مسيرة الطب العدلي وروّاده في العراق ودوره في كشف الجريمة
[size=32]مسيرة الطب العدلي وروّاده في العراق [/size][size=32]ودوره في كشف الجريمة[/size]
من إعداد: أ. د. أكرم عبدالرزاق المشهداني
[size=32]الطب العدلي كما يطلق عليه في العراق او الطب الشرعي كما يطلق عليه في البلاد العربية، أو الطب القضائي، أو الطب الجنائي Forensic Medicine هو أحد الطرق العلمية التي تقود المحقق إلى كشف غموض الجريمة والتعرف على الحقائق وجمع الأدلة لكشف مرتكبي الجرائم وتقديمهم للمحاكمة. و(الطب الشرعي) هو فرع طبي تطبيقي يختص ببحث المعارف والخبرات الطبية وتطبيقها في مجالات التحقيق الجنائي، بهدف تفسير وإيضاح وحل جميع ما يتعلق بالأمور الفنية الطبية والشرعية للقضايا والمسائل التي تكون موضع المنازعة القضائية المتصلة بالجسم البشري وما قد يحصل عليه من اعتداء. [/size]
والتسمية مكوّنة من شقين: (الطب) وهو كل ما يتعلق بجسم الإنسان حيا كان أم ميتا، إذ أن الأطباء هم وحدهم القادرين والمؤهلين علميا على تقديم المشورة الطبية ذات الصلة بجسم الإنسان لذلك أنيطت بهم هذه المسؤولية، أما الشق الآخر من المصطلح (العدلي أو القضائي أو الشرعي) فلأن العدل هو الفصل في المنازعات بين الأفراد وأثبات الحقوق، ولما كانت أجهزة العدالة (من قضاء وأجهزة تحقيق وادعاء عام وشرطة) هي المختصة بإظهار الحق و كشف الجرائم وفض المنازعات والخصومات وإقامة العدل، فأنها تستعين بالطب العدلي في كل ما يؤدي الى تقديم الأدلة التي تسهم في حل غموض الجرائم. أي أن الطب الشرعي هو التخصص الطبي الذي يُسَخر العلوم الطبية لخدمة العدالة إما عن طريق الإثبات أو النفي. والطبيب العدلي هو الطبيب الذي يستعان بخبرته الطبية ومعلوماته الشرعية لخدمة العدالة عن طريق كشف غموض الجانب الطبي من القضايا التي يعرضها القضاء، ويُعد خبيراً فنياً محايداً مهما كانت جهة ارتباطه. إذن فالطب العدلي هو أحد الطرق العلمية التي تقود المحقق إلى كشف غوامض الجريمة والتعرف على الحقائق وجمع الأدلة والقرائن التي تساعده على كشف الجرائم وتقديم مرتكبيها للعدالة.
ومع تطور الجريمة أصبح اللجوء إلى الوسائل العلمية لاستخراج الأدلة والقرائن التي لا تقبل الدحض ومواجهة المجرمين بها أمراً ضروريا بل حتميا. إن زمن (الاعتراف هو سيد الأدلة) قد ولّى وحلَّ محله الدليل العلمي الذي يكون على أساسه القاضي قناعته. كما إن الاعتماد على استخراج الأدلة والقرائن بالوسائل العلمية كالطب الشرعي مثلا يضيّق من هامش الخطأ وبذلك يكون حكم العدالة صائباً ومقنعاً.
إذن فالطب الشرعي هو فرع طبي تطبيقي يختص ببحث المعارف والخبرات الطبية وتطبيقها في مجالات التحقيق الجنائي، بهدف تفسير وإيضاح وحل جميع ما يتعلق بالأمور الفنية الطبية والشرعية للقضايا والمسائل التي تكون موضع المنازعة القضائية المتصلة بالجسم البشري وما قد يحصل عليه من اعتداء. وللطب الشرعي أهمية بالغة في التأثير على القرار القضائي في المسائل الجزائية ويظهر ذلك جليا على مستويين: التكييف القانوني للوقائع، وإقامة الدليل الجنائي. فالطب الشرعي له دور كبير في تشخيص الجريمة، وفي تحديد الفعل الإجرامي ونتائجه، لذلك فإنه يؤثر بصفة مباشرة في تحريك الدعوى العمومية وعلى التكييف القانوني للوقائع ويظهر ذلك جليا في حالة الوفاة وفي الجروح بمختلف أشكالها ومسبباتها، وفي الجرائم الجنسية.
مهام الطبيب الشرعي:
وتتمثل مهمة الطبيب الشرعي في إجراء الفحوصات على الأشخاص ضحايا الاعتداءات الجسدية أو حوادث المرور أو حوادث العمل ويصدر بهم شهادات وصفية للإصابات مع تحديد مدد العجز كما يختص الطبيب الشرعي وحده بإجراء تشريح الجثث بناء على طلب السلطة المختصة وتحديد أسباب الوفاة. كما يمكن أن ينتدب الطبيب الشرعي كخبير في المسائل الفنية المرتبطة باختصاصه من طرف القضاء سواء كانت القضايا مدنية أم جزائية. بالإضافة إلى هذه المهام فإن الطبيب الشرعي يزاول مهنة التعليم والبحث العلمي.
القيمة القانونية للدليل المقدم من الطب العدلي:
وللطب الشرعي أهمية بالغة في التأثير على القرار القضائي في المسائل الجزائية ويظهر ذلك جليا على مستويين: التكييف القانوني للوقائع، وإقامة الدليل الجنائي. فالطب الشرعي له دور كبير في تشخيص الجريمة، وفي تحديد الفعل الإجرامي ونتائجه، لذلك فإنه يؤثر بصفة مباشرة في تحريك الدعوى العمومية وعلى التكييف القانوني للوقائع ويظهر ذلك جليا في حالة الوفاة وفي الجروح بمختلف أشكالها ومسبباتها، وفي الجرائم الجنسية.
وبشأن القيمة القانونية للدليل الطبي الشرعي عبر مراحل السير بالإجراءات الجزائية، فإنه يكتسب أهمية بالغة بالنظر إلى المرحلة المبكرة التي يجمع فيها (مباشرة بعد وقوع الجريمة)، ونظرا للطابع المؤقت لبعض الأدلة الطبية الشرعية القابلة للزوال أو التغير بالزمن مثلا (إجراء أخذ العينات المنوية على ثياب أو جسم الضحية أو في حالة رفع الجثة ووضعيتها وبعض الآثار الموجودة في مكان الجريمة). ويساعد الدليل الطبي الشرعي أولا على إثبات وقوع الجريمة وظروف وقوعها، وثانيا على إثبات نسبتها إلى شخص أو نفيها عنه، إضافة إلى تحديد هوية الضحية في بعض الحالات.
أما عن دور الدليل الطبي الشرعي في مرحلة التحقيق، فالمعلوم أن جهات التحقيق القضائي تتولى استغلال الأدلة التي تم جمعها على مستوى تحقيقات الشرطة القضائية مع تعزيزها بأدلة قضائية جديدة. ويلعب الدليل الطبي الشرعي دوراً هاماً في نفي الجرائم بالنسبة لأشخاص أشتبه في قيامهم بها أو تم اتهامهم بها، وبذلك فإنه يسهم في تكريس مبدأ قرينة البراءة.
أما عن الدليل الطبي الشرعي في مرحلة المحاكمة، فإن الدليل الطبي الشرعي يتعرض كغيره من الأدلة لتقديره من قبل جهات الحكم خلال التحقيق النهائي التي تخضع لمبادئ قرينة البراءة (أي الإثبات على جهة الاتهام) وحرية الإثبات والاقتناع الشخصي للقاضي. أما بشأن خضوع الدليل الطبي الشرعي إلى تقدير القاضي وحرية الإثبات، فليس على القاضي أن يتقيد وجوباً بدليل علمي معين مثلا لإثبات نسبة جريمة إلى متهم أو عدم نسبتها إليه، كما يخضع تقدير قيمة الدليل الطبي الشرعي إلى مطلق الاقتناع الشخصي للقاضي، وعدم تقييد القضاة إلا بما قد تحدثه في إدراكهم أدلة الإثبات وأدلة النفي وعلى مدى توفر الاقتناع لديهم بالأدلة المقدمة. إن للطب العدلي أو الشرعي دوراً لا يستهان به في كشف غموض الجرائم ومساعدة اجهزة التحقيق لفك طلاسم الجريمة.
مهام الطبيب العدلي في كشف الحوادث:
الطبيب العدلي هو أحد أهم عناصر كشف غموض الجرائم لما يقدمه من معلومات الى جهة التحقيق فيما يتصل بـفحص وتشريح جثث الموتى وإعطاء الرأي الفني في سبب الوفاة وما أذا كانت الوفاة طبيعية أم جنائية، وفحص جسم المشتبه بهم وبيان الجواب بصدد استيضاحات جهة التحقيق عن سبب الجروح والعلامات الظاهرة والخفية، للوفاة او الإصابة أو الجروح، وكذلك فحص مخلفات مسرح الجريمة مثل البقع الدموية والمنوية واللعابية وفحص الشعر والألياف والملابس وآثار البارود وآثار تهشم الزجاج، وفحص بصمة الحامض النووي أو ما يطلق عليه الـ DNA وفحص السموم والمواد المخدرة. ولا يتعامل الطب العدلي مع جثث الموتى فحسب وإنما يقوم بفحص الأحياء لأثبات حقيقة وأسباب الجروح والحروق والإصابات والاعتداءات الجنسية، وكذلك تقدير العمر, واثبات حالات التسمم والكحول والمخدرات، وأثبات البنوة بواسطة العلامات الوراثية وبصمة الحامض النووي، وكذا فحص حالات الانتحار والحوادث المختلفة وهو يتعرض لحالات الرضوض والسموم المختلفة التي تتراوح نتائجها بين الموت والعجز الوظيفي الدائم والأذى القابل للشفاء، كما تشمل مواضيعه طيفاً واسعاً من حالات حوادث العمل والأمراض المهنية وحوادث السير والحوادث الطارئة بشكل عام والمشاكل الجنسية وتقييم المرضى العقليين وتقدير العمر وتحديد الهوية وفحص الجبر والشدة عند الموقوفين وفحص الجروح بأنواعها وتحديد المسؤولية الطبية في حالات الإهمال وسوء الممارسة في السلك الطبي إلى جانب فحص الوفيات وتشريح الجثة في حالات الموت المفاجئ والمشبوه … إلخ
الطب العدلي في العراق، تأريخ حافل وهو من أقدم الأجهزة العربية:
ويعد الطب العدلي في العراق من أقدم أجهزة الطب الشرعي في الوطن العربي والمنطقة وكان وما زال لخبرائه وأطبائه المرموقين دور بارز في إسناد أجهزة العدالة وكشف غموض الحوادث وتقديم الخبرة والمشورة الطبية الجنائية ونذكر منهم بالإجلال والاحترام المرحوم الدكتور حنا خياط والمرحوم الدكتور أحمد عزت القيسي والمرحوم الدكتور وصفي محمد، والمرحوم الدكتور خالد عبدالرحمن الزبيدي والصديق العزيز الدكتور فائق منير بكر ومن جاء بعدهم من الأطباء العدليين العراقيين، ممن ما زالوا في عطاء متواصل يواصلون مسيرة من سبقهم لخدمة العدالة ويستحقون كل التقدير والتحية. ولقد تصدى الطب العدلي في العراق للعديد من الحوادث الجنائية الهامة على مدى تاريخه الحافل بسبب ثبوت حياديته والتزامه بالأخلاق المهنية.
ومن المعلوم أن بعض أجهزة الطب العدلي في العالم تتبع وزارة العدل وأخرى تتبع الداخلية أو الشرطة، وفي دول أخرى تتبع الجامعات كهيئة خبرة استشارية تلحق بكليات الطب، في حين أنها في أقطار أخرى تتبع وزارة الصحة، وقد كان (معهد الطب العدلي) في العراق عند تأسيسه أوائل العشرينات مرتبطا بمديرية الشرطة العامة في وزارة الداخلية، وبعد سنوات تم ربطه بوزارة العدل، بعدها تم ربطه بوزارة الصحة، ومهما كان ارتباطه فأن الطبيب العدلي يجب أن يضع في اعتباره الحياد وأنه يعمل من أجل العدالة وأن مسألة تبعيته لجهة معينة هي تبعية إدارية تنظيمية لا أكثر إذ لا سلطان على الطبيب العدلي غير ضميره الشخصي وخبرته المهنية.
منذ تأسيس كلية الطب العراقية في تشرين الثاني عام 1927 والتي كانت تسمى آنذاك بالكلية الطبية الملكية العراقية كونها الكلية الطبية الأولى والوحيدة في العراق، كان لمادة الباثولوجي والطب العدلي حضور واهتمام في خطة الدراسة، فقد ابتدئ بتدريس الباثولوجي عام 1929 على يد التدريسيين كل من الأستاذ البريطاني ميلز (الباثولوجي النظري)، والأستاذ الدكتور شوكت الزهاوي (الباثولوجي العملي). كما ابتدئ بتدريس الطب العدلي عام 1930 لطلبة الصف الرابع وكان اول مدرس وكان أول مدرس للجانب النظري أ.د. حنا الخياط (وهو أول عميد عراقي لكلية الطب كما كان أول وزير صحة في العراق)، أما الجانب العملي والباثولوجي التشريحي فكان يدرسه الدكتور آكوب جوباتيان في عام 1932 عاد الى العراق أ. د. أحمد عزت القيسي بعد حصوله على شهادة الاختصاص في الطب العدلي (وهو أول طبيب عراقي يحصل على مثل هذه الشهادة) وعلى يديه تأسس معهد الطب العدلي في بغداد (التابع الى وزارة الصحة حالياً وشعبة الطب العدلي في كلية طب بغداد). وبعد ذلك توالى عدد من الأساتذة تدريس هذه المادة الحيوية، منهم الأستاذ الدكتور عبد الرحمن عبد الغني والأستاذ الدكتور يوسف عقراوي وكانا أيضاً من أوائل رؤساء الفرع آنذاك، وكذلك الاستاذ الدكتور (عبد الصاحب علش).