العالم هدم جدار برلين ليعيش وراء ٧٤ جدارا
الحلم بوجود عالم دون حواجز أمر مستحيل
العرب/نيويورك - تحول سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989 مع نهايات الحرب الباردة إلى واحد من أكبر الخدع في التاريخ. فقد كان الشائع في حينه أن عالم ما بعد انهيار الجدار سيكون أكثر انفتاحا، ولكن ما حدث هو أن عالم ما بعد الحرب الباردة أصبح أسيرا للعشرات من الجدران والأسوار.
وأحدث مثال على ذلك السياج الحدودي بين إسرائيل وقطاع غزة والذي شهد هجوما فلسطينيا مسلحا ضخما يوم 7 أكتوبر الماضي أسفر عن سقوط أكبر عدد من القتلى في صفوف الإسرائيليين منذ المحرقة.
وقد يكون لهتاف “اهدموا هذا الجدار” صداه الجذاب في مكان وزمان معينين. لكن الأشد إثارة حاليا هو أن أقوى أنصار العولمة هم الذين يقولون اليوم “أقيموا هذا الجدار واجعلوه منيعا” باعتباره قد يكون طريقا جيدا للمستقبل.
وبحسب إليزابيث فاليت الأستاذة في جامعة كيبك الكندية فإن العالم اليوم يضم حوالي 74 جدارا حدوديا بين الدول، وهو ما يعادل 6 أمثال عدد الجدران الحدودية التي كانت موجودة أثناء الحرب الباردة.
ويبلغ إجمالي أطوال الجدران أكثر من 20 ألف ميل. ويعتبر الجدار الحدودي بين المملكة العربية السعودية والعراق بطول 560 ميلا من أشد الجدران تعقيدا.
وهناك أيضا الجدار العالمي الممتد بطول 2000 ميل بين الهند وباكستان، والذي يتكون من سلسلة مزدوجة من الأسلاك الشائكة ومدعوم بخندق طوله 400 ميل وعرضه 14 قدما وعمقه 11 قدما ومزود بألف حصن ونقطة حدودية.
وعلى عكس سور الصين العظيم، فإنه يمكن رؤية سور باكستان العظيم من الفضاء بفضل الأضواء الكاشفة الدائمة على امتداد السور. ومقارنة بالعملاقين، فإن “الجدار الحديدي” الإسرائيلي مع غزة يبدو أقصر وأقل تعقيدا.
وفي كتابه الجديد “عصر الحراسة: الحصون في القرن الحادي والعشرين” أشار البروفيسور ديفيد بيتس الأستاذ في جامعة كينغز كوليدج البريطانية إلى أن الجدران مجرد جزء من عملية ناشئة لبناء الحصون والحواجز في مختلف أنحاء الكوكب.
وبعض الجدران يأتي من عالم الخيال العلمي مثل القبة الحديدية الإسرائيلية باعتبارها حائطا افتراضيا للدفاع الجوي في السماء يتكون من سلسلة من أجهزة الرادار والصواريخ الاعتراضية، وبعض الجدران يعود إلى العصور الوسطى.
وفي حين حظيت بعض التحصينات بتغطية إعلامية صاخبة، مثل جدار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب المثير للجدل على الحدود مع المكسيك، تم بناء بعضها خلسة، كما حدث عندما أقامت تركيا جدارا خرسانيا بطول 475 ميلاً على طول حدودها مع سوريا، وقام الرئيس الصيني شي جينبينغ ببناء “سور الصين العظيم الجنوبي” وهو جديد كجزء من إستراتيجية “التخفيف من آثار فايروس كورونا”، كما أن بعض التحصينات مرئية بشكل متعمد، كتلك الأسلاك الشائكة التي تحيط بالعديد من المباني العامة أو المنازل الخاصة في بلدان مثل جنوب أفريقيا، والكثير منها أقل وضوحا، حيث تمتلئ المدن الكبرى بالحواجز الخرسانية والحواجز القوية للتخفيف من تأثيرات اصطدام السيارات.
وإذا كانت بعض الحواجز في العالم تقام لأسباب تتجاوز مواجهة العدائيات القومية، فهناك ثلاثة عناصر أخرى تؤثر عليها. إذ يستهدف تحصين الحدود منع تسلل المهاجرين غير الشرعيين أو الأجانب المعادين. وفي حين أن ترامب كان يتباهى بحبه للجدران، فإن الكثيرين من أكثر بناة الجدران نجاحا كانوا يتحدثون عن العكس، كما هو الحال مع الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يبني جدارا في وادي ريو غراندي، رغم إعلانه العداء والرفض لجدار ترامب على حدود المكسيك.
وفي الوقت نفسه فإن تزايد خطر التهديدات الإرهابية دفع بالتحصينات إلى قلب المدن الكبرى، لكن مع الحرص على ألا تكون التحصينات مرئية بالدرجة التي تجعلها مزعجة وتظهر المدن وكأنها مناطق حرب، لكنها كافية للتعامل مع احتمال أن تكون أي سيارة أو حقيبة ظهر سلاحا في يد الإرهابيين. كما أن الخوف من الفوضى يعتبر أحد أسباب انتشار حمى الجدران والتحصينات.
ويقول وولدريدج مؤلف كتاب “أرستقراطية الموهبة: كيف صنعت الجدران العالم الجديد” إن الحجة المثالية تقول إن الكثير من المتحمسين في معارضة الجدران من الناحية النظرية، انتهى بهم المطاف ببناء المزيد منها في الواقع. فالأوربيون يقيمون الجدران حول حدودهم لوقف تدفق المهاجرين، وبخاصة منذ الزيادة الكبيرة في أعداد هؤلاء في 2016، وكذلك بابا الفاتيكان الذي يعيش في مدينة مسورة بما سماه ترامب “أكبر جدار على الإطلاق”. علاوة على ذلك لا يوجد تعارض بين بناء الجدران وإقامة الجسور.
وفي المقابل فإن الحجة الواقعية أكثر جدية. ويشير الواقعيون إلى أنه يجب عدم الاعتماد المطلق على الجدار. ويجب أن تربط الجدران بإستراتيجيات أخرى، من الدبلوماسية إلى الضربات الوقائية. لكن منطق الموقف الواقعي يمكن أن يشير بنفس القدر من الأهمية إلى ضرورة بناء الجدران بشكل جيد مع ضرورة تزويدها بالموظفين الأكفاء، حيث أظهر فشل الإستراتيجية التي اعتمدت على الأجهزة الإلكترونية بدلا من العنصر البشري في مراقبة السياج العازل مع غزة مما أدى إلى نجاح الهجمات الفلسطينية يوم 7 أكتوبر الماضي.
وأخيرا يمكن القول إن حلم وجود عالم بلا حواجز أمر مستحيل. وكلما تطورت وسائل النقل والاتصالات زادت الحاجة إلى تطوير ضمانات لمنع الناس من إساءة استخدام وسائل التنقل. ولم يعد التحدي الأكبر في وقتنا الراهن هو التخلص من الجدران، وإنما تحقيق أفضل مزيج بين الجدران والجسور، حتى تتحقق أفضل صورة للعولمة مع الحد من آثارها الجانبية.