بلبل العراق سيد أحمد عبد القادر الموصلي
الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
بلبل العراق سيد أحمد عبد القادر الموصلي
من أبرز تلاميذ الملا عثمان الموصلي من العراقيين قارئ المقام سيد أحمد عبد القادر الموصلي (1871-1941) والمُلقب (بلبل العراق). والسيد أحمد الموصلي هو من مواليد محلة الجامع الكبير في الموصل، وهو من أسرة فقيرة من آل الكيالي، وهم أسرة عريقة النسب من آل البيت عليهم السلام. نزحت عائلته إلى الموصل من حلب، وكان والده يعمل حائكاً سعياً وراء لقمة العيش.
لقد أجاد السيد أحمد أداء جميع المقامات بالإضافة إلى إضافاته الفنية للمقام: كتخفيفه بعد أن كان ثقيلاً وسرعة الانتقال من مقام إلى آخر مع جودة في الأداء مما لم يسبقه إليه أحد من قُراء المقام في الموصل.
لقد غَنّى السيد أحمد جميع أنواع البستات العراقية مثل (آه يا اسمر اللون، حيك بابا حيك، فوق النخل) هذا بالإضافة إلى أنه غنى عدد من الحان أستاذه الملا عثمان الموصلي التي أخذها سيد درويش وارتبطت به مثل (زوروني بالسنة مرة وطلعت يا محلى نورها). كما غنى الأغاني ذات الطابع الموصلي الصميم مثل (بالله افرشوا لو بصدر الايوانا).
سيرته:
لقد كانت الموصل تشتهر بصناعة القماش المعروف بالموزلين الذائع الصيت والمرغوب كثيرا في أوربا، وكلمة "موزلين" تعني (موصليين)، أي موصلي. يقول العالم الجليل الشيخ محمد محمود الصواف (1915-1992) رحمه الله: "لا تجد بيتا من بيوت الموصل إلا وفيه (جومة)"، و (الجومة) آلة بسيطة كانت تُستخدم للنسيج.
لقد دخل سيد أحمد الكُتاب ثم المدرسة الابتدائية وتركها وهو في الصف الثاني الابتدائي لمساعدة والده في الحياكة. وأحب المقام الذي كان يغنيه الحائكون لارتباط ايقاعه مع ايقاع حركة الجومة والنول، ودرس قراءة القرآن الكريم على يد قارئين مشهورين في الموصل هما: القارئ علي حسين بن علي الصفو وإبراهيم العزاوي، كما درس المقام على يد الملا عثمان الموصلي وأحمد الزيدان.
لقد عمل سيد أحمد ساعي بريد، ثم أصبح موظفاً في مديرية الأوقاف. وعمل في إقامة الموالد والمناقب النبوية والتنزيلات والتواشيح في الجوامع ودور الأغنياء والمناسبات. وكان يعمل مغنياً وقارئاً للمقام ليلاً في مقهى (باباني) في باب السراي ويتقاضى مائة فلس فقط عن كل ليلة، وفي الصباح كان يقرأ مولداً في مقهى (أحمد باري) في شارع غازي وفي مقهى (حيو الأحدب) في شارع حلب. كما قرأ المقام وغنى الأغاني في ملهى (كامل ساره) الواقع في شارع حلب في أواخر الثلاثينات.
لقد تأثر سيد أحمد بأداء الملا عثمان الموصلي تأثراً كبيراً، وسمعه الملا عثمان وهو يؤدي المقام بعد أن تدرب عليه وأتقنه، فطرب الملا عثمان لأداء سيد أحمد وارتجل بيتاً من الشعر أجازه فيه لقراءة المقام، حيث قال له:
أطربتنا بصوتك يا أحمد ... ومثلك في عصرنا لا يوجد
كما تأثر سيد أحمد بالمُنشد المصري الشيخ سيد الصفتي (1867- 1939م) وقلده، كما قلَّد سلامة حجازي (1852-م1917) في مقام (قد حلا نظمي ورقَّ الغزلُ) وسجله على اسطوانة. كما قلَّد في اسطوانات مسجلة أغاني لسيد درويش وأم كلثوم؛ ولا سيما أغنية (أراك عصي الدمع) بلحنها الأصلي لعبده الحمولي.
لقد كان سيد أحمد عفيفا، غايته عرض فنه للجمهور ولم يسعى من خلاله إلى كسب المال، ويشهد له بذلك كل من عاصره، كما له مواقف مشهودة في ذلك خارج العراق.
وكان سيد أحمد يمتلك حضوراً غنائياً عجيباً، فهو قادر على الغناء في أي وقت وفي أي مكان دون تكلُّف أو عناء. وكان عندما يغني يحاول إرضاء نفسه بالدرجة الأولى، فأبدع وأجاد وأطرب، وكان ظاهرة عصره في الغناء لحلاوة صوته وسلاسة أدائه وتمكُنه في عالم المقام والنغم.
وعندما ذاع صيت سيد أحمد في عالم الغناء، أرسلت له شركة (بيضا فون) رسولاً للاتفاق معه على تسجيل أغانيه في اسطوانات، فاتفق معها عام 1924 على تسجيل تسع وعشرين اسطوانة، تقاضى على الاسطوانة الواحدة عشر ليرات. وعندما ذهب إلى بيروت لتسجيل الأغاني بصحبة عازف العود حكمت سيف الدين وعازف الكمان ادمون؛ التقى هناك بالشيخ الصفتي وغنيا معا في دار صاحب الشركة (بطرس بيضا) الذي تعاقد معه لمدة سنتين بعد أن سمع صوته وأعجب بأدائه.
وبعد انتشار اسطوانات سيد أحمد وذيوع شهرته في المشرق العربي، جاءه صاحب شركة اوديون (خشادور شاهين) إلى الموصل عام 1925، وحاول الاتفاق معه على تسجيل أغانيه في اسطوانات. وقد امتنع سيد أحمد، بسبب العقد الذي ابرمه لمدة سنتين مع شركة بيضا فون، فأقنعه صاحب شركة اوديون على تسجيل الأغاني بشرط عدم عرضها للبيع إلا بعد مرور السنتين. فوافق سيد أحمد وسجل ما يزيد عن الثلاثين أغنية لهذه الشركة، وقد صاحبه في العزف سامي الشوا على الكمان وعلي محمود على الناي والكمان ويعقوب على العود. ثم سجل أغاني ومقامات كثيرة في بغداد لشركة (بوليفون) بواسطة ضابط الايقاع حسين عبد الله، وصاحبه على العود عزوري وعلى القانون عبد الأحد كحلي المعروف بـ (الجحلي).
وغنى سيد أحمد بصحبة المغنية المشهورة آنذاك (عزيزة العراقية) وارتبط معها بعلاقة عاطفية. وكان يختار للمقام والأغاني الشعر الذي يعجبه، والذي انتقاه من شعر المتنبي وعمر بن الفارض والبهاء زهير وأحمد افندي الفخري وكاظم الازري والحاجري والملا عثمان الموصلي، وغنى الزهيري الذي اعجب به اعجاباً شديداً ولا سيما زهيريات عبو لمحمد علي.
عُرف سيد أحمد بسرعة البديهة والارتجال في القراءة، كما عُرف بالأريحية والمزاح وخفة الدم، وكان يرفض الغناء إذا طلب منه أحد ذلك. ومضى في الغناء حتى أواخر أيامه، وأخذ عنه المقام والمناقب النبوية ابن اخته (سيد إبراهيم ابو زكي) وسيد إسماعيل الفحّام (1905-1990) الذي يُعد من أشهر تلاميذه.
وفي مطلع الأربعينيات اشتد المرض على سيد أحمد ولم يمهله طويلاً، وتوفي عام 1941 وفقدت الموصل أبرز مقرئيها وقُراء المقام فيها بعد الملا عثمان الموصلي، غير أنه ترك إرثه في صوت تلميذه سيد إسماعيل الفحّام.
نموذج عن تطوير سيد أحمد الموصلي لأداء المقام:
لقد قام سيد أحمد الموصلي بتطوير أداء المقام عن طريق الانتقالات السريعة بين مقام وآخر من خلال القصيدة المؤدات، مما يدلل على حسن تصرفه في الأداء وتمكنه من أنواع المقامات المختلفة.
لقد أدى سيد أحمد قصيدة للملا (حسن أفندي البزاز) على معظم المقامات المعروفة في الموصل، خارجاً من مقام إلى مقام بطريقة معجزة وصوت عذب؛ حيث أداه على طريقة مقام النوى:
شجتني بذات البان ورق صوادح
لهن بأعلى الربوتين هديرُ (نوى)
................
تذكرتُ عيشاً بالحمى راق ظله
فطابت عشيات به وبكورُ (نوى)
................
فنحن ومالي غيرهن على الأسى
معين ولا غيري لهن سميرُ (لامي)
................
خليلي ليس الحب ما تعرفانه
فلا تحسبا أن الغرام يسيرُ (اورفه)
................
وما هي الاّ النار تسعر بالحشى
لها كل آن لوعة و زفيرُ (نوى)
................
تحاربني الأشواق في معرك النوى
ومالي عليها يا هذيم نصيرُ (نهاوند)
................
نزلنا بسلع والأحبة باللوى (مخالف)
وما بيننا غير النسيم سفيرُ (مخالف، ديوان، نوى)
................
وفي الحي حيّ الجزع بيض كواعب
لهن قلوب العاشقين خدورُ (نوى)
................
تعللني منهم على البعد نفحة
كما فاح من اردانهن عبيرُ (نوى)
................
وتعبث في لبي احاديث ذكرهم
كما عبثت بالشاربين خمورُ (عشيران)
................
همو سعروا قلبي وقد سكنوا به
ففيه لعمري جنة وسعيرُ (نوى)
................
أشهر تسجيلاته:
لقد غنى سيد أحمد الكثير من الموشحات ومن أشهرها "للعاشق في الهوى دلائل" من كلمات وألحان أستاذه الملا عثمان الموصلي، وقد سجلها في حلب سنة 1923:
للعاشق في الهوى دلائلْ ... لا يسمح من كلام عاذلْ
يا من رحلوا وخلفوني ... أبكي أسفا على المنازلْ
من مقلته رمى سهاما ... قد كحلها بسحر بابلْ
الورد على الجفون غضٌ ... والنرجس في الجفون ذابلْ
ناديتُ لسائق المطايا ... إن كنتَ إلى العقيق واصلْ
سرتم سحرا وسرى گليبي ... والركب سرى بذي المعاذلْ
https://www.youtube.com/watch?v=hqb2M2UGsBE