جدار برلين: ما الذي تبقى من مخيّلة تناهبتها اليوتوبيات؟
منذ 44 دقيقة
صبحي حديدي
0
حجم الخط
دشنت ألمانيا، ومدينة برلين تحديداً، سلسلة أنشطة احتفالية سوف تمتد على العام 2019، احتفاء بالذكرى الثلاثين لهدم جدار الفصل الشهير؛ حيث يتمّ التوقف عند محطتين في تاريخه، على وجه الخصوص: 13 آب (أغسطس)، يوم الشروع رسمياً في تشييده، سنة 1961؛ و9 تشرين الثاني (نوفمبر)، يوم إسقاطه شعبياً، سنة 1989. وسواء اختار المرء ثفة «جدار الحماية من الفاشية»، حسب سلطات المانيا الشرقية؛ أو «جدار العار»، حسب تسمية فيلي براندت مستشار ألمانيا الغربية الأسبق؛ فإنّ الحدث جدير بالإحياء، بوصفه برهة فارقة في تاريخ البلد، والعالم، والعلاقات الدولية كما تواصلت طوال عقود وعُرفت وعُرّفت بـ»الحرب الباردة».
هنالك، غنيّ عن القول، عشرات المؤلفات التي تناولت الحدث، سواء من زاوية التبشير بالنهايات (الشيوعية، الايديولوجيا، التاريخ…)؛ أو الانتصارات، مقابل الهزائم (الرأسمالية/ اقتصاد السوق، الاشتراكية/ اقتصاد الدولة، المعسكر الحرّ/ المعسكر الاشتراكي…)؛ أو المنزلة بين الأقصيَيْن، حيث «الانتصار» بداية مأزق، و«الهزيمة» عتبة نهوض. ومن جانبي أسجّل أفضلية خاصة لكتاب الأمريكية سوزان بك ــ مورس، أستاذة الفلسفة السياسية والنظرية الاجتماعية في جامعة كورنيل، الذي صدر سنة 2000 بعنوان «عالم الحلم والفاجعة: وفاة اليوتوبيا الجماهيرية في الشرق والغرب»؛ الذي يساجل بأنّ دلالات سقوط الجدار، وبالتالي طيّ صفحة الحرب الباردة، لا تقتصر على مفاعيل السياسة الأوروبية والعالمية وحدها، لأنها إنما تتضمن أيضاً تقويض كامل مفهوم العالم، على الضفتين: ابتداءً من الأنساق الثقافية، وانتهاءً بـ»اشتراكية الدولة» و»رأسمالية الديمقراطية».
المرء، في هذا الصدد، يستعيد نكتة روسية، لاذعة وتوحي بالصواب عملياً: «كلّ ما قاله الشيوعيون عن الشيوعية كان كاذباً، ولكن كلّ ما قالوه عن الرأسمالية اتضح أنه الحقيقة»! وكان المخيال الشعبي في روسيا، وربما في سائر دول «المعسكر الاشتراكي» سابقاً، قد ابتدع هذه المعادلة بعد أن ذاق ويلات اقتصاد السوق، خاصة في ظلال العولمة الوحشية؛ فأجرى مقارنات لا تتقرى الحنين إلى أشباح الماضي، بقدر ما تتخوّف من كوابيس المستقبل. خلاصة أخرى يوفّرها استطلاع رأي ألماني يشير إلى التالي: بينما يعتقد 75% من قاطني ألمانيا الشرقية، سابقاً، أنّ توحيد البلد كان ناجحاً؛ لا يرى هذا الرأي إلا 50% من سكان ألمانيا الغربية، سابقاً أيضاً بالطبع؛ الأمر الذي يعني أوّلاً أنّ التوحيد ليس ناجزاً بعد، أو ليس كافياً، أو هو ناقص بمعدّل 25% على الأقلّ!
لكنّ عام الجدار هذا يظلّ، ربما في المقام الأوّل، تذكرة بإطار الحدث الأعرض، أو المناخ العام الكوني الذي أقام الجدار لكي يسقطه بعد أقلّ من ثلاثة عقود؛ أي الحرب الباردة، أو «حرب المخيّلة» حسب ماري كالدور، الباحثة البريطانية المرموقة المختصة بالعلاقات الدولية وسياسات التسلّح. ذلك لأنّ فريقَي تلك الحرب، التي ظلّت افتراضية بالطبع، ولحسن حظّ البشرية، لم يكونا بصدد التحضير لمواجهة عسكرية فعلية تردع الطرف الخصم؛ واكتفيا بالترويج لها في نطاق المخيّلة، وعن طريق تضخيم الإحساس بأنها استمرار للحرب العالمية الثانية التي لم تنتهِ بعد، حتى إذا كانت قد وضعت أوزارها. مخيّلة ظلت باردة، على غرار الحرب التي تستثيرها، وبصرف النظر عن مقادير الغليان في قاموسها اللفظي.
- اقتباس :
- دلالات سقوط الجدار، وبالتالي طيّ صفحة الحرب الباردة، لا تقتصر على مفاعيل السياسة الأوروبية والعالمية وحدها، لأنها إنما تتضمن أيضاً تقويض كامل مفهوم العالم، على الضفتين
وفي موازاة «اليوتوبيا الجماهيرية» التي نَعَتها بك ــ موريس، ذات التوجّه اليساري أو حتى الماركسي، للإيضاح المفيد هنا؛ كان الفيلسوف السياسي البريطاني جون غراي (اليميني عموماً، على سبيل الإيضاح المفيد إياه)، قد نعى يوتوبيا من طراز آخر، في كتابه «الفجر الزائف: ضلال رأسمالية العولمة». ولقد اعتبر أنّ الديمقراطية واقتصاد السوق في حال تنافس، وليستا البتة في حال شراكة؛ وتجارب اقتصاد السوق القديمة والحديثة برهنت ــ في أوقات التأزم خصوصاً ــ على سطوة الدولة أكثر من سطوة السوق، وعلى خضوع اليوتوبيا للسياسة الواقعية (الـ Realpoitik في عبارة أوضح) التي تفرضها المصالح والأجندات السرّية، وليس الاستثمار والتنافس الحرّ وقوانين الأسواق. غنيّ عن القول إنّ هذا لم يكن رأي القائلين بأنّ انتصار القِيَم الغربية ساعة سقوط جدار برلين (أو لاحقاً: ساعة سقوط بغداد تحت الاحتلال الأمريكي!) هو في الآن ذاته انتصار لليوتوبيا الوحيدة المتبقية في حوزة الإنسانية: اليوتوبيا العليا والقصوى والأخيرة، الآتية على هيئة خاتم البشر كما بشّر به فرنسيس فوكوياما، واليوتوبيا التي يُراد لنا أن نسلّم بخلوّها تماماً من الأزمات والهزّات والتشوّهات.
غير أنّ ألمانيا الراهنة، ومدينة برلين خاصة هنا أيضاً، معنية باستذكار حقيقة أخرى كبرى ذات صلة بالجدار، وغير منقطعة الصلة عن يوتوبياته المختلفة: أنّ سبب إنشائه لم يكن حجز حرّية أهل برلين الشرقية في الانتقال إلى برلين الغربية، إذْ كان الآلاف من هؤلاء يعبرون الحواجز كلّ صباح للعمل، والعودة مساء إلى بيوتهم. في عبارة أخرى، كان أوّل أسباب إقامة الجدار (والبعض يقول: السبب الرئيسي) هو الحدّ من استنزاف سوق العمل الألمانية الشرقية، والجهد المنظّم لاستمالة أفضل الخبرات العلمية والتكنولوجية على نحو مسبق ومدروس تحت إشراف المخابرات المركزية الأمريكية؛ سيما وأنّ برلين الغربية كانت وكراً لأنشطة مكثفة مارستها استخبارات فرنسية وبريطانية وأمريكية، إلى جانب الألمانية.
ولقد شهدت صحيفة «نيويورك تايمز» ذاتها على هذه الحقيقة حين نشرت، يوم 27/6/1963، أنّ «برلين الغربية عانت من مشكلة اقتصادية بسبب الجدار، إذْ خسرت 60 ألف عامل ماهر كانوا يتدفقون كلّ يوم من بيوتهم في برلين الشرقية إلى أماكن عملهم في برلين الغربية». واليوم انكشفت تلك الوقائع المخزية حول عمليات تلك الأجهزة الاستخباراتية الغربية، والأمريكية منها في الطليعة، بهدف زعزعة الأنظمة في أوروبا الشرقية: نسف محطات توليد الكهرباء والمصانع وأرصفة السفن والمنشآت العامة ومحطات الوقود والمواصلات العامة والجسور، وتسميم سبعة آلاف بقرة في تعاونية لإنتاج الحليب والألبان، وإضافة الحساء إلى حليب الأطفال في المدارس، ومحاولة تسميم السجائر بمادّة الكانثاريدين، والسعي إلى تخريب مهرجان الشبان العالمي عن طريق إرسال دعوات وبطاقات سفر مزيفة وتنفيذ أعمال تفجير في أرجاء المهرجان…
وفي نهاية المطاف، هل اختارت دول أوروبا الشرقية الانضمام إلى «المعسكر الاشتراكي»، حقاً؛ أم أنّ ذلك المعسكر تأسس أصلاً بحكم الضرورة، بعد أن كان أدولف هتلر قد حوّل تلك الدول إلى طرقات فسيحة زحفت عليها قوّات الرايخ الثالث لاجتياح الاتحاد السوفييتي، بعلم وتواطؤ الديمقراطيات الغربية؟ ألا يقول مؤرّخون غربيون، بحقّ، إنّ موسكو في مؤتمر يالطا، الذي شهد تقاسم النفوذ العالمي بين القوى العظمى، تسامحت قليلاً مع الغرب وكان في وسع السوفييت أن يقضموا أكثر؟
واليوم، على أعتاب اختتام عقدين من القرن الجديد، في عهود أمثال دونالد ترامب وبوريس جونسون، ألا ينذرنا المعلّق الأمريكي الشهير توماس فريدمان بأمر جلل بالغ الخطورة، كنّا ــ كما يلوح في ناظره ــ غافلين عنه: أنّ عالم ما بعد الحرب الباردة ليس أحادي القطب (حيث أمريكا هي القوّة الكونية الأعظم والأوحد)، بل متعدّد الأقطاب (وحدّثْ عن أسمائها وأعدادها وجغرافياتها وقواها، ولا حرج!)؛ وأنّ النفوذ الأمريكي في السياسة الدولية لا يتراخى وينحسر فحسب، بل باتت واشنطن عاجزة حتى عن علاج صغرى أزمات الكون وأدناها شأناً.
فما الذي، والحال هذه، يتبقى من دلالات معاصرة راهنة، حول مخيّلة جدار تناهبته اليوتوبيات من كلّ حدب وصوب!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس