المدينة الفاضلة
ابراهيم الولي*
المدينة الفاضلة Utopia
مدخل:
رأيت قبل ولوج فلسفة اليوتوبيا، أن آخذ القارئ معي الى مدخل الفلسفة وفروعها بصورة مبسطة تساعدنا على فهم موضوع البحث.الفلسفة هي حب الحكمة ( Philo - sophy) وهي كل محاولة عقلية يأتي بها مفكر لتفسير الكون ومكان الإنسان فيه.
للفلسفة فروع أربعة: أولها المعرفة …..Epistemology التي هي مجموعة التساؤلات، مثل كيف لنا أن ندرك مفاهيم الأشياء! وما الذي يجعل المعتقدات المبررة مبررة ! وثانيها: الميتافيزيقا …..Metaphysics فلسفة ماوراء الطبيعة التي سماها أرسطو الفلسفة الأولى فهي تبحث في دراسة الكون ونشأته وتقلب الظواهر الطبيعية ، مادية أو روحية ، والثالثة: المنطق Logic الذي هو ببساطة العلم الذي يدرس القواعد والقوانين العامة للتفكير الإنساني الصحيح. والرابعة الأخلاق Ethics التي تشمل علم الأخلاق الأدبية والواجبات وأخلاق المنفعة والفضيلة. وتبقى فلسفة الجمال … Aesthetics وهي التي تعني كل تفكير فلسفي بالفن ودراسة الحس والوجدان.
مقدمة:
كللمة يوتوبيا وفلسفتها التي هي فرع من الميتافزيقا؛ تصور فلسفي لعوالم مثالية ليس لها وجود في الواقع ، ولهذا جاءت الكلمة تعبيرا عن مكان بعيد يرسمها خيال الفيلسوف لوضع مدينة أو دولة أو حكم كما يجب أن يكون، احتجاجا وتهربا مما هو كائن في عصر الفيلسوف. يحدد الفلاسفة النظام المثالي لمدينة فاضلة في أماكن بعيدة ، كجزر غير مأهولة او في مكان مجرد كمدينة أفلاطون مثلا الذي جمع أفكارا فلسفية مبعثرة هنا وهناك حول تصور المدينة الفاضلة فصبها في كتابه ( الجمهورية ).
تلك الأفكار التي جاءت على لسان عديد من المفكرين ، بدت لي كما اتصورها أنا: هي عالم وردي مثالي تكون المادة متوفرة دوما فيها. وأشجارها مثمرة طول الوقت والناس يطيعون القانون برضى. والعدالة نموذجية في قضائها ، والأمن مستتب ،حتى لا تكون معه حاجة لرجال أمن. والناس متحابون فلا ضغينة أو نميمة ،وأعمارهم طويلة والحوكمة فيها كلها شفافية ونزاهة فلا كذب ولا غش ولا نفاق، والفقر ليس له مكان في المدينة الفاضلة التي يحكمها رجال أكفاءلا تكون معه حاجة أو نزعة إلى مد اليد على المال العام أكان عقارا أو مالا . فلا أحد يستغل الوظيفة العامة التي هي عندهم تكليف مقدس ، والماء النقي متوفر والهواء خال من التلوث فطبقة الأوزون مازالت في أزمانهم ملتحمة لإنعدام الغازات السامة الملوثة لأجوائهم، والمستشفيات من الجودة هناك بحيث يتمنى المرضى ـ على ندرتهم ـ أن لا يغادروها ،والنساء كالرجال في نيل حقوقهن، أما المدارس فقد أنشئت للتربية قبل التعليم، فهناك في المدينة الفاضلة تضخ مفاهيم المواطنة في دم الاطفال كما اليافعين : ،تلك صفات مشرقة لليوتوبيا ، المدينة الفاضلة .اما اذا ما حدث العكس ، اي ان تكون الدولة فاسدة فتسمى Dystopia … ويكون واقع تطبيقها على المدينة فسادا وفشلا تشم رائحة فسادها في رجالها الذين يكونون قد أفسدوها بخيانتهم لمسؤولياتهم تجاه أوطانهم، سواء بالإصطفاف مع المدن الأخرى ، أو بالتعدي على المال العام بكل وسيلة غير نزيهة مسببين الأذى والشقاء و الفقر لمواطني مدنهم،
يبدو لي , وأنا مسترسل بوصف المدينة الفاضلة، اني قد تلبست الصورة الوردية هذه ليخزنها عقلي الباطن بهيئة تمنيات أن يكون لبلدي العراق نصيب ولو جزئي من هذه الصورة المشرقة والمشرفة.
تلك أفكار مثالية مبعثرة، كما قلت حلم بها فلاسفة يونانيون وغيرهم إلى أن جاء أفلاطون ليبلور تلك الأفكار , وهو المثالي في كتابه جمهورية أفلاطون واتبعه بكتاب آخر هو القانون.
اليوتوبيون:
لهذا وجدت من المفيد التطرق ، ولو بإيجاز إلى أربعة فلاسفة، هم دون غيرهم أطروا لأحلامهم اليوتوبية ( الطوبائية ) في كتاباتهم التي ركزت قبل كل شيء على طرق الحكم في المدن الفاضلة. وهي وإن كانت على صورة أحلام وتخيلات إلا أنها أثرت في مسار الفلسفة السياسية لمختلف المجتمعات البشرية عبر العصور، فكأنها نبهت الغافلين من حكام دولهم إلى قواعد الأخلاق والعدالة والمعرفة. هؤلاء الأربعة هم:
• أفلاطون Plato 427- 347 ق.م
• أبو نصر الفارابي 878- 950 م
• توماس مور Thomas More 1478- 1525 م
• توماسو كامبانيلا Tomasso Campanella توفي 1629 م
(* 1) أفلاطون
هو تلميذ سقراط ومعلم أرسطو، فيلسوف مثالي سعى لتحصيل المعرفة الكلية الشاملة التي تستخدم العقل وسيلة ليكون الوصول إلى الحقيقة أسمى غاياتها. يقرر أفلاطون في نظرية المعرفة أن الدول تكون في أشكال أربعة: الميتاقراطية ... Temarchyالتي يسود فيها الظلم والعنف وهي حكومة أصحاب رؤوس الأموال، والأوليكاركيه ….Oligarchy حيث الطمع الدائم واشتهاء الثروات المادية. والديموقراطية Democracy حيث تنقلت الغرائز وتسود دكتاتورية العوام، وأخيرا دولة الإستبداد…Tyranny حيث يكون الطاغية فيها عبدا لغرائزه ويكون غير عادل.
يصف أفلاطون الحياة في ظل جمهوريته بأنها مثالية تكتمل فيها سعادة المواطنين في العمر المديد للإنسان، وفي الوفرة المادية والعدالة في توزيع الثروة ، وفي التعامل مع الإنسان مع إحلال سلم دائم وتجنب الحروب. يقول يجب أن لا نتوقع خيرا من حكومة يحكمها تجار وحرفيون أو عسكريون بدلا من أولئك الذين يملكون النظرة الشاملة التي تحقق الخير للمجتمع، ذلك أن المجتمع الذي يقوده العسكر سيظل دائما في حالة حرب وتقييد لحرية المواطنين. ، أما الحكومة التي يديرها العمال فستفتقر إلى العمق الثقافي وإلى النظرة المعمقة للحوكمة الرشيدة وإلى فهم العلاقات الدولية . يقول ؛ فقط أولئك العموميون …….Generalists المثقفون والذين دربوا خلال عدة سنين على العلوم الحرفية بحيث يقترح سقراط عشر سنين لدراسة الرياضيات قبل ولوج الفلسفة فهؤلاء سيحكمون بشكل جيد. ويقول أن الصلة بين الدولة ونوعية الفرد تبدو كالمقارنة بين المدينة والروح وأن أخلاق الدولة هي الواقع الذي يشكل سلوك الفرد.
يقسم أفلاطون النفس البشرية إلى ثلاثة أقسام، العقل والروح والرغبة. العقل هو المشرف على النفس وهو الذي يعطي المقدرة على اتخاذ القرارات، أما الروح فتولد الطموح والإبداع Enterprise كذلك تعطي الشعور بالغضب والفخر والعار و الجرأة و الشجاعة و هى الذات Ego، و هنا يكون الثيموس Thymos الذي يركز على الاعتراف Recognition اي ان الانسان يتطلع الى الاعتراف بوجوده ، فان لم يتحقق له ذلك فسيتمرد على واقعه ، و قد تناولتُ الثيموس بايجابياته او سلبياته كما رآها فوكوياما * 2 أما الرغبة فهي التي تحث على الطعام والنوم والجنس. يكون الفرد متوازنا عندما تقيد الروح الرغبة بدل أن يقودها العقل الواقع تحت تأثير معرفة الخير والإدراك الشامل لشكل الكون... وهكذا يتم التوازن فتكون أفعالنا منسجمة مع العالم من حولنا.
أبو نصر الفارابي:
فيلسوف اسلامي عربي أحد ثلاثة فلاسفة عرب كبار، أبن سينا وابن رشد. كتب الفارابي في ( آراء أهل المدينة الفاضلة) محاولا التوفيق بين الشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية. هو فيلسوف عقلاني تأثر بمنطق أرسطو، يقول أن الله هو العقل الأول المبرأ من المادة وهو أزلي، وعن العقل الأول تفيض بقية العقول والكائنات ،عندما يفكر العقل الأول في ذاته يصبح اثنان عقل عاقل وعقل معقول، وهكذا فاضت السماء الأولى ليفيض عقل رابع فتنشأ الأفلاك ، ثم بعد العقل العاشر يفيض العقل الفعال (الإنسان) .هذه هي ميتافيزيقا الفارابي.؛ العقل الإنسان هو العقل الفعال الكلي المشترك بين البشر فيه قبس من الله.
يشبّه الفارابي المدينة الفاضلة بالبدن السليم الذي تعمل أعضاؤه بشكل صحيح. أما رئيس المدينة الفاضلة فهو القلب للبدن الذي تُشترط فيه صفات بدنية ونفسية وعقلية كاملة، كأن يكون ذكيا ناجحا حسن التفكير والاستنباط متواضعا زاهدا في ملذات الدنيا فهو بهذا يكون أقرب إلى العقل الفعال ، أي فيلسوفا، أما عن اهل المدينة ، فهم يحاكون رئيسهم ويتشبهون به في الحكمة والعلم والزهد والتقى. فأما المدينة الناقصة ، فيسودها الصراع ويقل فيها التعاون وتغلب الأنانية على أفرادها ، فهي في الضد من المدينة الفاضلة، يصفها الفارابي بالجاهلية التي لا يعرف أهلها الحقائق ، لذلك فهم يعيشون عيشة مادية حسية، وأما المدينة الفاسقة فهي التي عَرف أهلها الحق ولكنهم جانبوه. وهنالك المدينة الضالة التي ضل أهلها عن الحق . واخيرا هنالك المدينة المبدّلة التي كان أهلها فضلاء لكن تغيرت أحوالهم وتدنت صفاتهم. ثم يقول الفارابي أن جميع المدن المضادة تعلق أهلها بالمادة والشهوات والأنانية فكان مصيرهم إلى الإنحلال والزوال.
توماس مور:
محام وقائد سياسي عاش في عصر النهضة حيث كان الملوك والنبلاء طغاة لا ينفع معهم النصح. كان مور يائسا من الإصلاح مما الجأه إلى عالم الخيال في محاولة لإصلاح النفوس الطيبة في أرض البؤس. فكان كتابه ( يوتوبيا) بجزئين. يقول مور: لم يقدموا — يقصد النبلاء -شيئا لخير بلادهم فوجب عليهم أن يؤذوها فعليا إذ لم يتركوا أرضا للفلاحة وهدموا البيوت والمدن فكان الحاصل أن الخراف صارت تأكل البشر. يركز مور في الجزء الأول من ( يوتوبيا) على استحالة نصح الملوك بالقول: لما كان الملوك جميعهم مشبّعين منذ شبابهم بأفكار خاطئة ومصابين بها، فالمحتمل أن أي انسان يقترح اصلاحات سيجد نفسه منفيا.
يقول مور عندما استذكر في عقلي حالة الحكومات المزدهرة في أي مكان اليوم، فليكن الله في عوني ، فأنا لا أرى شيئا آخر غير مؤامرة الأغنياء الذين يسعون لتحقيق مصالحهم الخاصة تحت عنوان الدولة. و يقول انه ليعجب من سكان هذه المدينة الذين لا يعرفون عن المسيحية شيئا ، لكنهم توصلوا الى هذا المستوى الاخلاقي من السلوك من خلال عمليات نقاش عقلي عادي . ويقول ان
وحدةالمجتمع في المدينة الفاضلة هي الأسرة الأبوية.و ينصح الخطيبين قبل الزواج أن يرى أحدهما الآخر بدون ملابس لكشف العيوب
الكامنة لديهما ،وهو يسمح بالطلاق. . سكان المدينة كما يراهم توماس مور متساوون وليس بينهم خلافات أو بطالة لأنهم لا يعرفون الملكية الخاصة أو النقود فكل فرد يشترك بالزراعة لست ساعات، يأخذ كل انسان انتاجه إلى المخزن العام ويأخذ منه قدر حاجته، لا تعرف المدينة المجاعة، الدين حر في المدينة، فبوسع الإنسان أن يعبد الشمس اوالقمر على أن الإلحاد وانكار خلود الإنسان محرمان. معظم أفكار مور في المدينة الفاضلة تدعو إلى نظام شيوعي منذ ذلك الحين وهو ما أدى به إلى قطع رأسه... على أن الكنسية أعادت له اعتباره قديسا عام 1925 على يد البابا بيو الحادي عشر بإسم القديس توماس مور.
توماسو كامبانيلا:
راهب وفيلسوف ايطالي تعرض لمحاكمات عديدة بسبب مشاريعه الأخلاقية في 20 كتاب، لعل أهمها هو( مدينة الشمس،) نحا فيه منحى افلاطون وتوماس مور في الجمهورية ويوتوبيا. هو يعتبر الفلسفة تجديدا للضمير الإنساني بكل دلالتها الأخلاقية والدينية، قال ان الوجود السياسي يتمركز لديه حول ثلاثية فلسفيه: هي السلطة والحب والحكمة.
الدولة المثالية لديه هي الجمهورية التي تسيطر فيها التوعية على جميع عناصر الوجود الإجتماعي. يقول كامبانيلا أن الشعب دابة لها مخ مشوش غبي لا يعرف قوتها ، فهي تملك مابين الارض والسماء ولكنها لا تعرف ذلك ، ولا تعرف قوتها ثم تقف محملة بالخشب والحجارة تقودها يدان هزيلتان لطفل باللجام. أن رفسة واحدة تكفي لتحطيم القيد ولكن الدابة تخاف وتجبن وتفعل ما يطلبه الطفل ولا تدرك قدرتها على ارهابه، فهي تكبّل نفسها وتكمّم لسانها بيدها وتجلب على نفسها الموت مقابل دريهمات يتصدق بها الملوك عليها من خزائنها هي. يقول أن السياسة والأخلاق من نسيج واحد. كان كتاب كامبانيلا ، مدينة الشمس، مشروع اصلاح سياسي يصور العلاقة بين الحاكم والمحكوم. يقول فيه أن الأمن من القيم الأخلاقية التي ترتكز عليها المواطنة.
في المدينة ملك عادل اسمه الشمس يملك السيادة المطلقة. والسلطة السياسية موزعة فيها بين مجموعة من الهيئات، مجلس استشاري فيه وزير للقوة وللحرب والسياسة، وأمير للمعرفة والحكمة للعلوم والفنون، وامير للحب للشؤؤن الإجتماعية والأسرية ، مع جمعيتين تشريعيتين واحدة لرجال الدين والثانية للشعب وهي التي تقرر أمور السلم والحرب و تشريع القوانين.
حُكم كامبانلا بالسجن 27 عاما إلى أن حماه الملك لويس السادس عشر الفرنسي إلى أن مات 1629م .
خاتمة:
في هذه الوريقات اختزلت ما كٌتب عن أربعة كتب فلسفية حول المدينة الفاضلة ؛ جمهورية أفلاطون، وآراء حول المدينة الفاضلة، ويوتوبيا ومدينة الشمس . أستعرضها لمثقفي بلدي. ممن هم دون مستوى الفلاسفة لعل فيها فائدة.
—————————————————————————
* 1 Phlosophy Classics Tom Butler - Bowdon 50
* 2 الفصل العاشر من ( التجربة و الخطأ ) Trial & Error للمؤلف .
دار الحكمة - لندن 2018
والله من وراء القصد،،،
*سفير عراقي سابق