هل أصبحت مُعاناة العراقيين قصّة لا تنتهي؟ وهل بإمكان الشباب المُنتفض تعديل الأمور والتأثير على الانتخابات القادمة؟
د.سعد ناجي جواد
هل أصبحت مُعاناة العراقيين قصّة لا تنتهي؟ وهل بإمكان الشباب المُنتفض تعديل الأمور والتأثير على الانتخابات القادمة؟
قبل يومين تسلمت رسالتين مختلفتين، الاولى من صديق عزيز في بغداد يقول لي فيها بالحرف الواحد (البلد تسيره قدرة الله عز وجل..لاننا في غابة وتيه..لا توجد مقومات الحياة الانسانية.. نحن ننزلق نحو المجهول والله الساتر). علما بان هذا الصديق كان من مؤيدي التغيير ومن الفرحين به. اما الرسالة الثانية من صديق اخر يعيش خارج العراق عتب عليَّ فيها كثرة انتقادي للاوضاع، وكرر عليّ عبارة (يا اخي اعطهم بعض الوقت لينفذوا ما وعدوا به).
لقد حرصت في كل احاديثي وكتاباتي المتواضعة على ان لا احكم على اي مسؤول جديد الا بعد ان يبدا باتخاذ قراراته. وبالنسبة الى من يتسنم منصب رئيس الوزراء كنت اردد دائما ان المعيار الاهم لديَّ هو الاشخاص الذين سيختارهم كوزراء في جهازه التنفيذي، ومدى نظافة يدهم وقدرتهم على التصدي للمشاكل الكثيرة التي تعاني منها البلاد. بكلمة اخرى ان الانتقاد لا ياتي الا بعد ان يظهر للعيان ان هناك استمرارا في نهج الاعتماد على غير الكفوئين والفاسدين والتمسك بهم حتى عندما يثبت تورطهم في عمليات فساد كبيرة، او اعطائهم وعودا كاذبة للمواطنين. وهذا الامر بالتاكيد لا يتعلق بالشهادة التي يحملها المسؤول او الى اي مكون او كتلة ينتمي. ومسالة اختيار الوزراء في العراق مسالة دقيقة وحساسة لان الذين يتم اختيارهم من قبل اي رئيس وزراء لا يمكن له ان يقيلهم حتى وان ثبت له فسادهم او فشلهم، وانما هذا الامر يبقى من صلاحية مجلس النواب، ولهذا فان الوزراء تعلموا كيف يرضون الكتل المتنفذة في المجلس لكي تحميهم من الاقالة عندما تفوح رائحة فسادهم او عجزهم عن القيام بمهامهم، هذا اذا لم يكونوا هم اساسا من مرشحي هذه الكتل لكي يسخروا موارد الوزرات التي يديرونها لصالح تلك الكتل، مع نسبة لاباس بها لجيوبهم الخاصة.
من ناحية اخرى فان الامر الذي يقيد او يمنع عملية انتقاد المسؤول هو مدى صدقه وتمسكه بالوعود التي يلزم نفسه بها او القرارات التي يتخذها.
كمثل اخير عما يجري، (غير الحالات الكارثية السابقة مثل احتلال الموصل وغرق العبارة فيها وسوء الخدمات الخ)، فانه لما حدثت كارثة مستشفى ابن الخطيب الانسانية (2021/4/25) ظهر السيد رئيس الوزراء وبادر مسرعا الى تشكيل (لجنة تحقيقية) مطالبا اياها ان تقدم تقريرها خلال خمسة ايام حصرا، كما وجه وزير النقل (باتخاذ ما يلزم فورا لنقل المصابين الى الخارج للعلاج). وها قد مر اكثر من اسبوع ولم نعلم ماهي نتائج تحقيقات هذه اللجنة، ولم نسمع بنقل مصاب واحد الى الخارج للعلاج ولا الى بلد نقلوا. وهذه الحالات المتكررة منذ عام 2003 كافية لتبرير انتقاد اداء الادارات التي حكمت وتحكمت بعد ذلك التاريخ.
الامر الاكثر ايلاما يتمثل في الهجمات المضادة التي تشنها الجهات التي ترعى وتتبنى وتحمي الفساد والفاسدين، او بكيفية تعامل المسؤولين مع الكوارث التي تحصد ارواح الناس الابرياء. فمثلا نقل عن السيد وزير الصحة، المسؤول الاول، ما نشره على صفحته في منصات التواصل الاجتماعي بعد الكارثة ما نصه (كل ما يثار في الاعلام حول مستشفى ابن الخطيب هو زوبعة والهدف منها سياسي كي لا تعبر “سائرون” [التيار الصدري] عتبة ال 100 مقعد في الانتخابات القادمة)!! هكذا فهم وفسر الوزير هذه الفاجعة الانسانية واستشهاد اكثر من مائة شخص وجرح عدد مماثل بسبب حالة الاهمال والفساد المنتشرة في وزارته.
ثم ظهرت حملة اخرى تتهم المواطنين العاديين والمراجعين والمرافقين للمرضى بالتسبب في الحريق الذي اودى بحياة هولاء الابرياء. واخيرا انبرى اصحاب الاقلام والاراء الطائفية لاعطاء تفسيرات اخرى للحدث، فمنهم من قال وعلى بعض شاشات التلفاز التي تستمريء استضافة هذه الوجوه الكالحة، ان ما جرى هو (عملية مدبرة لقتل ابناء مكون معين)، وآخرون عادوا الى العزف على نفس النغمة السابقة وهي ان ما جرى هو (بسبب النظام السابق) الذي لم يتخذ الاجراءات المناسبة لاعادة تاهيل المستشفيات. وان المستشفى المعني هو اساسا متهالك وبني في خمسينيات القرن الماضي. ولم يفكر اي من اصحاب هذا الراي ان النظام السابق قد انتهى قبل عقدين من الزمن وان ماصرف على القطاع الصحي في العراق بعد الاحتلال قد تجاوز (45) مليار دولار، ولم يتم خلال هذه المدة وبكل هذه الاموال تحسين الوضع الصحي، علما بان هذه المبالغ كانت كافية لتغطية كلفة بناء عشرات المستشفيات وباعلى المواصفات، وبقدرة استيعابية تصل الى الف سرير في اقل تقدير للمستشفى الواحد في عموم العراق من شماله الى جنوبه.
ان اكثر ما يحز في النفس عند التفكير في هذه الامور هو الطريقة التي يحاول فيها البعض تبرئة الجناة او ايجاد مخارج لهم او الدفاع عنهم لكي يستمروا في فسادهم. وهذا الامر يجب ان ينقلنا الى الحديث عن اولئك الذين يكتبون ويتحدثون عن سبل الخلاص من هذه المازق الكبيرة التي حوصر العراق فيها.
هناك من يعتقد ان احتلالا امريكيا جديدا هو الحل الامثل. وربما هم لا يقولون ذلك صراحة بل يغلفونه بالقول بان على الولايات المتحدة (ان تقوم بدور اكثر فاعلية) لاصلاح الامور، (طبعا اصلاح الامور التي هي من افسدها وتركها، عن قصد، لكي تصل الى هذا المنحدر). وآخرون يعتقدون، كل حسب وجهة نظره وانتماءه بل وحتى عمالته، ان الاعتماد على دول الجوار (ايران او تركيا او دول الخليج وحتى اسرائيل، عن طريق الاعتراف بها) هو المخرج الوحيد للعراق والعراقيين من هذه المازق. وهؤلاء الاشخاص لن يجد نفعا معهم اي كلام او نقاش لانهم فقدوا القدرة على ان يكونوا وطنيين محبين للعراق. ما شجع ويشجع مثل هذه الاراء التصريحات الامريكية الاخيرة التي اكدت انها لن تنسحب من العراق وانها باقية (بطلب من العراقيين). طبعا لاحاجة للقول ان بقاء التواجد الامريكي في العراق لا علاقة له باصلاح الاوضاع في البلد الذي اوصلته سياساتهم ومخططاتهم الى حافة الهاوية، وانما لاغراض تخدم المصالح الامريكية البحتة. وان العراقيين لم يطلبوا من الولايات المتحدة لا سابقا ولا حاليا ان (تساعدهم). وان من طلب ذلك منها ومن اطراف اخرى خارجية مجموعات معروفة في ارتباطاتها..
على الطرف الاخر هناك من يحاول ان يخدع الغالبية المسحوقة من الشعب العراقي التي انتفضت منذ تشرين الاول/اكتوبر 2019، مطالبة باصلاح الاوضاع، (هذه الشريحة الواسعة التي قدمت اكثر من الف شهيد وعشرات الاضعاف من الجرحى والمفقودين والمغيبين) بان الانتخابات القادمة هي الطريق الوحيد المتبقي لانقاذ العراق. ومن يروج لهذه الافكار هي في الغالب الاعم الاطراف المتنفذة، (الفاسدة والمتهمة بارتكاب ابشع جرائم القتل). والكل يعلم ان الانتخابات القادمة سوف لن تختلف عن سابقتها كونها ستنتهي بالتزوير والترويع والتلاعب واستخدام المال الفاسد والسحت الحرام لشراء الذمم. خاصة وان كل الاجهزة التي ستشرف على هذه الانتخابات هي نفسها، ربما ليس بشخوصها، وانما بهيمنة الاطراف التي تقاسمت كل شيء طائفيا وعرقيا ومحاصصاتيا منذ 2003.
ربما يبقى بيد المنتفضين العزّل والمحرومين والمسحوقين والمطاردين والمهددين بالقتل او الاختطاف في اية لحظة، والذين لا يملكون الا ارادتهم وتصميمهم وحبهم لوطنهم، سبيل واحد قد يمكنهم من تحقيق بعض مطالبهم وذلك عن طريق تشكيل (لجان مراقبة شعبية) تفرض نفسها على المراكز الانتخابية لتراقب وتمنع وتفضح وتوثق اي تزوير للانتخابات، وعلى قدر ما تستطيع. وان لا تنتظر هذه اللجان الشعبية موافقة من احد وانما تفرض نفسها فرضا على المراكز الانتخابية. واذا كان السيد رئيس الوزراء حريص حقيقة على انتخابات نزيهة قادمة، عليه ان يوفر الحماية لهذه اللجان الشعبية. عكس ذلك فان نفس الكتل والاحزاب الفاسدة والتي اوصلت العراق الى هذا المنحدر الخطير ستعود ثانية، وستجد من بين ضعاف النفوس والماجورين من يظهر علينا ليقول ان من يحكم جاء بانتخابات ديمقراطية، او يقول دعونا لا نستعجل في الحكم ولننتظر قليلا حتى نرى ما ستقوم به الحكومة الجديدة، هذا المنطق الذي اضاع ما يقارب من عشرين عاما من عمر العراق والعراقيين ذهبت سدى، ناهيك عن ثروات بلدهم التي نهبت وبددت بدون اي حسيب او رقيب.