فيتو على نون النسوة: قراءَة ثقافية في قصيدةِ سُعاد الصباح
منذ 54 دقيقة
سجل اسم الشاعرة سعاد الصباح حضوره المهم في المشهد الإبداعي الخليجي والعربي، وكان لحضوره القوي الأهمية القصوى في إعلان صوت المرأة كثورة شعرية نسوية، على أنظمة القهر والثقافة البطريركية المتسيدة منذ قرون. كانت قصيدة الصباح تقف ضد معطيات هذه الثقافة، رافضةً إياها، مُقوضةً خطاباً ثقافياً كاملاً، يقف أمام خطوِ النساء نحو دربِ الحب والحرية والمساواة. لم تكن الصباح على امتداد مسيرتها الثقافية شاعرةً فحسب، بل كانت امرأة تقاوم القُبح بالجمال، وترمي تلك المياه الراكدة بحجر الكلمات، وتمارس فعل الصمود والثبات، رافعةً قيمة خطابها الفكري بقوة المعرفة والاطلاع، وحساسية عالية تجاه كل صور القمع والاضطهاد، التي أودعتها في قصيدتها وكتابتها. لها نص بعنوان (أُنثى) تقدم فيه فكرة المقاومة، فالنساءُ مثل الأراضي المستعمَرَة:
قد كان بوسعي، مثل جميع نساءِ الأرض
لكني خنتُ قوانينَ الأنثى
واخترتُ مواجهةَ الكلمات
ومن يقرأ للشاعرة، يجد خطابها ينهض جمالياً بالتوق إلى المشاعر والقيم الإنسانية، مثل الحب والجمال، فلم يكن عالمُها الشعري بياناً أيديولوجياً صِرفاً، بل خطاباً تمتزج فيه ثيمات إنسانية متعددة، تعلو به مشاعر الحب وتأسيس عالم إنساني يحترم الإنسانَ في كل مكان. يعد صوتُها الشعري أولَ صوتٍ شعري في الخليج العربي يتبنى موضوعات المرأة، ويعلنُها، ويدافعُ عنها، وهي بذلك تؤسس لأول ثورة شعرية نسوية في الخليج والوطن العربي، في ما كانت بقية الأصوات النسائية في الخليج، باستثناء أصوات إبداعية قليلة، مثل الروائية ليلى العثمان، مضطرة إلى نوع من الكتابة يتماهى مع الثقافة السائدة واشتراطاتها، لذلك، نجد تجربة الصباح تقف كتجربة مؤسسة لخطاب إبداعي مقاوم، ومؤسسة لتجربة شعرية جديدة ترفض كل أنواع النقش الثقافي على جسد وصوت وحضور المرأة الثقافي. تجعل من القصيدة أقوى بيان معارضة ممكن، تطلقه المرأة الشاعرة في وجه من يرفضون وجودها شاعرةً، ويريدونها جارية في هودج يجره الأعراب، قائلة:
يَقولُونَ:
إِني كسَرْتُ بشِعْري جِدارَ الفَضيلَةْ
وإن الرجالَ همُ الشعراءْ
فكيفَ ستولَدُ شاعِرةٌ في القَبيلَةْ؟
وأضحَكُ مِنْ كُلِ هَذا الهُرَاءْ
وأسْخَرُ ممنْ يُريدونَ في عصرِ حرْبِ الكَواكبِ…
وَأْدَ النساءْ…
وأَسْألُ نفْسي:
لماذا يكونُ غِناءُ الذكورِ حلالاً
ويُصبحُ صوتُ النساءِ رذيلةْ
ولنا أن نتخيل ما يعنيه هذا الكلام في بدايات التنوير والاشتغال بالثقافة في الخليج، في زمن تتناقش فيه النخبة الفكرية حول قضايا مصيرية متعلقة بحق المرأة في التعليم والمهنة والقيادة، وغيرها من القضايا المصيرية للمرأة. تأتي الصباح صوتاً متفرداً يطالب بقضايا إنسانية مهدت الطريق لكل ما يحدث من إنجازات ومكتسبات مهمة للمرأة في الخليج، فكانت صوتاً مُلهماً وواعداً بقدر ما كان مقاوماً لمشقات الطريق ومثالبه في ثقافة الأعراب. وهذا ما دفع فضل الأمين ليقول عنها، في دراسته (في البدء كانت الأنثى والشعر): «ما من شاعرة عارضها جيلُها بقوة كسعاد الصباح، وما من شاعرة قرأها جيلُها بكثافة كسعاد الصباح، وما من شاعرة تجاوزت جيلها بجرأة في شعرها كسعاد الصباح، وما من شاعرة عبّرت عن جيلها في شعرها، كسعاد الصباح». كان بإمكان الشاعرة أن تثبتَ في مسارها الأول، في مجموعتها الشعرية الأولى (أمنية) وتختار أن تسير مع التيار السائد، وتتماهى مع الثقافة المهيمنة، لكنها كأي تجربة إبداعية حقيقية، تجاوزت ذاتها وطموحاتها الآنية، لتقدم موضوعات ترتبط بالإنسانية الأصيلة، وكل ما يتعلق بها، لذلك، نجدها قد تطورت في مجموعاتها الشعرية اللاحقة، واختارت أن تكون صوتاً ناطقاً باسم كل النساء المهمشات والمُغيبات عن التاريخ والحضارة والإنسانية.
صحيح أن لسعاد الصباح اهتمامات جمالية متعددة، وقصيدتها غنية بالعديد من الثيمات الإنسانية الفردية والاجتماعية والوطنية والقومية، إلا أنه يمكن تقسيم أهم الموضوعات التي حفرت فيها قصيدتها على امتداد تجربتها؛ اهتمت بموضوع الوطن والقومية، والمرأة والرجل، والمرأة على نحو عام. وكان خطابها الشعري القومي يحفل بالقصائد المضمخة بروح العروبة والدفاع عن الإنسان أينما كان، في ما كان خطابُها النقدي النسوي خيرَ بيان مقاومة ضد الرجعية والتخلف، في فترة زمنية مبكرة لم تُتح ظهور الكتابة النسوية بصوت عالٍ. تذكر فرجينيا وولف، في كتابها الأكثر جدلية وثورية «ثلاثة جنيهات» في القرن التاسع عشر، أن المهنة الوحيدة التي كان بإمكان المرأة العمل بها، هي الأدب. وتمضي تتساءل عن قدرة النساء على مواجهة الثقافة الذكورية، والكتابة الملتزمة بقضايا الحياة، مقارنة بأن المرأة عندما تُظهر جسدها مرة واحدة، فهذا سيكون لمرة واحدة، وسينتهي الأثر عند هذا الحد، لكن حينما تبيع عقلها وتكتب ما يخالف فكرها، فهي تنشر هذه الأفكار على مدى أبعد، وقراء أكثر، وأزمنة متعددة، لذلك يكون بيع العقل أكثر خطورةً من بيع الجسد. وها هي ذي سعاد الصباح في قصيدة «فيتو على نون النسوة» تبين في أكثر من موضع دونية المرأة الكاتبة في المجتمع البطرياركي التقليدي، فإذا كان مجتمع فرجينيا وولف بدأت نساؤه في الكتابة والمشاركة في الفضاء الثقافي، فإن مجتمع سعاد الصباح يحبو تجاه كتابة المرأة، وقبول حضور المرأة في الفضاء العام، وهذا ما تناقشه الشاعرة في أكثر من نص، ومن هذه النصوص «فيتو على نون النسوة».
تنطلق الشاعرةُ من مسألة الكلام والكتابة، مُقوضةً خطابَ الذكورة، الذي يدعي إثم ارتكاب فعل الكتابة والاقتراب من الفن الأكثر صعوبة على النساء، وهو الشعر. إذا كانت فرجينيا وولف في كتابيها الشهيرين «الغرفة» و»ثلاثة جنيهات» تنطلق من ظروف مادية جدلية اقتصادية ثقافية معيشية تتعلق بفقر النساء، وتأثير ذلك في دخولهن عالمَ الكتابة وازدهار الكتابة النسوية، فإن الصباح تنطلق من ظروف ثقافية اجتماعية تستند إلى التفسير المؤدلج للدين الإسلامي، من مثل أن صوت المرأة عورة، وإلى ثقافة القبيلة التي تقود النساء كالقطيع. تقول الشاعرة:
يَقولونَ:
إن الكتابةَ إثمٌ عظيمٌ…
فلا تكتُبي.
وإن الصلاةَ أمامَ الحُروفِ… حرامٌ
فلا تَقْربي…
وإن مِدادَ القَصائدِ سُمٌ…
فإياكِ أنْ تشْرَبي.
وها أنَذَا
قدْ شرِبْتُ كثيراً
فلمْ أتسممْ بحِبْرِ الدواةِ على مَكْتبي.
وتأتي في المقطع التالي، بقولها:
يَقولونَ:
إن الكلامَ امتيازُ الرجالِ…
فلا تَنْطِقي
وهي هنا تنطلق من كونها تابعاً لا يخضع، بل هي تابع يريد تحرير ذاته، وأن يقوضَ كل سرديات الذكورة المستهلكة حول النساء، التي تكون صورة المرأة وهويتها المصنوعة عبر النقش الثقافي على الجسد والصوت والهيئة والحضور. فهنا، سعاد الصباح لا تنطلق من حالة التساؤل عن القدرة على الحديث، مثلما تقترح سبيفاك في مقالتها «هل يستطيع التابع أن يتحدث؟» فهي قد خطت خطوة المساءلة في قصيدتها «أسئلة ديمقراطية في زمن غير ديمقراطي» بل هي تنطلق من حالة: حينما يستطيع التابع أن يتحدث. وهكذا، كانت في حديثها تبدأ الخطوة الأولى في تنقيح كل الخطابات الوهمية التي صاغت المرأة وحضورها، وترد عليهم قائلةً بعد أن مرت بالتجربة، واخترقت السياج الوهمي:
وها أنَذَا
قدْ شرِبْتُ كثيراً
فلمْ أتسممْ بحِبْرِ الدواةِ على مَكْتبي
وها أَنَذا..
قدْ كتبْتُ كَثيراً
وأضرَمْتُ في كل نجمٍ حريقاً كَبيراً
فلا غضِبَ اللهُ يوماً عليّ
ولا استاءَ مِني أبي..
وفي نهاية القصيدة، نجدها ترفض كل هذه التصنيفات الجاهزة والمُعطاة مسبقاً، ووضع البشر في قوالب جاهزة متبعة منذ القدم، رافضةً المقولة الرائجة، إن الشعر يكتبه الرجال، والرواية النساء، كما أن الفلسفة هي صناعة ذكورية بالكامل، وهذا غيضٌ من فيض العبارات التي يجري ترديدها في كثير من الملتقيات الثقافية. ويبدو أن الشاعرة هنا، وهي تكتب نصها، تضع في ذهنها جدلية الشعر الذكوري والسرد الأنثوي، التي تربط فن الشعر والنثر بالرجال، والسرد تحديداً بالنساء، لأنها تختم نصها قائلة:
ومَنْ قالَ: للشعْرِ جِنْسٌ؟
وللنثْرِ جِنْسٌ؟
وللفِكْرِ جِنْسٌ؟
ومَنْ قالَ: إن الطبيعةَ
ترفُضُ صوتَ الطيورِ الجَميلةْ؟
في رأيي، إن مثل هذه الرؤى تحمل شيئاً من الصحة عندما نقرأ تاريخ الممارسة الثقافية للشعر، الذي كان ممارسة ذكورية محضة، فلم يسجل لنا التاريخ إلا أسماءَ قلةٍ من النساء الشاعرات. في ما يتزامن ظهور فن القصة والرواية مع بزوغ قضايا المرأة ومطالبها المتعددة، ما جعل الفنون النثرية أقرب إلى التعبير عن المرأة وقضاياها المختلفة. ثمة أمرٌ آخرُ يجعل مملكة الشعر مملكة بعيدة المنال عن النساء، كما توضح وولف في كتابها آنف الذكر، «أن الحرية الفكرية تعتمد على الأشياء المادية، والشعر يعتمد على الحرية الفكرية. لذا، تعتقد أن كتابة الرواية تتلاءم بسهولة أكبر مع البدايات والتوقفات المتكررة؛ لذلك تميل النساء، في الأرجح، إلى كتابة الروايات أكثر من الشعر». (سعاد العنزي، نساء في غرفة فرجينيا وولف).
ختاماً، استطاعت الشاعرة سعاد الصباح، في نص «فيتو على نون النسوة» أن تمثل تجارب المرأة وحالاتها الإنسانية، وتُسائل عن حقها في ممارسة دورها الثقافي، رافضةً أي فيتو يمارس ضد نون النسوة، مفككةً من خلال لغة الشعر كل التحيزات البطريركية، مثلما تقول أماني أبو رحمة في كتابها «ما بعد الحداثة»: «ما يمكن قمعه يمكن التعبير عنه بالكامل من خلال الشعر، لذلك، فإن للأدب دوراً أساسياً في تفكيك اللغة البطريركية».
كاتبة كويتية