل برأسها د. مثنى عبدالله Jul 03, 2018
مثل العقاقير المخدرة حين تُمنح بجرعات متصاعدة كي يتحمل الجسم مفعولها، تجري التسريبات عن «صفقة القرن» بين الحين والآخر، كي نتحمل مرارة طعمها ويسهل علينا ابتلاعها. فالرئيس الامريكي يعلن عن أحراز تقدم كبير في قبولها. ووسائل إعلام تحدثت عن محاولات أردنية لإدخال تعديلات عليها، وإجراء تغيير جزئي في مضمونها.
والصحافة الإسرائيلية كتبت عن اجتماع بين رئيس المخابرات الإسرائيلية ورؤساء مخابرات دول عربية لمناقشة أبعادها وتأثيراتها على الأمن القومي لهذه الدول، وقالت بأن مسؤولين كبارا مما يسمى محور الاعتدال العربي وافقوا على الصفقة. وزيارتان مهمتان لكل من مستشار الرئيس الامريكي جاريد كوشنر، ورئيس الوزراء الإسرائيلي على رأس وفد كبير إلى عمان، ثم زيارة مهمة جدا للعاهل الاردني إلى الولايات المتحدة، فيما تقول بعض المصادر الأمريكية بأن الصفقة ستعلن خلال الاسابيع المقبلة. ولدراسة الموضوع من جميع جوانبه تنبغي معرفة آراء وتصورات الأطراف الفاعلة والمفعول بها في هذه الخطة.
*أولا، ترى الولايات المتحدة الأمريكية أن الفلسطينيين منقسمون على أنفسهم ولا توجد لديهم وحدة أرض ولا قيادة. بمعنى أن حماس تحكم في غزة، وفتح تحكم في الضفة الغربية، وأن هنالك انفصالا في الجغرافية التي يسيطر عليها الطرفان. وقد صرح بذلك مستشار ترامب في زيارته الاخيرة إلى الاراضي الفلسطينية. وعليه فإنهم يتعاملون مع القضية الفلسطينية على أساس الواقع الحالي للفلسطينيين، وليس على أساس الواقع التاريخي والقانوني الثابت. أيضا ترى واشنطن أن الواقع الاقتصادي للفلسطينيين هو المحرك الأول لانتفاضتهم وعدم قبولهم بالتنازل، وبالتالي فإن التركيز على هذا الجانب من الصفقة، هو الجائزة المنتظرة لمن يبيع القضية، سواء من الفلسطينيين أو العرب، خاصة السلطتين في مصر والاردن، لذلك نرى أن مستشار ترامب رفض الحديث عن الجانب السياسي، بينما باح بالمضمون الاقتصادي، الذي يركز على ضخ أموال على مدى خمسة وعشرين عاما للضفة وغزة، مال خليجي وأمريكي وأوروبي، وإنشاء منظومة اقتصادية تربط اقتصادات بعض الدول العربية وإسرائيل، والسماح بانتقال الازدهار الاقتصادي والتكنولوجي الإسرائيلي بحرية إلى دول المنطقة. وما مطلوب الاستعجال فيه هو الضغط على حماس لتثبيت وقف إطلاق النار، الذي سيمنح الثقة لمصر وإسرائيل بالسماح لتدفق البضائع والتعامل التجاري مع غزة.
*ثانيا، في ما يتعلق بالرؤية الاسرائيلية فإنها تقبل أن تكون قرية أبو ديس، التي تبعد عن القدس حوالي أربعة كيلومترات عاصمة للفلسطينيين، وأن تتخلى عن خمسة أحياء في شرق وشمال القدس لتضم إلى الأراضي الفلسطينية. وتمهيدا لهذا الموضوع حاولت الحكومة الإسرائيلية تمرير قانون في الكنيست يسمح بضم كبرى المستوطنات الاسرائيلية الموجودة في الضفة الغربية إلى القدس، وإبعاد مناطق ذات كثافة سكانية فلسطينية من ضواحي القدس، حتى تكون هنالك كثافة كبرى للإسرائيليين. هذا يعني سعيا لتحقيق المادة الأولى من القانون الأساسي الإسرائيلي، بأن تكون القدس الموحدة عاصمة الدولة اليهودية الابدية.
*ثالثا، أما الموقف الأردني فإنه يقوم على ضرورة الحفاظ على الأمن الوطني الاردني، وأن لا تكون الصفقة على حسابه. فهو لا يتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية قومية وحسب، بل هو منخرط فيها ولديه ملفات ذات خطورة عالية على أمنه الوطني مثل اللاجئين والمياه والأمن والحدود. وهذا يتطلب أن يكون الحل على أساس الدولتين وأن تكون القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية. فعدم قيام دولة يعني بقاء المخاوف على استقرار الاردن المستقبلي من أن يكون وطنا بديلا للفلسطينيين، في ظل وجود ما يقارب 60% من التركيبة السكانية هم من أصول فلسطينية. وبالتالي هده التركيبة الديموغرافية لا تعطي صانع القرار الاردني حرية تحديد سياساته. كما أن العاصمة أبو ديس بديلا عن القدس الشرقية، ستوثر على شرعية الملك التي يستمدها من القدس، لأنه يحظى بالوصاية الهاشمية على المقدسات الدينية فيها.
*رابعا، يرى الفلسطينيون أن الامريكيين وبمساعدة بعض الأنظمة العربية ينتهجون أسلوب فرض الأمر الواقع عليهم، وأن تكون «صفقة القرن» ليست رؤية للتفاوض بل للفرض. كما أن القرارات الممهدة لها تدعم الموقف الاسرائيلي وتجعلهم في موقف ضعيف جدا بالنسبة للاسرائيليين، لأنها تصدر من الدولة الاعظم في العالم مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل. كما أن قيادات السلطة الفلسطينية بدأت تشعر بأن المراهنة على مستقبلها السياسي باتت أجندة أمريكية. وأن الأخيرة بدأت تتحرك لإحداث شرخ بين الشعب الفلسطيني وقيادته الحالية. ما يعني أن واشنطن ستطرح الصفقة ثم تتركها إلى أن يتحدد مصير السلطة في المستقبل.
كل هذه الرؤى تقود إلى الاستنتاج بأن الادارة الامريكية تعمل على تثبيت حالة التشردم السياسي الفلسطيني، والتعامل مع كل طرف على حدة، كي لا يتم الحديث بعده عن دولة فلسطينية، بل قيادات منفصلة وفي أماكن منفصلة، تمهد لقيام كيان منزوع السلاح شبيه بالدولة لكنه ليس بدولة. وكي لا يتمتع هذا الكيان بسيادة واضحة فإن السيادة الأمنية الاسرائيلية ستكون موجودة في أماكن كثيرة فيه، حيث سيكون في القدس والضفة الغربية 142 مستوطنة إسرائيلية لن يتم المساس بها، وبذلك يبقى حوالي 600 ألف مستوطن في الضفة الغربية والقدس. ومع كل هذا العدد من المستوطنات والمستوطنين، يصبح الحديث عن الحدود والسيادة شيئا مستحيلا. كما يصبح الحديث عن دولة وفق القانون الدولي مجرد هراء لعدم وجود حدود واضحة لها.
إن المشاريع الاقتصادية التي تضمنتها تسريبات الصفقة، إنما تتعامل مع القضية الفلسطينية على أنها مشكلة اقتصادية وحسب، تقود إلى تنازل الشعب الفلسطيني عن حقوقه السياسية والقانونية حين تتم تسويتها، لذا يتحدثون عن أن هنالك مشاريع اقتصادية لغزة والضفة الغربية ومالا خليجيا مقابل انتقال القدس إلى إسرائيل، من دون الحديث عن وطن مغتصب وأرض محتلة وشعب مشرد في الشتات. وهنا تنحصر المراهنة فقط على الشعب العربي في فلسطين، وأن القوة الفعلية في يده وحده. فهو من في استطاعته تمرير الصفقة من عدمها، لأن القانون الدولي وقرارات مجلس الامن الدولي تصف قطاع غزة والضفة الغربية والقدس كلها أراضي محتلة، وأن إسرائيل هي الطرف المحتل وبالتالي لا وجود شرعيا لها. وأن الشرعية التي يسعى الامريكيون وغيرهم لإضفائها عليها لن تنالها إلا بموافقة وتوقيع فلسطيني، وبه تنتهي قصة الاحتلال. هذا هو السر الدي يكمن خلف كل المشاريع والصفقات التي تطرح بين الحين والآخر على الفلسطينيين، وانشغال الولايات المتحدة بالقضية، على الرغم من أن إسرائيل تسيطر على كل شيء.
إذن قوة الفلسطينيين، رغم الضعف الظاهر، هي أنهم الطرف الوحيد الذي يملك التوقيع من عدمه، ومن يستطيع القول بلا أو نعم. ومهما مارست الولايات المتحدة وما يسمى محور الاعتدال العربي من ضغوط اقتصادية وسياسية على الاردن، فإن الاخير ليس لديه القدرة القانونية والدستورية والسياسية كي يقبل بالصفقة أو يرفضها، وهو بالتأكيد يدرك ذلك جيدا.
باحث سياسي عراقي