الرفاق الاعزاء .. فلم بلا ألوان عن مجزرة سوداء
سلام مسافر
الرفاق الاعزاء .. فلم بلا ألوان عن مجزرة سوداء
في المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفيتي ، طرح نيكيتا خروشوف برنامج بناء المجتمع الشيوعي في أتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية من منطلق، أن الاشتراكية قد حققت انتصاراً كاملاً في البلاد.وتم الإعلان عنها عام 1959 ؛ بإنشاء القاعدة المادية والتقنية للشيوعية في 10 سنوات (1961-1971)؛ والتخطيط للانتقال إلى ملكية عامة واحدة ، لتطبيق مبدأ التوزيع حسب الحاجة، وبناء مجتمع شيوعي مثالي . على أن يكون حجم الإنتاج الصناعي في 20 عامًا قد زاد بمقدار 6 مرات على الأقل. وأن ترتفع إنتاجية العمل أكثر من مرتين في 10 سنوات .
تم التخطيط لتقليل أسبوع العمل إلى 35 ساعة ، والرعاية المجانية للأطفال في المدارس ودور الحضانة والجامعات، وإدخال الاستخدام المجاني للشقق والمرافق والنقل، إلخ.
على عكس التوقعات ، لم تكن الرومانسية الشيوعية للبرنامج الثالث للحزب الشيوعي السوفيتي مدعومة بإنجازات حقيقية.
علاوة على ذلك ، في أوائل الستينيات. اتخذت الحكومة خطوة لا تحظى بشعبية - أعلنت عن زيادة الأسعار. في 31 مايو/حزيران 1962 ، وأبلغت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السكان عن زيادة بنسبة 35 ٪ في أسعار شراء الماشية والدواجن والزبدة الحيوانية والقشدة، أعتبارا من من 1 يونيو ، وارتفعت أسعار التجزئة بنسبة 25-30٪.
ولأجل تخفيف الانطباع غير المريح لارتفاع أسعار المواد الغذائية، أعلن المرسوم عن خفض أسعار السكر والأقمشة المصنوعة من ألياف الفسكوز وخيوط الصوف.
أدى قرار رفع الأسعار على الفور إلى مظاهرات في عدد من المدن: ريغا ، كييف ، تشيليابينسك ، لينينغراد ، إلخ.
لكن استياء العمال بلغ ذروته في نوفوتشركاسك بين 1-3 يونيو 1962. وتفجر الإضراب العمالي في المدينة .
سقط قتلى في الساحة المقابلة لمبنى الحكومة المحلية ، و تضرجت بدماء 24 قتيلا جرى دفنهم سرا في مقبرة نائية بلا شواهد .
ووصفت السلطات على جميع المستويات الانتفاضة؛بأنها أعمال تخريب لعناصر اجرامية .
أبلغ رئيس الكي جي بي سيميتشاسني ، قيادة الحزب أنه خلال أعمال الشغب ، قُتل 22 شخصًا وتوفي اثنان متأثرين بجروحهم ، وذهب 87 شخصًا إلى مستشفيات المدينة بسبب إصاباتهم.
وشنت السلطات حملة اعتقالات للمشاركين في الانتفاضة شملت العشرات .
في 20 أغسطس 1962 ، بدأت محاكمة " المخربين" في نوفوتشركاسك ،وتم النظر في قضية 14 ناشطًا في أحداث يونيو. حكم على 7 أشخاص بالإعدام ، وحُكم على الباقين بالسجن 10-15 سنة.
وتم تنفيذ الحكم على الفور.
و لا يعرف الى الان مكان دفن المعدومين.
اخذت السلطات تعهدات مكتوبة من سكان المدينة، بعدم إفشاء أية معلومات عن المذبحة، التي لم يصل صداها لا الى سكان الاتحاد السوفيتي، ولا الى الخارج، فقد وضعت السلطات حواجز أمنية على مداخل المدينة لمنع الخروج او الدخول اليها، ونشرت أجهزة تشويش، لمنع هواة اجهزة الراديو اللاسلكية من تسريب الاخبار. وفرضت رقابة على الرسائل، والتنصت على المكالمات الهاتفية
ينص التعهد، على التعرض الى الاعدام في حال الخرق.
وظلت مجزرة مدينة نوفوتشركاسك طي الكتمان، عقودا طويلة، ولم يصدر بشانها اي بيان او توضيح سواء في حقبة خروشوف الذي بعث بخمسة اعضاء من هيئة رئاسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، على راسهم وزير الدفاع الى المدينة، طالبا التعامل بحزم مع التمرد واستخدام القوة المسلحة.
مع انفراط عقد الإتحاد السوفيتي ، وإطلاق غورباتشوف العنان لسياسة" غلاسنوست- الشفافية" بدأ يتكشف المستور، وتشكلت مطلع العام 1990 لجنة تحقيق من الإدعاء العام الروسي،لنفض الغبار عن ملفات الجريمة.
ومع ان مذبحة نوفوتشركاسك، تبدو صغيرة، مقارنة، بالتصفيات التي تمت حقبة ستالين، وشملت الآلاف، الا إن ارتكابها بأوامر من خروشوف الذي اعتبرنفسه بطلا في الكشف عن جرائم سلفه ستالين،والقضاء على عبادة الفرد، تمثل فارقة تأريخية في مسيرة الدولة السوفيتية؛ قبل انهيارها عام 1991.
لقد وجد المخرج الروسي أندريه كونشالوفسكي في المجزرة التي مر عليها مطلع الشهر 59 عاما في مأساة المدينة، مادة لفلم، أستند بدقة الى المواد التاريخية والارشيف، في سردية، تلامس الفلم الوثائقي، وعزز استرجاع الحدث ، باستخدام الشريط أسود وابيض، وبتقنية، تضع المشاهد في صورة المجزرة التي سعى النظام السوفيتي الى محو كل اثارها، حتى ان السلطات، غطت بالاسفلت، أثار الدماء في ساحة المدينة،بعد ان أبلغ عمال النظافة، المسؤل الحزبي، بان المياه لا يمكن ان تزيل آثار الدم المتخثر بفعل حرارة الطقس !
في 121 دقيقة؛يعرض أندريه كونشالوفسكي؛ الأسباب التي أدت إلى القتل الجماعي، عبر دراما ضاجة بالهلع والغضب"، باللونين الأبيض والأسود .
ليدا (يوليا فيسوتسكايا) الشخصية المحورية في الفيلم، شيوعية ستالينية على علاقة بجهاز امن الدولة السوفيتية "كيه جي بي" .
ورغم تضررها من ارتفاع الأسعار الا إنها تدافع عن القرار، وتظهر في البوابة الخلفية لمخزن المواد الغذائية تعبي بمساعدة بائعة متملقة حقيبتها بالمواد التي اختفت من العرض في المحلات، تشارك في إجتماعات الحزب، تستمع إلى اتهامات القيادة بان المتظاهرين ليسوا اكثر من مثيري شغب، يجب القضاء عليهم.
وفي المقابل تهتم ابنتها المراهقة سفيتكا (يوليا بوروفا) بالثورة على الفاقة وتعرية الستالينية المريرة، وتعارض طروحات والدتها المتصلبة الى حد الشجار والهروب من المنزل في وقت بدا الرصاص يلعلع في ساحة المدينة لقمع الاحتجاجات .
عندما تبدأ المجزرة، نرى ليدا تزحف تحت الرصاص الطائش بحثا عن ابنتها. ورغم الحصار المفروض على المدينة والاعتقالات الجماعية، تندفع بحمى هستيرية تفتش الشوارع والازقة وبيوت الجيران والأصدقاء والمقابر، على امل أن تعثر علي البنت المتمردة ، حية أو ميتة.
يمثل فلم " الرفاق الاعزاء" الذي ترشح العام الماضي الى الاوسكار، لكنه لم يحصل على ذهبيته، حدثا سينمائيا،وسياسيا فارقا في نقد التجربة السوفيتية، ويكشف؛ عن حجم الانتهازية والزيف الذي تحكم بقيادات الحزب الشيوعي، وقاد الدولة العظمى أخيرا الى الانهيار.
أتمنى لكم متابعة شيقة مع الفلم .