العراق… فجر نهار وحشي في مدينة الناصرية
منذ 5 ساعات
مثنى عبد الله
2
حجم الخط
استيقظ…استيقظ…أمٌ تصرخ فوق جثة ابنها المُمدد على عربة الاسعاف، وحين يُكشف عن وجهه يبدو مرتديا قميصا كتبت عليه عبارة (نريد وطن) … شوارع تحولت إلى أنهار من الدماء…صور الشهداء غطت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تتساءل عمن يعرف هذا وهذا وذاك من الشباب القتلى. فيأتي الجواب سريعا هذا ابني، وهذا أخي، وذاك ابن عمي … تنهمر الدموع على أشخاص لم نلتق بهم قط، في حين يطبق صمتٌ عميق ومديد، حتى نستطيع أن نلمس بأيدينا حرارة دموعه، في كل ساحات التظاهر إجلالا لمن رحلوا. نبحث في هذا الصمت عن فرصة للتشكل من جديد بعد كل التلوث المجتمعي الذي حاولوا نشره بيننا. فحالة التضحية من أجل المجموع تدفع للبحث في هذا المعنى اللامتناهي عن ذواتنا علنا نعود إلى حالتنا البكر، بعد أن نترك أنفسنا برهة أمام الحقيقة كي تجلي الصدأ الذي أصابها. حالة الموت من أجل الوطن تبقى تحفر في ذاكرة الجميع حتى يتفجر النقاء الروحي، الذي ينطلق سخيا بدون حدود. حينها نعرف من خلال المعاناة أننا شعب واحد في وطن واحد، بعد أن حاولوا أن يجعلونا نشعر بأننا غرباء محشورون في مكان موحش، أشبه بمحطة وصلنا إليها مكرهين بدون موعد، فبتنا لانرى الحياة إلا كشيء مؤقت، وأن كل ما فيها هش قابل للانكسار في أي لحظة، فتراجعت أحلامنا وذابت في خضم هذا الشعور القاسي كجدار من الإسمنت .
فجر الخميس الماضي 28 تشرين الثاني/ نوفمبر أبى المجرمون من دهاقنة العملية السياسية في العراق، إلا أن تكون بواكير هذا اليوم جريمة بشعة أخرى تضاف إلى سجل جرائمهم. فعلى جسر الزيتون في مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار، تقدمت آليات عسكرية ضخمة لإزالة خيم المتظاهرين، وعندما تصدى لها الشباب فتحت القوات العسكرية نيران أسلحتها عليهم ، حيث كانوا قد اتخذوا من جسر الزيتون منصة لحراكهم ونصبوا عليه خيامهم. ومن تسنى له مشاهدة بعض اللقطات المنشورة يستطيع أن يرى بوضوح نزول العشرات من العناصر المدججين بالأسلحة، وهم يصوبون بنادقهم بشكل مباشر ضد المنتفضين، متقدمين نحوهم بسرعة وكأنها عملية التحام مع العدو في أرض المعركة، وليس مع متظاهرين سلميين عُزّل من أي سلاح أبيض أو أسود. فيُقتل بدم بارد أكثر من 40 شابا ويُجرح المئات منهم في أبشع مجزرة مروعة ضد شباب أبرياء. وأمام هذا الحدث الجلل لم تجد الحكومة غير أعلان حظر التجوال لإخفاء جريمتها القذرة. ومع انتشار خبر الجريمة تجمّع أهالي الشهداء أمام مقر الفرقة العسكرية التي ارتكبت الحادث وقاموا بحرق المقر. كما تداعت عشائر المحافظة وهددت بحمل السلاح ضد القوات الحكومية إن دخلت المحافظة، فيما شارك الآلاف في تشييع جثامين الشهداء .
- اقتباس :
- نعرف من خلال المعاناة أننا شعب واحد في وطن واحد بعد أن حاولوا أن يجعلونا نشعر بأننا غرباء محشورون في مكان موحش
لقد شكل هذا الحادث محطة مهمة من محطات حالة الصراع المفتوح بين الرهان الحكومي على إنهاء الانتفاضة أو احتوائها، وتصميم المتظاهرين على الأولويات الوطنية واستعادة الدولة وإعادة بنائها من جديد، بينما الأجندة الحكومية قائمة على أساس الحل الأمني وتخوين المنتفضين واتهامهم بالعمالة لإسرائيل وأمريكا واختطاف الناشطين البارزين وتغيبهم أو قتلهم. وهذه كلها من توصيات المرشد الأعلى في طهران، في الاجتماع الذي جرى في الحادي والعشرين من الشهر الماضي، مع بعض زعماء الميلييشيات. في حين كانت ومازالت أجندة المنتفضين البحث عن وطن بعيدا عن أجندة النهب والسلب والفساد، ودولة تمارس دورها الحضاري تجاه شعبها وتجاه العالم بعيدا عن مصطلح الدولة الفاشلة. وإذا كانت الخسارة الناتجة عن هذا الحادث كبيرة ولا تعوض بالنسبة لعوائل الشهداء وللوطن، فإنها في الوقت نفسه قد حرّكت الوعي لدى الكثيرين ممن مازالوا مترددين إزاء المشاركة في الانتفاضة، خاصة في المحافظات الشمالية والغربية، ليدركوا بأن هذا الوطن لايمكن أن يعود معافى إلا بجهود الجميع .
ولقد كان الصوت النسائي الذي انطلق من أمام مستشفى الناصرية، الذي غص بالشهداء والجرحى، وهي تهزج منتخية بابن الأنبار كي يفزع للناصرية ويقف معها في وجه الطغاة، كان أكبر دليل على نجاح الانتفاضة الشعبية في إحداث مواجهة بين ثقافة المواطنة وثقافة الطائفية السياسية، وأعلان ضخم على أن الستة عشر عاما الماضية من المعاناة والتجارب المريرة والقاسية، والتبشير بالطائفية والاثنية على أنهما هما الحل الأمثل في العراق، كلها تحديات دفعت بالوطنية العراقية للبروز من جديد، بعد أن حرص النظام السياسي الطائفي والاثني في بغداد والاحتلالين الأمريكي والإيراني، على جعلها هامشية مقارنة بالعصبيات والولاءات الأخرى .
وإذا كانت المجزرة التي حدثت في الناصرية، قد أسقطت تعنت القوى الداخلية والخارجية التي كانت متمسكة برئيس الوزراء عادل عبد المهدي، فسقط غير مأسوفا عليه فإن هذا الحدث السياسي لم يكن عفويا بل كان محسوبا من قبل هذه القوى، فهي، ومنذ البداية، لم تكن أبدا جادة في تلبية مطالب المتظاهرين، بل وضعت خطة لإنهاء الانتفاضة بحد أدنى من الإصلاحات. وربما تكون استقالة عادل عبدالمهدي طُعما يُلقى أمام المنتفضين للقول، ها قد استجبنا لطلبكم بإقالة رئيس الوزراء فرحل، وما عليكم اليوم إلا العودة إلى بيوتكم. وهنا يصبح من الواجب التأكيد الواضح بأن رئيس الوزراء الأخير وكل أسلافه، منذ العام 2005 وحتى اليوم، هم أبناء بررة لمنظومة سياسية واحدة. ربما أضاف كل واحد منهم شيئا من صفاته الشخصية على سلوكه السياسي اليومي، لكن السلوك السياسي العام والتفصيلي كان هو القاسم المشترك الأعظم بينهم، لأنه سلوك مرسوم من قبل منظومة سياسية واحدة هي العملية السياسية، مما يعني بأن ذهاب هذا الشخص وقدوم آخر مكانه هو لعبة سياسية هدفها التنصل من المطاليب الجماهيرية، التي لخصها الشباب بزوال المنظومة السياسية بشكل كلي لا لبس فيه .
إن دماء الشباب المنتفضين التي سالت على جسر الزيتون في الناصرية وفي ساحات التظاهر في بغداد ومدن الجنوب كلها خاصة، ومدن العراق بشكل عام، يجب أن يكون لها ثمن غال تدفعه الطغمة الفاسدة التي تسلطت على البلاد، وأذاقت العباد شتى صنوف الذل والهوان. لقد خطفت العراق كدولة ورهنت مصير شعبه لأمريكا وإيران وغيرهما على مدى أكثر من ستة عشر عاما، ومازالت تغتال أحلام وطموحات الشباب الحالم بحياة كريمة في ظل وطن مستقل، بالرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع التي تخترق جماجمهم في كل يوم. وعسى أن يخترق عقول وقلوب الذين مازالوا صامتين في المحافظات الشمالية والغربية صوت ابنة الناصرية البطلة، وهي تناديهم باللهجة الجنوبية (وين ابن الرمادي يفزع إلنه) .
باحث سياسي عراقي