التشكيلي المغربي الحسين طلال: بورتريهات فنية توزِّع رسائل الحب
منذ 9 ساعات
إبراهيم الحَيْسن
0
حجم الخط
الفنان الحسين طلال تشكيلي من طينة خاصة، ومن معدن نفيس، تُعتبر شهادته حول مسار الفنون التشكيلية في المغرب مادة توثيقية أساسية، بالنظر إلى تجربته الجمالية، وعلاقاته المتنوِّعة والممتدة مع نقاد الفن والمؤرِّخين وأرباب القاعات ومحافظي المتاحف والأدباء والمثقفين، في العديد من الأقطار الأوروبية. حائز الجائزة الكبرى في صالون الشتاء لماجوريل عام 1965 الذي شهد مشاركة فنانين أوروبيين مرموقين.
وفي عام 2005، حظي باستضافة شرفية من قبل أكاديمية طهران، حيث ترأس لجنة تحكيم البينالي الثالث للفن الإسلامي المعاصر، كما أشرف على تنظيم أول معرض دولي للفن الإيراني المعاصر في فضاء منتدى الثقافة في الدار البيضاء، فضلاً عن جولاته ومعارضه الكثيرة التي ترسم حضوره الإبداعي الوازن داخل المشهد التشكيلي المغربي والعربي.
في مرآة نقاد الفن الأجانب
كتب عن فن الحسين طلال نقاد عالميون متميِّزون لهم إسهامات نقدية مضيئة تحفل بها منابر ومجلات فنية متخصصة، منهم مثالاً الناقد الفني جون بوري، الذي كان يكتب في مجلة «رسائل فرنسية» منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، وكذلك الناقد بيير غودبير مدير متحف الفن الحديث في باريس والباحث في المركز الوطني للفن المعاصر (CNAC) تنضاف إلى ذلك الدراسة التي خصَّها لفنه عام 1971 مؤرِّخ الفن والأستاذ في كوليج دو فرانس وفي مدرسة اللوفر في باريس رونيه هويغ مؤلف «الفن في العالم» (منشورات لاروس) إلى جانب موريس أراما، أحد أبرز الفنانين الذين تحملوا مسؤولية إدارة مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء إبَّان الحقبة الكولونيالية، الذي خصَّ كاتالوغ معرض الفنان طلال «بورتريهات متخيَّلة» السابق بـ»أتولييه 21» في الدار البيضاء، وقد حمل النص عنوان «الحسين طلال، أو ضجيج المكابرة» فضلاً عن نقاد فن آخرين مشهود لهم بالخبرة الميدانية، منهم أوسي كلاسيي أستاذ في شعبة التاريخ في جامعة بيشوب في كندا والناقد ألان فلامون، الذي خصَّه بشهادة تركزت حول فنه وهي واردة بمقدمة مونوغرافيا الفنان طلال الصادرة قبل ثلاث سنوات، بدعم من وزارة الثقافة. وقد أشار فيها فلامون إلى أن فن المبدع الحسين طلال «يبدو قليل الكلام، ويقصي النوادر، ويركز على الأهم» ثمَّ الناقد دنيس ديفرون الذي قال عنه «إن صنيعه الفني خارج مدارات الفن التشخيصي، تأمل في واقعية الذات وذات الواقع، أعمال ترصد جمالية الرُّوح، وتحوِّل المرئي إلى لامرئي».
الوجه دليل هوية
حين قال الفنان بول سيزان «إن ذروة الفن كلها في الوجه البشري» كان على دراية إبداعية كبيرة بأهمية فن البورتريه في تاريخ التصوير عبر العصور. هذا النوع من التصوير التشخيصي مثل طويلاً نموذجاً فنيّاً خبره العديد من الرسامين العالميين، وعالجوا عن طريقه قضايا فنية وتقنية لم تكن معروفة لدى كثيرين، وهي متصلة بمفهوم الظل والضوء، وكذا معايير الرسم والتصوير كما حدَّدتها أكاديميات الفنون منذ وقت قديم.
بقي فن البورتريه متداولاً وظلَّ لردح من الزمن يخلد الإنسان ويرسم وجوده وحضوره الموضوعي كشكل من أشكال التوثيق البصري التقليدي، السردي أحياناً، قبل أن يتطوَّر ويتحوَّل على إيقاع التقنيات وصيغ المعالجة عبر تاريخ الفن بما تميَّز به من تيارات ومدارس فنية حديثة ومعاصرة. ولم يكن البورتريه يقتصر فقط على رسم وجوه الشخوص فحسب، بل تطوَّر ليشمل وجوه الفنانين ذاتهم Autoportrait، كما هو الحال لدى كثيرين من الفنانين، أبرزهم رامبراندت، وبعده فان كوخ وبيكاسو وغيرهم. كما أنه لم ينحصر فقط في التصوير قدر ما شمل أيضاً فن النحت والتصوير الضوئي (الفوتوغرافيا)..
في السياق المذكور، وضمن تجربة تصويرية مغربية استثنائية، تبرز لوحات الفنان الحسين طلال كإبداعات صباغية منحت فن البورتريه والجسد الآدمي سمات تشخيصية ورمزية لا يمكن فهم أبعادها سوى بدراسة سياقها الجمالي والإبداعي، الذي يُراهن عليه الفنان. إبداعات الفنان الحسين طلال بورتريهات وأجساد مُغايرة ومختلفة، تتجاوز سماتها الفيزيولوجية المألوفة لتصير بنيات وهيئات جسمانية «بهلوانية» تتراقص على إيقاع خبرة تلوينية وافية، تمتد لسنوات من البحث والاشتغال الصباغي الجاد والعميق في حضرة الصمت، بعيداً عن الضوضاء والشهرة المجانية التي يلهث وراء تحقيقها كثيرون من أشباه الفنانين مغربيّاً وعربيّاً. ويُبرز الباحث والناقد الفني عبد الله الشيخ، أن الفنان الحسين طلال ومنذ عام 1967، اشتغل على موضوع «بورتريهات متخيَّلة» وفي السبعينيات قام بتأويل الحكايات الغرائبية لإدغار آلان بو (الطفل واللعب). كما أنه عندما عرض برواق Vercamer في باريس، باشتغاله صباغيّاً على ثيمة الرقص، وفي الرباط تناول موضوع السيرك كعالم سحري يحيل على طفولته، متذكراً قولة مؤرَّخة فن فرنسية: «كثير من الفنانين اشتغلوا على السيرك، لكن سيركك خاص بك طلال».
يختار الفنان الحسين طلال بورتريهاته ويغترفها من صميم قناعاته، ومن رغبته في تصوير ما يُريد بأيسر الخطوط وأوجز الصبغات، دون إيغال في التعقيد والتكثيف. هو بهذا المنجز التصويري يرسم كما يعيش إنساناً هادئاً ومبدعاً صموتاً، لا يتحدث كثيراً، لكنه يقول أشياء كثيرة ينطق بها رسمه وفنه.
وبقدر ما هي بورتريهات، هي أيضاً سلسلة من الوجوه المتأملة التي تتوارب و»تنظر إلى الداخل أكثر مما تنظر إلى الخارج» بتعبير أحد الكتاب العرب. ومن عمقها تتحذق نظرات آسرة برؤى بعيدة عاكسة لمهارة يدوية متقدمة.
بهذه البورتريهات التعبيرية، يكون الفنان الحسين طلال قد بصم التشكيل المغربي والعربي بتجربة تصويرية متفرِّدة لها وضعها الخاص.. ولها نواميسها الجمالية الخاصة، حيث تتوارد الأصباغ وتتألسن الخطوط الوادعة والمنثالة على إيقاع لمسات واثقة لفرشاة مقدرة ومشبعة تنهض على خبرة صباغية وافية.
أجساد متماهية..
تبدو الأجساد في تجربة الفنان الحسين طلال متراقصة محتفية بالحياة.. وبالوجود الإنساني الذي صار في الانطفاء والانمحاء بفعل الفهم الخاطئ للحياة المعاصرة وما تقتضيه من شروط.. بورتريهات رومانسية توزِّع رسائل الحب بجانب أجساد متماهية ترسم في إيماءاتها حركات بدنية ممتدة تكاد لا تنتهي، ملتفة ومختفية داخل أردية مخططة مستعارة من عوالم كرنفالية. هي هكذا لوحاته متميِّزة بتشخيصية أخرى (تصويرية جديدة) ذات صبغة كاريكاتيرية إلى حدٍّ ما، يتجلى ذلك من خلال لجوئه إلى تضخيم الأحجام والأبدان والتلاعب (صباغيّاً) ببنياتها، على منوال متباين (كونتراست) قياساً مع بعض أعمال فرانسيس بيكون (1909) «رسام الكوابيس» الذي كان موضوعه المفضل هو الإنسان الذي يواجه الألم والفزع».. إلا أن الفنان طلال له طريقته الخاصة وأسلوبه الصباغي في الرسم والتلوين الذي ينهجه وفقا لمهارة متقدمة تعكس حضوره القوي داخل المشهد الإبداعي في المغرب.
عن هذه اللوحات الاحتفائية التي تتمحورها أجساد مبتهجة، كتبت الناقدة دونيز إكس- ديفورن، متحدثة عن فن الحسين طلال: «تصويره الصباغي فسحة هروب على حدود الفن التشخيصي. فهو تأويل ذاتي للواقع الموضوعي. المتلقي في تناوله لعمله عليه أن يعرف أنه ينحو نحو لقاء هذه الرؤية، وإلا لن يفهمه».
سيراً على هذا التأويل، وبكثير من الفضول، تنمِّي فينا أجساد وشخوص الفنان الحسين طلال، والصيغة التي رسمت بها الرَّغبة في معرفة الموديلات الرمزية التي استند إليها في هذه التجربة التصويرية، التي أنفق فيها جهداً ووقتاً كبيرين، وهي – بالتأكيد- ليست نموذجاً موحّداً بصفات فردية نمطية Prototypes، بل إنها تمثل رسومات تعبيرية تحفظ المسافة بين المتلقي والعمل الفني، وأعمالاً مفتوحة تضمن الحدَّ الأهم من القراءات البصرية، حسب فكر أمبرتو إيكو. وحتى إن كانت موديلات من وحي خيال الفنان، فإنها تمثل حكايات طريفة عاشها الفنان صبيّاً صغيراً رفقة والدته المبدعة الراحلة الشعيبية طلال، داخل بيت متواضع على وقع نور ورائحة الشمع، في غياب الكهرباء آنذاك، ما نتج عنه خيالات الظل التي كانت تلهمه صغيراً، وهي تتحرَّك وتتراقص على حيطان البيت، وقد كانت تسليه وتلهمه.. هكذا كانت البداية بالأبيض والأسود.. بلغة الطيف. زد على ذلك افتتانه ببعض الشخصيات البهلوانية التي كان يصادفها هنا وهناك بالضفة الأخرى بمناسبة زياراته الفنية لأقطار أجنبية متنوِّعة..
من عمق لوحاته التعبيرية يسعى الفنان الحسين طلال لإقناعنا بأن وجود الإنسان هو وجود جسدي، على اعتبار أنه «لا يمكن الحديث عن إنسان دون العودة إلى جسديته» كما تقول فنى فياض في «فخِّ الجسد».. ما يجعلنا نلتفت إلى أجسادنا وذواتنا في حدود المعاني الجميلة التي يبعث بها إلينا عبر رسائل الحب والإنسانية..
ويظلُّ الفنان التشكيلي الحسين طلال في هذه التجربة التصويرية والتجارب الأخرى التي سبقتها، يمثل مبدعاً نموذجيّاً يحتل مكانة رفيعة واستثنائية داخل وجداننا الجمالي المشترك بفعل إنتاجه الرَّاقي وجذوره الثقافية التي تفيض بالكثير من المعاني والقيم الإنسانية النبيلة..
ناقد تشكيلي من المغرب